شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 54 إيران، ذلك الجزء المجهول من الشرق الأوسط الذي لا نسمع عنه إلا نشرات الأخبار وفي كتب التاريخ أثناء ذكر الدولة الصفوية، لا يوجد بها أثر من عجائب الدنيا السبع مثلاً يقصده المسافرون من كل أنحاء العالم وتعلن شركات السياحة عن عروض لزيارته بأسعار زهيدة، في هذه الحالات لا يوجد سفير لمعرفة معلومات عن دولة مثل ذلك غير الدراما المتناقلة لنا عنها. الناس لم تعرف الدراما الإيرانية إلا في بدايات عام 2011 من قناة لبنانية تُدعى «المنار» قررت عرض مسلسل يدعى «يوسف الصديق» أثار وقتها ضجة كبيرة نظرًا لتجسيد شخصية «النبي يوسف» عليه السلام، تلك الضجة التي أفادت المسلسل تسويقيًا بالمناسبة. ومن بعد نجاح المسلسل اتجهت أنظار المشاهدين العرب إلى الدراما الإيرانية ربما لكسر الملل وتجريب مشاهدة شيء جديد، وربما لما لاقوه من براعة في الإخراج والتمثيل التي لم يتخيلوا أن يجدوها في بلد لا نعرف عنها شيئًا غير أخباره العسكرية والسياسية. في نفس العام أُنتج فيلم (separation) الذي لم يعرفه الجمهور إلا بعد ترشيحه لجائزة الأوسكار والجولدن جلوب في عام 2012 والفوز بهما كأول فيلم إيراني يشق طريقه للعالمية بنجاح مثل هذا، هذا النجاح الذي ينسبه الجميع لمخرج العمل «أصغر فرهادي». «أصغر فرهادي» هو مخرج ومؤلف إيراني من مواليد عام 1972، بدأ مسيرته الفنية بأفلام قصيرة ومسلسلات تليفزيونية، ثم بدأ في الإخراج السينمائي لأفلامه التي لا تتعدى الخمسة عشر فيلمًا بمجموع جوائز عنها جميعًا يتجاوز المائة جائزة من مهرجانات دولية عديدة. للأسف لا تحتوي المواقع الإلكترونية على كل رصيد فرهادي من الأفلام، ربما لمرور سنوات عديدة عليها وربما لأن وقت صدورها لم يكن فرهادي نال كل الشهرة الحالية فلم يهتم محبو الأفلام بترجمة أفلامه، ولكن يظل الحظ حليفنا قليلاً إذ منحنا أربعة أفلام مترجمة له وهي: (About Elly)، (Separation)، (The Past)، (The Salesman). تلك الأفلام التي ربما ستكون أروع ما شاهدت في حياتك، فهي ستأخدك إلى عالم السهل الممتنع الذي يجعلك تشاهد قصة عادية جدًا ولكن في إطار عمل غير عادي بالمرة يجعلك تجلس على أعصابك منتبهًا لكل تفصيل من تفاصيل الفيلم ومتلهف لمعرفة ما ستنتهي به تلك الحبكة التي غالبًا ما يليها حبكة أخرى في قصة بسيطة جدًا ربما تكون مررت بها يومًا، ولكنك لم تعرف أنها سيخرج منها كل هذه الدراما. يوجد حرق لبعض الأحداث للأسف. (mind-blowing) هو ذلك الأسلوب الذي يتبعه المخرجون والمؤلفون في أفلام الجريمة والإثارة حيث يجعلونك طوال الفيلم تشك في شخص معين أنه هو القاتل أو شرير هذا العمل لتفاجأ في نهاية الفيلم أنه شخص مختلف تمامًا وربما يكون الشخص الأودع الذي هو آخر ما تخيلت أنه يقوم بمثل هذا، أو غالبًا ما يكون تفسير لغز الفيلم كان من البداية أمام عينك ولكن المخرج كان يتعمد طمسه أو قطع الحقيقة بمهارات خفية ثم يجعلك تقف أمام الحقيقة كاملة ومفسرة وجهًا لوجه في آخر الفيلم، هذا بالضبط ما فعله أصغر فرهادي ولكن للمرة الأولى في أفلام اجتماعية ذات قصة بسيطة. فنجد على سبيل المثال في فيلم (About Elly) عندما اختفت البطلة انطلق باقي أبطال الفيلم للبحث عنها في كل مكان حتى أصبحت تنكشف لهم حقائق مختلفة عن أكاذيب البطلة حتى أنهم ظلوا يلعنون الصدفة التي جعلتهم يدعونها للخروج معهم في