يمكن النظر إلى

باولو فريري

باعتباره أحد أهم خبراء التربية في القرن العشرين. فما بين الحبس والنفي إلى تشيلي
وجنيف، فإنَّه استطاع أن يبلور ما يُعْرَف بـ «التربية النقدية» التي تسعى للنظر
إلى التربية باعتبارها ممارسة للحرية. وساهم في الكثير من الحركات الاجتماعية المنادية
بحق التعليم وحق القضاء على الأمية في البرازيل.

ولأن أفكاره كانت غير تقليدية حول التعليم، فإن نظرياته وكُتبه لم تؤثر على مستوى البرازيل وحدها، بل امتدت لتشمل قارات أخرى. ومن أهم كتبه «تربية المضطهدين» الذي بيع منه ملايين النسخ. ولا يوجد أي مفكر في أمريكا الشمالية منذ ثمانينيات القرن العشرين قد استطاع أن يضاهيه في شجاعته الأخلاقية ولا إحكامه النظري، ولا إبداعه في خلق بيئة جديدة للتعليم والتربية.

ومن هنا ينطلق السؤال الذي يعنى هذا المقال بالإجابة عنه: «كيف استطاع المفكر باولو فريري أن يُساهم في تطوير نظرية التعليم والتأكيد عليه كحق من حقوق الانسان؟»

نشأة صعبة ومسيرة حافة

وُلِدَ عام 1921 في مدينة رسيف بالبرازيل، وهي من أفقر المناطق في البلاد. ومنذ صغره، تأثر بوالده -الضابط في الشرطة العسكرية- الذي كان يُعامل أبناءه بتوازنٍ بين السلطة والتفهم. وقد تلقى تعليمه على يد والدته بالأسلوب الكاثوليكي التقليدي، وكان شغوفًا بتعليم فقراء منطقته. وعلى الرغم من إسهاماته الضخمة في التعليم، إلا أنه يُصنَّف طالبًا متوسطًا. فقد تعرقلت دراسته في كلية الحقوق كثيرًا بسبب ظروفه المادية المتعثرة، خاصة وأنه كان يعمل لينال قوت يومه ولينفق على أسرته. وقد عمل في مدارس المرحلة الثانوية في البرازيل كمعلم للغة البرتغالية لفترة من الوقت

بجانب عمله كمحامٍ لاتحاد العمَّال

، وإعطائه للمحاضرات بشأن بعض المسائل القانونية لأعضاء الاتحاد.

ويمكن التمييز بين مراحل ثلاثة مختلفة من حياته. فأمّا الأولى، فهي تخص عمله في البرازيل حيث عمل في عدد من المنظمات الخاصة والعامة ربط خلالها بين الثقافة وبين تعليم القراءة والكتابة للبالغين. وهذه المرحلة انقطعت بالانقلاب العسكري البرازيلي في عام 1964. والثانية بدأت مع نفيه في بوليفيا، وتشيلي، والولايات المتحدة الأمريكية، وجنيف. في هذه المرحلة، بدأ التطبيق الأوسع لفلسفته وترسيخ أسس شهرته العالمية، حيث عمل كمستشار في حملة للقضاء على الأمية في العديد من الدول، خاصة التي كانت تناضل من أجل الاستقلال من الاستعمار. والمرحلة الثالثة بدأت مع عودته إلى البرازيل. واتسمت بعمله كمدرس في العديد من الجامعات، وأخيرًا كوزير التعليم في ساو باولو في الفترة (1989-1991).

ويمكن تقسيم

سيرته الذاتية إلى أربع لحظات
فارقة

. الأولى تتعلق بأعماله المبكرة في البرازيل وهما كتابا: «التعليم:
ممارسة الحرية» (1973)، و«تربية المضطهدين» (1970) والذي يمكن النظر إليه باعتباره
مؤسس فكر فريري.

والثانية هي مرحلة الكتب المنطوقة حيث تم تأليفها من قبل
مفكرين آخرين والتي أنشئت على هيئة «حوارية» كما ميلز هارتون، إيفان إيليش وموزير
جاتودي وغيرهم.

