في
عام 1284هـ/1867م توفيت السيدة «بمبا قادن» حرم أحمد طوسون ابن محمد علي باشا،
ووالدة عباس باشا الأول والي الديار المصرية. ويطلق عليها لقب «أم عباس». واسمها
التركي «بمبا قادن» يعني بالعربي «المرأة الوردية».

وتفيد
المعلومات القليلة المتوافرة عن سيرة حياة بمبا قادن، أنها كانت مواظبة على فعل الطاعات، ومسارعة إلى
الخيرات، ومحبة لتعليم البنين والبنات، وعطوفةً
على الفقراء والمساكين، ومحررةً لكثير من العبيد والإماء والأرقاء البيض والسود
والحُبُوش (نسبة إلى بلاد الحبشة)؛ حتى وصفها كاتب حجة وقفيتها أنها: «رابعة العدوية
الثانية في أداء مواسم العبادات، الفائزة بقصبات السبق في مضمار العفة والإحصان».

ولهذا الوصف ما يصدقه من واقع وقفيتها الضخمة، ومن مؤسساتها الخيرية المتنوعة؛ حيث تكفلت بنفقات عدد غير محدود من الفقراء والمساكين في أيام المواسم والأعياد، ووفرت مصروفات 19 مسجداً من مساجد مصر على مدار العام، ومولت ثلاث تكايا، ورفدت الحرمين الشريفين بخيرات سنوية، وقدمت مرتبات شهرية أشبه بمعاشات تقاعدية لـ150 من الذين خدموها ذكوراً وإناثاً، وعدد آخر من عتقائها البيض والسود والحبوش ذكوراً وإناثاً، وامتدت هذه المعاشات لأجيال من أولادهم وعقبهم ونسلهم.

أنشأت
بمبا قادن وقفيتها بموجب حجة محررة أمام محكمة الباب العالي بتاريخ 28 شعبان
1277هــ/11 مارس 1861م. وبدأت خيرات هذه الوقفية تصل لمستحقيها بعد سبع سنوات فقط
من إنشائها عقب وفاة بمبا قادن. وهذه الحجة مسجلة بسجل رقم37/قديم، برقم 2870
بسجلات وزارة الأوقاف المصرية.

ولما كانت بمبا قادن من نساء الأسرة العلوية الحاكمة، فقد حضر مجلس الإشهاد على وقفيتها عدد كبير من الشهود رفيعي المستوى؛ بلغ عددهم 38 شاهداً من ذوي المناصب العالية والمقامات الرفيعة آنذاك. كان في مقدمتهم كبار علماء الأزهر وشيوخه من المذاهب الحنفي والشافعي والمالكي، وكبار رجال الدولة من الحاشية الخديوية، وكبار الأغوات والمعتوقين الذين كانوا في خدمة أسرة محمد علي؛ وكأن أولئك الشهود كانوا بمثابة «مجلس شورى»، أو «برلمان مصغر» لصنع القرار في تلك المناسبة. وقد أسهم هذا المجلس أو البرلمان في تشريع الأحكام والشروط العامة والخاصة التي تضمنتها حجة هذه الوقفية.

وللأهمية
التاريخة نورد هنا قائمة أسماء وألقاب الشهود كاملة وهم: الشيخ محمد عليش مفتي
المالكية، والشيخ محمد العباسي المهدي مفتي الحنفية، والشيخ الدمنهوري الشافعي
الأزهري، والشيخ برهان الدين السقا الشافعي الأزهري، والشيخ نور الدين البقلي
الحنفي الأزهري، والشيخ شمس الدين الرافعي الحنفي الأزهري، والشيخ إسماعيل الحلبي
الحنفي مفتي ديوان عموم الأوقاف المصرية، والشيخ شهاب الدين أحمد كبوة المالكي
الأزهري، والشيخ مصطفى القرش الحنفي الأزهري، والشيخ حسن العدوي المالكي الأزهري،
والشيخ محمد الأشموني الشافعي الأزهري من أعيان أهل العلم والتدريس بالأزهر
الشريف، والشيخ محمد القطب الحنفي الأزهري المفتي بديوان عموم الأوقاف المصرية،
والشيخ مصطفى الصاوي الشافعي الأزهري، والشيخ سليمان الخلفاوي الحنفي الأزهري،
والشيخ أبو العلا الخلفاوي الحنفي الأزهري.

