في يوم الخميس، الثاني من رجب عام 725 هجرياً (القرن الرابع عشر الميلادي)، بدأ أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المشهور باسم ابن بطوطة، رحلته العجيبة التي جاب فيها ديار الإسلام، يدفعه إليها تشوقه إلى رؤية الدنيا والناس، فقطع المسافة من المحيط الأطلسي غرباً إلى الهادي شرقاً، ومن حوض الفولجا وبحر قزوين وبلاد البلغار والترك شمالاً إلى أفريقيا جنوباً.

وهكذا ساح في بلاد المغرب العربي ومصر والشام والعراق، وطاف جزيرة العرب، فزار نجد والحجاز والبحرين وعمان وحضرموت واليمن، وزار ساحل أفريقيا الشرقي، وتجول في بلاد فارس والأناضول وأواسط آسيا وتركستان وحوض نهر الفولجا، والهند، وتنقل بين جزر الهند الشرقية، ورحل إلى جنوبي الصين، وحينما عاد إلى بلده المغرب قام برحلة قصيرة إلى الأندلس، ثم عاد إلى فاس، ليخترق بعدها الصحراء الكبرى متجهاً إلى ساحل أفريقيا الغربي، ليُقدر ما قطعه ما يزيد على 75 ألف ميل في تقدير، و120 ألف ميل في تقدير آخر.

كيف أدّى ابن بطوطة رحلته العجيبة، التي دامت نحو 25 عاماً ولم يكن بالثري، ولم يكن بتاجر يبيع ويشتري؟! كيف فعلها وقد خرج من بلده طنجة وليس معه إلا بضعة دنانير، ومع ذلك لم يشك العوز أو الضائقة المالية يوماً واحداً؟!

لقد تكفلت الأمة بتكاليف رحلته، وتولت شئونه الحياتية، بفضل ترابط أبنائها وتآخيهم، فلم يشعر ابن بطوطة يوماً أنه غريب في مكان ما بديار الإسلام، يجد في كل مكان يحل به من يؤويه ويقدم له الطعام والشراب والكساء، ويزوده بالمال، وأحياناً بالخيل.

الزوايا والتكايا في المحروسة

على طول رحلته، كان ابن بطوطة ينزل في الزوايا والتكايا والمدارس والرُّبُط المنتشرة في جميع ديار الإسلام، وفيها يجد رجال الخير، والطعام الوفير، والماء العذب، والمأوى الوثير، وفي أحيان كثيرة كان القائمون على أمر تلك الزوايا يعطون ابن السبيل شيئاً من المال والكسوة يعينه على استكمال رحلته.

[1]

الزوايا والتكايا والمدارس والربط شيّدها أبناء الأمة الخيرون، لإيواء وإطعام وكسوة عابري السبيل والفقراء والمحتاجين، لتقدم نموذجاً فريداً من العمل الخيري المُمتد، الذي لا يرتبط بحياة صاحبه، وإنما يعيش من بعده قروناً تلو القرون، بفضل فلسفة الوقف الإسلامي.

خلال مروره بالقاهرة يقول ابن بطوطة:

أمّا الزوايا فكثيرة، ويسمونها الخوانق. والأمراء بمصر (القاهرة) يتنافسون في بنائها، وكل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء وأكثرهم الأعاجم، وهم أهل أدب ومعرفة بطريقة التصوف، ولكل زاوية شيخ وحارس، وترتيب أمورهم عجيب. ومن عوائدهم في الطعام أنه يأتي خديم (خادم) الزاوية إلى الفقراء صباحاً فيعين له كل واحد ما يشتهيه من طعام، فإذا اجتمعوا للأكل جعلوا لكل إنسان خبزه ومرقه في إناء على حدة لا يشاركه فيه أحد، وطعامهم مرتان في اليوم، ولهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف، ومرتب شهري من ثلاثين درهماً للواحد في الشهر إلى عشرين، ولهم الحلاوة من السكر في كل ليلة جمعة، والصابون لغسل أثوابهم، والأجرة لدخول الحمام، والزيت للاستصباح، وهم أعزاب. وللمتزوجين زوايا على حدة، ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس والمبيت بالزاوية واجتماعهم بقبة الزاوية.

[2]

ويقدم ابن بطوطة صورة فريدة للتكافل بين أبناء الأمة، فيقول حينما يزور مدينة أسيوط:

وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب بـ«حاصل ما ثمَّ»، لقب شهر به (اشتهر به)، وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل، فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها فيعطيه ما قُدِّر له، فكان هذا القاضي إذا أتى الفقير يقول له «حاصل ما ثمَّ»، أي لم يبق من المال الحاصل شيء (يمكن أن يُطمع فيه)، فُلقب بذلك ولزمه.

[3]

أمّا معالجة الأدواء والحصول على الدواء فسهل ميسور، من خلال البيمارستانات (المشافي) التي شيّدها الأمراء والملوك والسلاطين في شتى ديار الإسلام، وقد أوقفوا عليها الأوقاف العظيمة. من هذه المشافي الجليلة بيمارستان قلاوون، وقد شيده السلطان المملوكي المنصور سيف الدين قلاوون (ت 689 هـ) (في شارع المعز حالياً)، وقد زاره ابن بطوطة وقال، إنه «يُعجِز الواصف عن محاسنه، وقد أعُد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر».