والثالثة، هي فترة الكتب التي حدَّث فيها باولو فرير
أفكاره كما «تربية الأمل» (1994) و«تربية المدينة» (1993).

والأخيرة هي مرحلة كتبه التي ألّفها بالاتصال مع تجارب
خاصة كما «التربية الجارية» (1978) بالاتصال مع عمله كمستشار في غينيا بيساو، و«امتداد
أم تواصل» (1973) الذي استوحاه من تجربته في تشيلي.

أهم مفاهيم فلسفة «باولو فريري»

تقوم
فلسفته على مسألة «التربية النقدية» وترتكز على مجموعة من المفاهيم يمكن استخلاصها
من كتابه الشهير «تعليم المقهورين»:

1. القاهرون/المقهورون

يؤمن فرير بأن

المجتمعات المضطهدة حول العالم
محبوسة

في «ثقافة الصمت» التي جعلتهم سلبيين ومعدومي القوة، غير قادرين
على «تسمية» واقعهم ولا تغييره. وتأثرًا بماركس، قسَّم فريري الواقع الاجتماعي إلى
القاهرين والمقهورين. إلا أنه اختلف عن ماركس في أنه لا يؤمن أن على الشخص
المضطهِد أن يتدمر في عملية الصراع.

وفى فصله الأول من الكتاب، فإنَّه يشدد على أنَّ عملية التحرير تأتي من المقهورين لهم ولقاهريهم، لأنَّ الكفاح من الضعيف يكون أبلغ تأثيرًا من كفاح القوي لإزالة الظلم ولاستعادة إنسانيتهم ولفهم خطورة العالم القهري. وعملية التحرير يعرقلها «الخوف من الحرية» الذي يجعل المقهورين إما يستحبون لعب القهر على الأضعف منهم، أو يرتضون حال المقهور باعتقاد ألا بديل عنه.

وفريري يقدم ما يُسمى بـ «تعليم المقهورين» حيث يُلقي على الشعوب والأفراد المقهورين دروسًا في استعادة إنسانيتهم. وعلى حدِّ قوله «إن تعليم المقهورين لهي أداة من أجل الاكتشاف النقدي أن كلا من المقهورين والقاهرين ليسا سوى ظاهرة للا إنسانية».[1]

2. الفعل/الانعكاس/الفعل

ليس من الكافي الحوار للحصول على

المعرفة حول الحقائق الاجتماعية

. بل لابد من أن يتصرف الأفراد بشأن بيئتهم حتى يعكسوا تأثيرهم عليها ويحوّلوها من خلال التصرفات والانعكاسات النقدية. فمن خلال هذا الانعكاس التحاوري، لسوف يكون لدى البشر المقدرة على الحصول على بعض المسافة النقدية بعيدًا عن ظروفهم، ويصنعون تحليلًا نقديًا للواقع، ويتعّرفون على كيفية تغييره ويتأكدون أن خرافات الخطابات المهيمنة ما هي إلا أدوات لقهرهم وتهميشهم.

وبالتالي، على التعليم أن يكون خير وسيلة تقدم العون للأفراد في حربهم للانتقال من مجرد النقد إلى الفعل التحويلي[2]. وفي كتابه يقول: «كلما كشفت الحشود الحقيقة التي يمكن تحديها والتي هي أساس فعلهم التحويلي، كلما أصبحوا جزءًا من هذه الحقيقة بشكلٍ نقدي».[3]

3. تعليم المقهورين

يرى باولو فريري أن هذه العملية إنسانية وتحريرية تمر على مرحلتين رئيسيتين: الأولى يتعرّف المقهور على عالم القهر الذي يحياه، ومن خلال «التمرين على الفعل ورد الفعل» فإنه يندمج في عملية التحويل. والثانية بعد أن يتحول واقع القهر، فإن هذه العملية التعليمية تتوقف عن الانتماء إلى المقهورين وتصبح لجميع الأفراد في عملية تحرير دائمة. وإنَّ العنف يمكن أن يكون سلاحًا في يدِّ القاهرين للاستغلال، لكنه لا يكون أبدًا أداة في يد المقهورين. وفقط بتحرير المقهورين لأنفسهم، فإنهم يحررون القاهرين الذين لا يقدرون على أن يحبوا غير أنفسهم ولديهم السادية التي تقتل كل المشاعر السامية.[4]