تلك النزهة ولم يهديهم تفكيرهم لحظة أنها ربما تكون قد غرقت بالفعل وأنها لم تقم بأي مؤامرة للهروب لكي تدع نار القلق تأكلهم فهي قد أغرقتها الأمواج بالفعل منذ اللحظة الأولى. أما في فيلم (Separation) فقد مكثنا طوال الفيلم ونحن شبه متأكدين أن البطل «نادر» هو من تسبب في إجهاض الخادمة وفي الواقع هناك فريق آخر كان يظن أن الخادمة كاذبة وكانت تتعمد ابتزاز الرجل وأنه ليس السبب في مقتل طفلها ليأتي “فرهادي كعادته ليحطم للفريقين ظنهما بمنتهى الذكاء، فنادر بالفعل لم يجهض الجنين والخادمة أيضًا لم تتعمد الكذب فهي قد رفضت أن تأخد أموال الدية ولم تقبل بأن تقسم على القرآن كذبًا. وفي فيلمه الأخير (The Salesman) الذي قام بتأليفه أيضًا وليس إخراجه وحسب، الذي نال هو الآخر أوسكار أحسن فيلم أجنبي الشهر الماضي، يظل «عماد» يلاحق الأدلة وراء الاعتداء على زوجته حتي يقتاده البحث إلى العثور على شاب تتجمع فيه كل الصفات التي تثبت أنه رقيع وجدير بفعل مثل هذا الجرم فيستدعي عماد والد خطيبة هذا الفتى ليحذره منه ليكتشف بالصدفة أن الفاعل هو ذلك العجوز نفسه الذي سيرجوه فيما بعد أن لا يفضحه أمام خطيب ابنته الذي يعتبره بمثابه والده. ذلك العجوز الذي سيجبرك فرهادي أن تتعاطف معه وربما ينتابك الشك للحظات أنه ليس الفاعل حتى يعود للتلاعب بك ليخبرك أنه هو الفاعل ولكنه أيضًا يستحق بعض الشفقة. أما في فيلمه (The Past) الذي هو إنتاج فرنسي إيراني مشترك يعطينا فرهادي كل المعطيات التي تجعلنا نلعن «ماري» الفرنسية الجنسية والزوجة السابقة لشخص إيراني الجنسية يُدعى «أحمد» التي لم تنفصل عنه بعد وسرعان ما ارتبطت بشاب عربي يُدعى «سمير» ومتزوج من سيدة ملازمة الفراش وقابعة في المستشفى ولديه ابن منها. كلها أسباب تكفي للعن تلك الماري التي تجري وراء شهواتها وحسب ولا تلتفت لابنتها التي ترفض علاقة والدتها بذلك الشاب ومتهمة والدتها بأنها مستغلة مرض زوجة سمير لصالحها حتى تبين لنا الأحداث أنها ليست السبب في مرض زوجة سمير، ولا سمير نفسه يتعمد خيانة زوجته فهو لا يفوت يوم دون زيارتها ولا ينفك يشعر بتأنيب الضمير لأن مشاعره تحركت لامرأة أخرى غير زوجته. تأنيب الضمير ذلك الذي يعصر «ماري» دائمًا نتيجة أخطائها مع «أحمد» زوجها الذي يحاول جاهدًا أن يعيد الثقة المتبادلة بينها وبين ابنتها التي ليست ابنته بالمناسبة على الرغم من كونهما على حافة الانفصال ولا توجد مشاعر تربطهما على الإطلاق خليط مشاعر إنسانية كما هو واضح، هدفه كله أن يوضح لك أن الصورة ليست كما تبدو لك وأن هناك ألف سبب خفي خلف هذا السبب الواضح أمام عينك، فتريث قليلاً قبل إطلاق الأحكام. النهايات المنطقية أصغر فرهادي أيضًا يعرف جيدًا كيف يتلاعب بعقلك ويفاجئك بنهاية مفاجئة نوعًا ما نسبة إلى التوقعات التي بنيتها طوال الفيلم. ففي فيلم (Separation) نجد أن «ياسمين» كانت دائمًا بجانب «نادر» في مشكلته مع الخادمة على الرغم من كون علاقتهما كانت متوترة وبينهما دعوة قضائية بالطلاق؛ مما جعل كل من يشاهد الفيلم يتوقع أن الجليد سيذوب ويعودان لبعضهما البعض في النهاية حتى يأتي آخر مشهد وابنتهما في المحكمة تقرر أمام القاضي مع من ستعيش بعد أن انفصل والدها ووالدتها. أما في فيلم (About Elly) فانتهى كما ذكرنا من قبل بغرق البطلة التي أرهقت كل طاقم الفيلم بالبحث عنها، لم يستسلم فرهادي بوضع أي نهاية وحسب