وعلي
أفندي البكري الصديقي الأشعري نقيب السادة الأشراف بمصر، والسيد محمد السادات،
والأمير صالح باشا معتوق الحاج عباس باشا الأول، ومحمد شكيب بك كتخداي سراي
الحلمية، وحافظ بك وكيل دائرة إسماعيل باشا (الخديو فيما بعد)، ومحمد وهب بك كتخدا
سعادة الوزير محمد عبد الحليم باشا، ومحمد نيازي بك وكيل دائرة مصطفى باشا، ومحمود
بك ميرالآي، وكامل بك، وعثمان بك وكيل دائرة خانم أفندي بمبا قادن بالأزبكية،
وسليم أفندي وكيل الدائرة بالسراي البحرية، وإبراهيم أدهم أفندي وكيل الدائرة
الإلهامية.

وأحمد
ناجح الإسلامبولي، والسيد الشريف حسين الرفاعي شاه بندر التجار بمصر، وحسن أفندي
مأمور مشتروات دائرة إسماعيل باشا(الخديو فيما بعد)، ومحبوب أغا بن عبد الله
الحبشي أغا الأغوات معتوق محمد علي باشا، ونصر الله أغا لا لا وأغا حرم إسماعيل
باشا (الخديو فيما بعد)، وبشير أغا حرم الوزير مصطفى باشا، وعنبر أغا باش آغاي حرم
ومعتوق إبراهيم باشا والي مصر، وسعيد أغا الحبشي معتوق محمد أفندي أمين، والحاج
عنبر أغا باش أغاي السراي البحرية. وجوهر أغا باش أغاي سراي العباسية سابقاً،
ومعتوق محمد سعيد أفندي كتخداي إبراهيم باشا وناظر الأوقاف المصرية، الأمير مصطفى
باشا الجريدلي محافظ مصر ووكيل بمبا قادن.

وحجة
هذه الوقفية التاريخية مكتوبة بأسلوب فصيح في أغلبها، ومنسوخة بخطٍ واضح وجميل.
وجاء ما تضمنته، من شروط وقفية وأحكام فقهية، محكم الصياغة، دقيق العبارة، يفصحُ
مضمونه عن أثر العلماء والوجهاء الذين شاركوا في شورى مجلس الإشهاد السابق ذكره.
وهذا لا يعني أن قراءتها سهلة أو ميسورة؛ إذ لا تخلو هذه الحجة من التعقيد
والتركيب في مواضع كثيرة منها. وهي تقع في مائة صفحة من القطع الكبير. وينم مطلعها
عن معانٍ إيمانية راقية، ويفصح عن توجه إلى الله تعالى، ويلهج بالدعاء رغباً
ورهباً ورجاءً، ومما جاء في هذا النص:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنار السبيلَ، وأوضح الدليلَ، ووفق من شاء من عباده للوقف، ومنحهم الوفا، وجعل من شاء من عباده من أهل الصدقة والوفا، ونوَّر قلوب مخلوقاته بأنوار العرفان، وكشف عن أبصارهم بفعل الخيرات حتى نظروا إلى الدنيا الدنية بعين الهوان، وعلموا أن كل من عليها فان، ووجهوا وجهة همهم إلى جانب الملك المنان، فعاملهم بالجود والفضل والامتنان… وبعد: فإنه لا يخفى على كلِّ عاقل ذكي، وفطنٍ ألمعي، أن الدنيا ونعيمها ظل زايل، وضيف راحل، ونجم آفل، ومنزل سافل، تضمحل بعد أيام قلائل، لا يركن إليها إلا جاهل، ولا يغتر بها إلا غافل… (وقد) قال صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن أولياء الله قال: الذين نظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر غيرهم إلى ظاهرها، واهتموا لآجلها حين اهتم الناس لعاجلها، لكونها مئوى الرزايا ونادي البلايا. لكنها مع معايبها ونوائبها المذكورة مزرعة للآخرة، ومقام اكتساب السعادة الباهرة، وكما ورد عن سيد البشر: «ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة والآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه».