4. التعليم المصرفي

أقام مقارنة بين «التعليم المصرفي» و«التعليم الذي يوجه إشكاليات». فأمَّا الأول، فيؤكد أنّهَ يعاني من مشكلة «السرد» حيث يتعامل المعلم مع الحقيقة باعتبارها ثابتة، والتعليم أضحى عملية إيداع فيها يصبح الطلاب مستودعين والمعلمين مودعين. وهذا يُبرِز التناقض بين المعلم والطالب، إذ إن الأول يعلم والثاني يتعلم، والأول يعرف كل شيء والثاني لا يعرف أي شيء، والأول يفعل والثاني يظن أنه يفعل، والأول يختار المحتوى والثاني يتأقلم معه وهكذا، وهو ما يقضي على وعي الطالب النقدي.[5] وهذا هو

الشكل الفعلي لمجتمع القهر

الذي يقتل الروح الإبداعية لدى الطلبة بتحويل كل مواد التعليم إلى مجموعة من الوقائع والمسلمات التي لا يجوز مناقضتها أو التساؤل بشأنها بغية استرضاء القاهرين.

لكن «التعليم الحواري» لا يحتكر فيه أحدهم الحقيقة المطلقة، بل إنه يرفض مسألة «الحقيقة المطلقة» ككل. حيث يرى أنَّ التعليم الذي يوجه إشكاليات يكسر النمط الرأسي للتعليم المصرفي مما يؤدي وظيفة التحرير خاصة من خلال الحوار فيه يصبح المعلم نفسه يتعلم من طلابه. فالأشخاص يُعلِّمون بعضهم بعضًا.[6] بل إنَّه يُفضِّل هذا النوع من التعليم لأنه تعليم لا يخدم مصالح القاهر حيث يسمح بالأسئلة وأهمها سؤال «لماذا». وإنَّه يؤمن أن هذا التعليم الإشكالي إنما يؤسس للقيادة الثورية القادرة على تحويل الواقع القهري إلى آخر تحرري.[7]

5. الحوار

إن رفض القهر ومحاولات تهميش الفرد يكون بمعرفة كل من المعلم والطالب أولًا، أي نوعٍ من الواقع القاهر يحيونه من أجل أن يتجاوزاه باستخدام التفكير النقدي. وذلك من خلال «الحوار». فهو يرى أن

التعليم الأفضل

هو القائم على العملية الحوارية بين المعلم وبين الطالب ليتوصلا إلى أسباب القهر.

والمعلم
بالنسبة إليه يتحتم عليه أن يكون مثالًا حيًّا للفعل الراديكالي الرافض لغياب
العدالة. وإنَّ قول الكلمة «أي الحوار» -الذي هو أساس الفعل/رد الفعل- لهو حق
للجميع ولا يمكن لأي شخص أن يملك وحده الكلمة الحقيقية.

ويؤكد فريري أنَّ «الحوار لا يتواجد بين أشخاص تنكر على الآخرين حقهم في إطلاق كلمتهم، وبين أولئك الذين تم إنكار حقهم في الحديث». وهذا الحوار هو التصرف الذي من خلاله يخاطب به فعل الشخص وانعكاس العالم حوله من أجل تحويله، فإنَّ هذا الحوار لا يمكن أن يصبح مجرد عملية فرض رأي من شخص على الآخر. كذلك فالحوار لا يمكن أن يكون عدائيًا بين شخصين لا يرجو أيهما تحويل واقعهما أو البحث عن الحقيقة. وكذلك يتطلب الحوار الإيمان العميق بقدرة الإنسان على أن يصنع ويعيد صناعة، يخلق ويعيد خلق ما حوله.[8]