[4]

أوقف السلطان المنصور مشفاه على الغني والفقير، الحر والعبد، الذكر والأنثى، وقسمه إلى قاعات أو أقسام، منها قاعة للحميات، وقاعة للرمد، وقاعة للجرحى، وقاعة لمن به إسهال، وقاعة للنساء. وجعل لمن يبرأ من المرض ويخرج من المشفى كسوة، ومن مات جهزه وكفنه.

لم يكن مارستان قلاوون مشفى فقط، بل أيضاً كان مطبخاً لطهي الطعام للمرضي، ومعملاً لصناعة الأدوية والأشربة وتركيب المعاجين وغيرها، وأكاديمية طبية لتدريس الطب، إذ كان به وكما يقول المقريزي «مكان يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء درس طب»، وبجواره قبة للصلاة، ورتب بها درساً لتفسير القرآن، ومدرسة تُدرِّس المذاهب الفقهية الأربعة.

[5]

الأساس الإسلامي لعمل الخير

أقدم أبناء أمة الإسلام على إكرام الضيف وابن السبيل، ليس تفضلاً، وإنما تنفيذاً واتباعاً للهدي النبوي الذي يقول «منْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»، والهدي القرآني الذي يوصي بابن السبيل.

يقول تعالي في سورة التوبة:

«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»

وفي سورة الأسراء:

«وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً»

وفي سورة الروم:

«فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»

وفي سورة الحشر:

«مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»

من هذا التوجيه الإلهي والنبوي، حرصت الأمة على إقامة الزوايا والربط ودور الضيافة في كل مكان، فكان المسافر ينزل أي أرض، فيجد الزاوية أو الرباط، والمأكل والمشرب والكسوة، وإذا مرض، فهناك المشافي التي تعالج المرضي بالمجان.

نقتبس من كتاب ابن بطوطة هذه الفقرة التي توضح الدور الذي أدته فلسفة الوقف في تحقيق مفهوم الأخوة بين أبناء أمة الإسلام، فقد نزل ببلدة تدعى «قصطمونية» ببلاد الأناضول (تركيا حالياً) بالقرب من البحر الأسود، فيقول:

نزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى، هي أحسن زاوية رأيتها في تلك البلاد، بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى، يسمى فخر الدين، وجعل النظر فيها لولده، والإشراف لمن قام بالزاوية من الفقراء، وفوائد القرية وقف عليها، وبنى إزاء الزاوية حماماً للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شيء يلزمه (أي بالمجان)، وبنى سوقاً بالقرية ووقفه على المسجد الجامع، وعيّن من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يرد من الحرمين الشريفين، أو من الشام ومصر والعراق وخراسان وسواها: كسوة كاملة، ومائة درهم يوم قدومه، وثلاثمائة درهم يوم سفره، والنفقة أيام إقامته وهي: الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء، ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام.

[6]

أمة واحدة ودول متعددة

هذه اللوحة البديعة التي يُقدمها ابن بطوطة تبيّن الدور الحضاري الذي قام به الوقف في ربط أبناء أمة الإسلام، فلا يعاني فرد منها من الغربة أو الجوع في أي مكان نزل به.

صحيح أن عالم ديار الإسلام قد انقسم إلى عالم السياسة وعالم الأمة، إلا أن عالم أمة الإسلام لم يحفل بعالم السياسة وخلافاته وحروبه ومكائده ودسائسه، وبقي وحدة متماسكة.

رغم تعدد الدول بقيت ديار الإسلام مفتحة الأبواب أمام أبنائها، يجوبونها من شاطئ المحيط الهادي شرقاً إلى شواطئ المحيط الأطلسي غرباً، ومن سهول سيبيريا شمالاً إلى أعماق أفريقيا جنوباً.

لم تتمزق دار الإسلام إلى دور إلا على أيدي الغزاة الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، ليرسم ذئاب أوروبا على الخرائط الورقية خطوطاً بالطول والعرض، ثم يحوّلونها إلى أسوار وأسلاك شائكة تفصل، يقف عليها جنود مكفهري الوجه.

لو كان ابن بطوطة حياً اليوم، ما استطاع تجاوز الحدود الفاصلة ما بين المغرب والجزائر، إلا بعد جهد جهيد.

الأخيّة الفتيان

لنتابع الرحلة مع ابن بطوطة ببلاد الأناضول (تركيا):

ثم انصرفنا وبتنا ليلة بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه، عمّرها بعض الفتيان الأخيّة، ويُعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية، ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية.

[7]

منْ هم أولئك الفتيان الأخيّة الذي يتحدث عنهم الرحّالة العظيم؟

الجواب يقدمه ابن بطوطة نفسه فيقول تحت عنوان «ذكر الأخيّة الفتيان»:

واحد الأخيّة، أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية (التركية)، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظلمة، وقتل الشُّرط ومن لحق بهم من أهل الشر».