ثم
سرد كاتبُ الحجةِ أسماءَ شهود عقد الوقف السابق ذكرهم. ثم أثبت الأعيان الموقوفة،
وجملتها 12 سهماً، و13 قيراطاً، و4262 فداناً. إضافة إلى قصر المنيل وملحقاته. وقد
ورد وصف هذه الأعيان بتفاصيلها، مع بيان مصادر تملكها وتسلسل ملكيتها، وموجزها هو
الآتي:

  1. جميع القصر المستجد الإنشاء والعمارة، إنشاء وتجديد الحاج عباس باشا الأول بمنيل الروضة، بالجانب الشرقي بشاطئ النيل المبارك، المقابل لفم الخليج الحاكمي، المعروف سابقاً بإنشاء إسماعيل باشا مدير داوري بثغر الإسكندرية، البائع لأصل ذلك المشتمل بعد إنشائه وتجديده بدلالة حجة التبايع الشرعية المسطرة من محكمة القسمة العسكرية، بمصر، المؤرخ في 23 ذي الحجة 1271هــ. ثم أوردت الحجة وصفاً تفصيليا دقيقاً لقصر المنيل ومكوناته العمرانية والمعمارية؛ كأنك وأنت تقرؤه تتجول في أنحائه، وتتمتع بمناظره وجمالياته الخلابة.
  2. جميع كامل الرزقة الجفلك بلا مال إلى ما شاء الله التي عبرتها 7 قراريط، و2769 فداناً، وحبتان من فدان. ما هو منها معمور 12 سهماً وقيراط واحد و2681 فداناً، وما هو بور صالح 14 قيراطاً و87 فداناً، وحبة من فدان. وذلك مما جملته 12 قيراطاً و3520 فداناً بعد المستبعدات التي لم تزرع، ورزقة جامع الناحية وقدرها 4 أسهم، و4 قراريط و751 فداناً بنواحٍ متعددة بمديريات وسط الدلتا، وجهات أخرى في مديرية القليوبية.

واشتملت تلك الموقوفات على منشآت أخرى
مثل: المخازن، والمكابس، والدواوير، والآلات الزراعية، والأشجار، والمنازل،
والمواشي من: البقر، والجاموس، والجمال، والحمير، والبغال، والخيول، والأغنام.

وقد أنشأت بمبا قادن هذه الوقفية للصرف
من ريعها على نفسها أيام حياتها… تنتفع بذلك وبما شاءت منه بالسكن والإسكان،
والغلة والاستغلال، والزرع والزراعة، والأجرة والإجارة، وبسائر وجوه الانتفاعات
الشرعية الوقفية أبداً ما عاشت، ودائماً ما بقيت من غير مشارك لها في ذلك ولا
منازع، ولا رافع ليدها عن ذلك ولا مدافع، ثم من بعد انتقالها إلى دار الكرامة،
ومحل النعيم وموطن السلامة، يكون ذلك وقفاً على ما يبين فيه (أي: في حجة هذه
الوقفية).

وقد توفيت الواقفة بمبا قادن في سنة
1284هـ/1867م، أي بعد سبع سنوات من إنشائها هذه الوقفية كما أسلفنا. وآل صرف الريع
بعد وفاتها مباشرة إلى جهات البر والخيرات التي نصت عليها في حجة الوقفية: إما في
صورة مرتبات نقدية سنوية وشهرية لمن عينتهم وأثبتت أسماءهم بحجة الوقف، وكانوا
بأعداد كبيرة، أو في صورة مواد غذائية عينية كانت تُجهز وتوزع في المواعيد التي
حددتها الواقفة، وهي عبارة عن: شُريْك (بضم الشين، وتسكين الياء: وهو نوع من
المعجنات يكون حلوا بالسكر والعسل، ومالحا بالبهارات والملح، ويعمل بالزيت
والسمسم. يشبهه اليوم «الكرواسون»!، وتوجد منه أنواع: شريك تركي، ومصري، ومغربي،
وحجازي، وشريك المدينة المنورة…).

وإلى جانب الشريك، هناك أيضاً: كعكٌ،
وخبزٌ، وما يلزم ذلك كله من القمح والسمن المسلي والعسل الأبيض والسكر. إضافة إلى
لحم الضأن، ولحم العجل الفحل الجاموس، للتفرقة على عشرات القراء والفقراء
والمساكين في المواسم التي حددتها الواقفة. وثمة مواد أخرى وفرتها الوقفية وهي من
لوازم المساجد التي حددتها الواقفة والمدفن الخاص بها وبأسرتها بالقرافة الكبرى
قرب مسجد سيدي أبي يوسف العفيفي بالقاهرة، ومجالس الذكر وقراءة القرآن في عدد من
المساجد، وكانت عبارة عن: بن قهوة، وسكر، ومياه، وجلود لمزملة حفظ المياه، سلب
وحبال ودلاء خشبية لجلب المياه، وأباريق، وقلل فخار، وحصر سبَّاعي، وسيرج زيت
للإضاة، وفحم للتدفئة وعمل القهوة، ومقشات أرز وشعشاع للكنس والتنظيف، وشمع
إسكندراني لإضاءة المساجد والتكايا ومجالس الذكر، وخوص وريحان وورود توضع على مدافن
الأسرة في المواسم والأعياد وأيام الجمعة.