ويفترض أنه لابد من

وجود المساواة والثقة والاحترام

، والرعاية والالتزام بين المشاركين للدخول في حوار. كما أن كل واحد لابد وأن يتساءل عمَّا يعرفه الآخر. هذا يعني أنَّ على الحوار أن يتسم بالتفكير النقدي أي ينظر إلى الواقع باعتباره عملية تحول وليس كيانًا ثابتًا.[9]

وإن تجربته الشخصية في الحوار كآلية لحل المشكلات في حياة الأفراد اليومية تبلورت أثناء عمله في

حملات القضاء على الأمية

في الريف، مما قاده إلى فكرة الحوار الذي يمكن تعريفه كـ عملية متبادلة هدفها الرئيسي هو التحرر والتحول للجانبين: الطالب والمعلم.كما أنَّ فريري يدعو إلى ضرورة فهم كل من المعلم والسياسي للظروف الهيكلية التي يخلق فيها الأفراد فكرهم ولغتهم من خلال حوارهم حتى يكونا مفهومَين بالنسبة للعامة.[10]

6. الموضوعات التوليدية:

في مقارنة بين
البشر وبين الحيوانات، استنتج أن البشر كائنات لديها تاريخ، وعلاقات بين بعضهم
البعض ومع العالم وقادرة على إعادة الخلق والتحويل، ووعي ذاتي، وتستطيع صنع
الثقافة والتاريخ -أي منتجات بعيدة عن أنفسهم.

وكل حقبة من
الزمن تتسم بمجموعة من القيم والتحديات والأفكار والمفاهيم والآمال والشكوك في
تفاعل جدلي مع ما يناقضها. وتمثيل هذه الجدالات يكون من خلال موضوعات هذه الحقبة
والتي لن تظهر إلا حينما يقوم المضطهدون بخلق دائرة ثقافية للنقاش بشأن مشكلاتهم،
فإنهم يستخدمون بعض الكلمات أو الموضوعات بكثرة والتي تعيد نفسها مرارًا وتكرارًا.

وفريري يقترح أنَّ موضوع حقبته هو «الهيمنة» الذي يناقضه موضوع «التحرر». ومن أجل إعطاء الإنسان حقه في هذه الموضوعات، فلا بد من ضمِّه في الحوار عن هذه الموضوعات ليستطيع فهم الواقع حوله ويعمل على تحويله.[11]


الموضوعات التوليدية توضح هيكل الاضطهاد

الذي يتعرض له هؤلاء الأشخاص. ويؤمن فريري أن في حالة تعلم قراءة وكتابة كلمة «عشوائيات» مثلًا، فهذا يؤدي إلى نقاش متسع حول فحواها وكيف خُلِقَتْ ولماذا بعض الأشخاص وليس آخرون مجبرون على العيش فيها. وهذه العملية تحرك المجتمع من وعيهم البريء غير النقدي إلى آخر مسئول ونقدي. وبالنسبة إليه فمن المستحيل ألا يكون هنالك موضوعات توليدية لأي مجتمع. وفى حالة عدم استطاعة أفراد منطقة معينة رؤية هذه الموضوعات أو شاهدوها على نحوٍ مشوه، لهو يعني أنَّهم ما يزالون يعيشون في حالة القهر.[12]


المراجع



  1. Paulo Freire, Pedagogy of the Oppressed”, Myra Bergman Ramos (trans.), (New York: The Continuum International Publishing Group), 2005, pp. 39-48.
  2. Ramon Spaaj, Sarah Oxford and Ruth Jeanes, “Transforming communities through sport? Critical pedagogy and sport for development”, Sport, Education and Society, vol. 21, no. 4, 2016, pp. 571, 572.
  3. Paulo Freire, Pedagogy of the oppressed, Op. Cit., p.53.
  4. Ibid., pp. 58-60.
  5. Ibid., p. 72, 73.
  6. Ibid., pp. 80.
  7. Ibid., p. 86.
  8. Ibid., p. 88, 89, 90.
  9. Ibid., p. 92.
  10. Ibid., p. 96.
  11. Ibid., pp. 98-103, p. 106.
  12. Ibid., p.106.