ترضي المشاهد الذي تعاطف مع الشابة الجميلة ولم ينقذها من الغرق بحبكة من حبكاته التي تقلب الأحداث رأسًا على عقب ولكن المنطق والعقل يقول إنها قد غرقت من البداية فلا داعي لادعاء نهايات سعيدة تبدو مُبالغًا فيها. أما في فيلمه (The Salesman) فقد أنهى الفيلم بموت الجاني المسئول عن حادثة الاعتداء على «رنا» زوجة البطل. ورغم أن هذا الجاني الذي سيلقى تعاطف كل من شاهد الفيلم حتى داخل الفيلم قد لقي تعاطف المجني عليها نفسها وأعلنت لزوجها أنها قد سامحته، إلا أن النهاية المنطقية أيضًا تقول إن رجلاً في مثل هذا العمر لديه العديد من الأمراض تعرض لضغط عصبي ونفسي رهيب وضعه فيه زوج المجني عليها كنوع من الانتقام حتى عندما أدركته أسرته كان قد فات أوان الدواء ولم يعد يجدي نفعًا فبالتالي سيصاب بنوبة قلبية ويموت في الحال. نهايات قد تبدو غير مُرضية للمُشاهد ولكن في الحقيقة هي تجعلك تشعر بالرضا عن العمل الذي احترم ذكاءك ولم يتلاعب بالأحداث بسذاجة ليخرج لك نهاية سعيدة يعيش فيها الكل في تبات ونبات وحسب. البُعد الإنساني الإنسان بطبعه داخله تناقضات عدة، ولكن قليلة هي نوعية الأفلام التي تركز على الموازنة ما بين عيوب ومزايا الأبطال وعرض تناقضاتهم المتشابكة بسهولة وذكاء تجعلك لا تستطيع أن تحجمهم في قالب واحد. هذا هو ما تعمد «أصغر فرهادي» إبرازه في أفلامه طوال الوقت، فمن الممكن أن تجد هنا بطلاً في قمة انفعاله وعصبيته يستطيع أن يتصرف بإنسانية وتسامح مثلما فعل «نادر» عندما طلب من ابنة الخادمة الصغيرة ألا تخاف منه لأنه تشاجر مع والدتها، كما أنه أثناء المرافعة طلب من القاضي أن يعفو عن زوج الخادمة الذي بالأساس كان يسبه ويسب المحكمة ولكنه رأف لحاله بعدما قرر القاضي معاقبته، وهذا أيضًا ما فعلته «ياسمين» مع «نادر» ففي أوج خلافاتهما لم تتركه يواجه تهمة بالقتل لوحده، حتى الخادمة التي ظلت طوال الفيلم تتهم البطل بأنه قاتل ابنها تراجعت على الفور ورفضت القسم ما إن أحست أنها ظلمته. وفي فيلم (About Elly) ترى علاقة الصداقة الحميمة بين أربعة رجال وزوجاتهم كالأسرة الواحدة، حتى صديقهم الأعزب تتدخل زوجات أصدقائه لإيجاد العروسة المناسبة له كما لو كان أخاهم. وعندما تختفي الفتاة لم يتنصلوا من الأمر أو يقولوا وما شأننا ويعودون إلى بيتهم وحسب بل إنهم بذلوا قصارى جهدهم للبحث عنها والوصول لعائلتها رغم كذب الضحية في أشياء كثيرة أضرت بهم في رحلة البحث. وفي فيلم (The Past) فنرى «أحمد» الذي يحاول أن يعيد العلاقة بين طليقته وابنتها التي ليست ابنته أصلاً بشتى الطرق كما أنه يحاول أن يوطد العلاقة بين الابنة وذلك الطفل ابن صديق الأم، وليست محاولة منه في إظهار نوع من البطولة بل أنه يفعل ذلك بتلقائية نابعة من الرفق بحال صغيرين ليس لهم ذنب في ظروف آبائهم المعقدة. وحتى في فيلم (The Salesman) فقد سامحت «رنا» ذلك الرجل الذي ضربها وكان ينوي الاعتداء عليها، سامحته ما إن رأته رجلاً طاعنًا في السن ومريضًا ويتوسل إليها وهو يبكي، ورغم كل الالآم النفسية التي سببها لها الحادث والتي كانت ستدفع أي إنسان إلى الانتقام وقتها إلا أنها طلبت من زوجها أن يتركه وشأنه وأن لا يفضحه أمام عائلته. تلك المشاعر الإنسانية المختلطة التي تجعلك وكأنك تقف أمام أناس حقيقيين ليسوا مجرد قصص سينمائية يصعب رؤيتها في الحياة التي نعيشها، تلك الإنسانيات التي لا يتعمد الأبطال