وشملت تلك الجهات أيضاً -وحسب ترتيب
استحقاقها من ريع الوقفية- 19 مسجداً هي: مسجد الإمام الحسين، ومسجد السيدة زينب،
ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد السيدة سكينة، ومسجد فاطمة النبوية، ومسجد السيدة رقية،
ومسجد الإمام الشافعي، ومسجد الإمام الليث بن سعد، ومسجد شمس الدين الحنفي، ومسجد
الإمام الشعراني، ومسجد الشيخ درويش العشماوي، ومسجد سيدي عبد الله البلتاجي،
ومسجد ناحية باسوس، ومسجد ناحية أبو الغيط، ومسجد ناحية أخمين، ومسجد ناحية
الحسانية، ومسجد ناحية شلقان، ومسجد ناحية قها، وزاوية بناحية قها أيضاً. وثلاث
تكايا بمصر المحروسة هي: تكية عباس باشا بخط ضلع السمكة، وتكية درب قرمز بخط بين
القصرين، وتكية السيدة رقية بخط الخليفة بالقرب من باب القرافة، إضافة إلى ما يؤول
من ريع الوقفية للحرمين الشريفين، ولطلبة العلم والمدرسين بالجامع الأزهر. ولحوشٍ
به مدافن الواقفة وأسرتها، وتفرق فيه الخيرات في ثلاثة مواسم هي: أول جمعة من شهر
رجب، واليومان الأول والثاني من عيد الفطر، ويوم وقفة عرفات ويوم عيد الأضحى.

وما خصصته بمبا قادن للمساجد المذكورة -وهي
في أغلبها مساجد لآل البيت أو لأولياء الله الصالحين- جعلتْه في صورة مرتبات شهرية
للإمام والمؤذن والفراش وغيرهم من خُدَّام كل مسجد ومقيمي شعائره، كما جعلته لعمل
الخبز وتنفيذ المرمات والعمارات اللازمة حتى تكون تلك المساجد مهيأة لإقامة الصلاة
وقراءة القرآن، والقراءة في صحيح البخاري، وبعض الأدعية والأذكار على الدوام
والاستمرار.

وطبقاً للبيانات الواردة في حجة الوقفية: بلغت تكلفة إعداد الخبز لقراء المساجد التسعة الأولى المذكورة 5.416 قرشاً في السنة، كانت توفر 43.345 رغيفاً في السنة، وكانت توزع بأنصبة محددة على تلك المساجد. وكأن الواقفة رحمها الله، أرادت، أو قصدت، خدمة ركنين من أركان الإسلام الخمسة وهما: ركن شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وركن الصلاة المكتوبة، وهما من أركان الإسلام الخمسة، وكذلك خدمة الأصلين الأصيلين للإسلام وهما: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وهما اللذان قال عنهما الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الذي رواه مسلم: «تركت فيك ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله، وسنتي».

وشملت خيرات الوقفية من المرتبات
النقدية، والمساعدات العينية، عدة فئات اجتماعية، في مقدمتها: الفقراء والمساكين،
وقراء القرآن الكريم بالمقارئ الكبرى التي كانت تنعقد على مدار أيام الأسبوع
بالتناوب بين أغلب المساجد المشار إليها، وقراء صحيح البخاري وقراء دلائل الخيرات (أدعية
مأثورة)، وطلبة العلم والمدرسين بالجامع الأزهر. كما شملت فئات من الطبقات الراقية
من سيدات وهوانم الأسرة العلوية وحواشيها، وبخاصة نساء عباس باشا الأول ومعتوقاته
وعتقاء ابنه إبراهيم إلهامي باشا وبنات ابنه هذا، إلى جانب معتوقات الواقفة من
النساء البيض والسمر والحبوش، ومعاتيقها ومعاتيق بعض نساء الحاشية من الرجال
والنساء أيضاً.