[8]

نظام الأخيّة الفتيان كان إذن تجسيداً عملياً لمفهوم الأخوة في الإسلام، فلا يشعر امرؤ من الأمة بأنه غريب في أي بقعة بديار الإسلام. ظهر أولئك الكرام الشجعان في بلاد الأناضول يتسابقون في ما بينهم في إكرام عابري السبيل.

يقص ابن بطوطة هذا الموقف الغريب الذي تعرّض له حينما زار مدينة لاذق (لوذيكية laodicaea)، وكان آنذاك لا يعرف اللسان التركي، فقد تنازع عليه رجال، «وطل بينهم النزاع حتى سل بعضهم السكاكين ونحن لا نعلم ما يقولون». (ربما تكون حكاية السكاكين من مبالغات ابن بطوطة)

خاف ابن بطوطة، وظن أن الرجال يريدون نهبه، «ثم بعث الله لنا رجلاً حاجاً يعرف اللسان العربي، فسألته عن مرادهم منّا، فقال: إنهم من الفتيان، وإن الذين سبقوا إلينا أولاً هم أصحاب الفتي أخي سنان، والآخرون أصحاب الفتي أخي طومان، وكل طائفة ترغب أن يكون نزولكم عندهم، فعجبنا من كرم نفوسهم».

«ثم وقع بينهم الصلح على المقارعة، فمن كانت قرعته نزلنا عنده أولاً، فوقعت قرعة أخيّ سنان، وبلغه ذلك، فأتى إلينا في جماعة من أصحابه فسلموا علينا ونزلنا بزاوية له، وأتى بأنواع الطعام، ثم ذهب بنا إلى الحمّام، ودخل معنا وتولى خدمتي بنفسه، وتولى أصحابه خدمة أصحابي، يخدم الثلاثة والأربعة الواحد منهم، ثم خرجنا من الحمّام فأتوا بطعام عظيم وحلواء وفاكهة كثيرة. وبعد الفراغ من الأكل، قرأ القرّاء آيات من الكتاب العزيز (القرآن)، ثم أخذوا في السماع والرقص، وأعلموا السلطان بخبرنا».

«فلما كان من الغد بعث (السلطان) في طلبنا بالعشي، فتوجهنا إليه. ثم عدنا إلى الزاوية فألفينا الأخي طومان وأصحابه في انتظارنا فذهبوا بنا إلى زاويتهم ففعلوا في الطعام والحمّام مثل أصحابهم وزادوا عليهم أن صبوا علينا من ماء الورد صبا. وأقمنا عندهم بالزاوية أياما».

[9]

وهكذا، يُكرِّم الأخيّة الفتيان ابن بطوطة ومن معه في كل قرية ومدينة ينزلون بها. يثني عليهم الرحالة المغربي وعلى كرمهم فيقول:

لله درّهم من طائفة ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم، وأعظم شفقتهم على الغريب، وألطفهم بالوارد، وأحبهم فيه وأجملهم احتفالاً بأمره! فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلا كقدومه على أحب أهله إليه. وبتنا تلك الليلة بحال رضية، ثم رحلنا بالغداة.

[10]

عاش أبناء الأمة متحابين مترابطين، يحثهم الإسلام على إكرام كل ضيف، فلا يشعر أحدهم بالغربة، وكيف يشعر بها وهو في بلاده وبين إخوانه؟!

بقي الأمر كذلك حتى تمزقت ديار الإسلام إلى دور، وأصاب داء العصبية العنصرية بعض أبناء الأمة، ثم نتحسر على أوروبا وقد برئت من داء القومية الضيقة، وأزالت ما بينها من حدود، وكنا نحن من قبلها أمة واحدة.


المراجع



  1. حسين مؤنس، ابن بطوطة ورحلاته: تحقيق ودراسة وتحليل، (القاهرة: دار المعارف، 1980)، ص 9.
  2. رحلة ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق عبد الهادي التازي، (الرباط: أكاديمية المملكة المغربية، 1417 هـ/ 1997)، ص 204. وتحقيق عبد الهادي التازي هو أفضل وأشمل التحقيقات لرحلة ابن بطوطة.
  3. رحلة ابن بطوطة، ص 226.
  4. ابن بطوطة، تحقيق عبد الهادي التازي، ص 203.
  5. أحمد عيسى، تاريخ البيمارستانات في الإسلام، الطبعة الثانية، (بيروت: دار الرائد العربي، 1981)، ص 83: 171. خطط المقريزي، مجلد 3، (القاهرة: دار التحرير للطبع والنشر) ص 386: 390.
  6. رحلة ابن بطوطة، ص 207.
  7. رحلة ابن بطوطة، ص 207- 208.
  8. رحلة ابن بطوطة، المجلد الثاني، ص 163.
  9. رحلة ابن بطوطة، المجلد الثاني، ص 169 – 170.
  10. رحلة ابن بطوطة، المجلد الثاني، ص 204.