إظهارها كون أنهم أبطال يجب أن يظهروا بكل معاني النبل والشهامة بل تظهر في سياق العمل بعفوية وتلقائية تجعلك تشعر بمدى واقعية العمل وروعته. واقعية التفاصيل لو أي إنسان في محل مُخرج أصبحت أفلامه تسافر كافة المهرجانات الدولية لتدخّل في الواقع المعروض قليلاً، ربما عن طريق تجميله لتصدير صورة جميلة عن بلاده في المحافل الدولية وربما لتقبيحه حتى يثير الفيلم الجدل ويحقق انتشارًا وتوسعًا أكثر. أما «أصغر فرهادي» فلم يفعل ذلك ولم يتعمد تغيير الواقع في أدق التفاصيل لإرضاء أي أحد، فلم يغير من مظهر حجاب بطلات كل الأعمال التي أخرجها، فالواقع يقول إن الإيرانيات كلهن محجبات فلماذا أظهر غير ذلك. لم يتعمد تصوير أي مشاهد غير مناسبة للمشاهدة العائلية في العمل رغم أن الأفلام التي تترشح لجوائز الأوسكار غالبًا ما تعج بهذه المشاهد، ولكن الواقع يقول أيضًا إن المجتمع الذي خرج منه الفيلم لا يتقبل هذا فلا يجوز أن أزج به عن عمد لتزويد المشاهدات أو لربما للظفر بكلمتي مدح عن مدى جرأتي وتحدياتي تجاه تقاليد المجتمع. الجرأة الحقيقية صنعها بالفعل من خلال إخراجه المميز وطريقة طرحه لقضايا مجتمعه بلا خوف أو تردد، والتحدي صنعه أكثر من مرة في الظفر بجائزتي أوسكار إحداهما كانت تحديًا واضحًا ضد قرارات رئاسية عليا منعته هو وطاقم العمل من حضور حفل توزيع الجوائز والاحتفال بجائزته، فكان التحدي أنه فاز بها وهو جالس على مقعده الأثير في منزله. باختصار، «أصغر فرهادي» يمثل ساحر السيرك الذي يتقن ألعاب الخفة، فذلك الساحر يصنع حيلاً ذكية جدًا تجعل الحضور يشهقون انبهارًا من مجرد ورق كوتشينة بسيط مثل ما يفعله فرهادي عندما يحول أبسط الحكايات الاجتماعية إلى أعمال متكاملة الأركان تعج بالدراما والتشويق وبراعة الأداء، لا تمل من مشاهدتها وتنال الجوائز العالمية. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً طارق البشري: التكوين الفكري والثقافي حتى أنت يا ليستر! العائد إلى قسنطينة – قصة قصيرة تفاصيل منسية في زواج ساذج شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram راجية كمال الدين Follow Author المقالة السابقة تيموجين: الإمبراطور اليتيم جنكيز خان المقالة التالية 6 مرشحين يتنافسون على رئاسة إيران قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك إسرائيل وأخواتها: الصورة الكاملة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك عندما تغير عمر بن الخطاب 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك نقيق الضفادع — نصوص قصيرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك سيناريوهات صفقة القرن في عتمة الفراغ الاستراتيجي العربي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «برجوازي صغير»: الحلقة الرابعة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أصول النقد السينمائي (2-2) 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك اتحاد طلاب مصر والخيارات المحيرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك شيوخ رواق المغاربة وقصة مصرع الشيخ الفَزَّانِي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ماذا خسرنا بهزيمة كلينتون 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الدين كما أفهمه – البدايات 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.