ونظراً لأن الصرف على مدفن الواقفة
وأعضاء أسرتها كان له أولوية متقدمة عندها، فإنها اشترطت أن يكون صرف المبالغ
المعينة للصرف لعمل الشريك والكعك والخبز في المواسم الثلاثة التي حددتها بيد من
وصفتها حجة الوقفية بأنها «فخر المخدرات خديجة الشريفة، مرضعة الحاج عباس باشا
الأول»، ثم من بعدها يكون الصرف بيد عدد من معتوقاتها ومعتوقات عباس باشا الأول،
لتصرفه كل واحدة منهن بدورها في عمل وتجهيز ما ذُكر وعُين صرفه في الثلاثة مواسم.
والملاحظ هنا هو أنها قد جعلت مسئولية تنفيذ هذا كله بيد سلسلة من النساء دون
الرجال؛ بحيث تستلم اللاحقة منهن المسؤولية من السابقة عليها. ويكون ذلك برأيها
مدة حياتها، يصرف ذلك بحسب الأسعار والأزمان، بحيث إن كان ما يصرف يعمل به أزيد ما
عين فعله، فلها أن تزيد فيه، وإن لم يف فيُشترى به بحسب الأسعار حين ذاك.

وبحسب ترتيب الحجة، كانت الست خديجة مرضعة عباس باشا هي أولى المسئولات، ثم خلفتها الست مهويش قادن معتوقة الحاج عباس، وهي والدة إبراهيم إلهامي باشا، وهي من تولت المسئولية مدة حياتها بعد خديجة الشريفة، ثم من بعدها انتقلت المسئولية للست هواي المعروفة بوالدة صديق بيك معتوقة الحاج عباس، ثم من بعدها للست شاذديل بنت عبد الله البيضا معتوقة الحاج عباس أيضاً، المعروفة بوالدة عائشة هانم، ثم من بعدها للست زنكي كول البيضا معتوقة الواقفة، المعروفة بحرم حسين بيك، ثم من بعدها للست زيبة البيضا معتوقة الواقفة، ثم من بعدها يكون ذلك للأرشد فالأرشد من معتوقات الواقفة، الإناث. وإن استوت اثنتان في الأرشدية، أو أكثر تُقدم الأسن منهن حين ذاك. فإن لم يكن لها معتوقات حينذاك، أو كان موجوداً لها من لا توصف بالأرشيدية، فلمن يعينه الناظر على ذلك بحسب ما يراه ويؤديه إليه اجتهاده.

ولكي تُعطرَ المكان الذي يصنع في الشريك والكعك والخبز برحيق القرآن الكريم وتلاوة الذكر الحكيم، فإن الواقفة خصَّصت في كل سنة: للشيخ محمد بغدادي، والشيخ حسن سنبل، والشيخ يوسف إبراهيم، والشيخ حنفي يونس، والشيخ عبد الواحد رمضان، والشيخ حسن البنهاوي، والشيخ يوسف الصفتي بالسوية بينهم مبلغ 10500 قرش، لكل واحد منهم في كل شهر 125 قرشاً، نظير قراءتهم في كل يوم خميس ختمة شريفة بمنزل من تكون متولية عمل وتجهيز الكعك والشريك والخبز وغيره، ثم بمنزل من تلي وظيفتها، ونظير قراءتهم ختمة شريفة في كل يوم جمعة على تربة حضرة الواقفة المشار إليها الكائنة بالقرافة الكبرى، ويهدون ثواب ذلك زيادة في شرف النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أرواح الصحابة والقرابة والتابعين والأئمة الأربعة المجتهدين ومقلديهم، ثم إلى روح حضرة الواقفة وأرواح من تناسل منها، ومن مضى من أموات المسلمين.

ونال الحَرمَان الشريفان بمكة المكرمة والمدينة المنورة نصيباً معتبراً من خيرات بمبا قادن، فقد خصصت «للمكرم سليمان أبي الفرج الزمزمي بالحرم المكي، نظير تسبيله ماء من ماء زمزم في كل يوم بالحرم المكي الشار إليه صدقة على روح الواقفة وأرواح أموات المسلمين لتنال الواقفة ثواب ذلك، مبلغ 1200 قرش في كل سنة». وخصصت «للمكرم عبد الرحيم قمقم وأخويه، المطوف بالحرم المكي، بالسوية بينهم 400 قرش في كل سنة». وزادت على ذلك ما خصصته في كل سنة لأربعة من العلماء العاملين يقرؤون ما تيسر لهم قراءته من كتاب متن صحيح البخاري في كل يوم بالحرم المدني 2300 قرش بالسوية بينهم، لكل واحد منهم 700 قرش. وما يصرف في كل سنة لخمسة يقرؤون كتاب دلائل الخيرات في كل يوم بالحرم المدني سوية بينهم مبلغ 2000 قرش، لكل واحد منهم 400 قرش. وما يصرف في كل سنة لأربعة عشر من حملة كتاب الله تعالى، يقرؤون ختمة شريفة كل يوم بالحرم المدني، سوية بينهم 4900 قرش، لكل واحد منهم 350 قرشاً. وما يصرف سنوياً للمكرم أحمد حجي المدني، وكيل الفراشة بالحرم المدني، نظير ملاحظته وخدمته للقراء المذكورين بالحرم المدني، مبلغ 1100 قرشٍ.

ولأم عباس، منشآت خيرية أخرى لا تزال
قائمة إلى اليوم منها: مدرسة بنبا قادن وهي أقدم مدارس لتعليم البنات في مصر،
ومدارس بنبا قادن الثانوية والصناعية للبنين أيضاً في منطقة السيدة زينب والخليفة
بالقاهرة. وهي مشيدة على أفخم طراز وأجمله، وأرضها مفروشة بالمرمر، وسقوفها منقوشة
بالنقوش المذهبة، وفي أعلى المدرسة من الخارج إطار كتبت عليه آيات قرآنية كتبها
أشهر الخطاطين في زمنه، وفي هذه المدرسة تعلم كثيرون من أعلام مصر، منهم على سبيل
المثال: أحمد أمين، الذي سجل في قصة حياته جانباً من ذكرياته في تلك المدرسة أيام
طفولته.

ومن مؤسساتها الخيرية أيضاً: سبيل أم
عباس الذي يقع عند تقاطع شارع الركبية وشارع السيوفية مع شارع الصليبة أمام حمام
الأمير شيخو بالقاهرة. وهو معدود من الآثار التاريخية، وقد تم تخطيط حجرته على شكل
مثمّن، ويغطي الحجرة قبة مثمّنة الأضلاع بدون منطقة انتقال، والواجهة مكسوة
بالرخام وزخارفها من طراز الباروك والركوكو. وقد
كتب الخطاط العثماني الشهير «زهدي» في الشريط العلوي للسبيل سورة الفتح بأكملها،
ومهرها بتوقيعه الشخصي. أما بقية النقوش على واجهة السبيل فتحوي آيات من القرآن
الكريم ذات صلة بوظيفة السبيل. وكان هذا الخطاط
ذائع الصيت يتلقى راتباً شهرياً مدى حياته بأمر من السلطان عبد المجيد الأول وقدره
7500 قرش، بعد قيامه بتنفيذ الكتابات التي ازدانت بها الأعمال المعمارية والتوسعات
التي أمر بها السلطان العثماني في الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة.

وقد خُصص سبيل أم عباس لتوزيع مياه الشرب النقية على المارة طلباً للثواب واستجلاباً للدعاء. وألحقت به السيدة بنبا كُتَّاباً أو مكتباً عينت به معلمين لتعليم الأطفال القرآن والعلوم الحديثة، كما في المدارس الحكومية على عهد الخديو إسماعيل. وكان هذا السبيل يوفر مياه الشرب للمارة، وأيضاً للبيوت التي لا يقدر أصحابها على تحمل أجور السقاءين بحسب ما أورده علي مبارك في «الخطط التوفيقية».

تلك لمحات إجمالية عن وقفية الست بمبا
قادن أم عباس من واقع حجة وقفيتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نص هذه الحجة يشترك
مع بقية نصوص وقفيات أعضاء تلك الأسرة في أمر مهم وهو: وضوح الرؤية العالمية
الشاملة، واستيعاب التنوعات الثقافية والعرقية والدينية في عباءة الرؤية
الإسلامية، تماماً كما لو كانت كل وقفية من وقفياتهم، عبارة صورة مصغرة للتعايش
بين الأعراق والأجناس والثقافات والديانات في ظل الدولة العثمانية.

ولا تزال ملفات وقفية بمبا قادن ووثائقها تختزن كثيراً من المعلومات
التاريخية التي تغطي جوانب واسعة من حياة المجتمع المصري في الثلث الأخير من القرن
الثالث عشر الهجري/ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وهي معلومات غير
مطروقة حتى الآن في الكتابات التاريخية، لقصورٍ في مناهج المؤرخين الذي تخصصوا في
تاريخ مصر الحديث والمعاصر؛ حيث أنهم -في أغلبيتهم- قد استبعدوا وثائق الوقف
عموماً من مصادر دراساتهم التاريخية، أو لأنهم غفلوا عنها، أو للأمرين معاً.