فيما كانت البشرية تعاني ويلات صراع الجميع ضد الجميع في الحرب العالمية الثانية، كان النايلون يفتح أسواقًا بأكملها لمنتجاته ويصنع ثروات هائلة للشركة التي اخترعته. بينما كان العالم يفقد استقراره، كانت دو بونت تثبت من دعائمها كأكبر شركات المواد الكيميائية في الولايات المتحدة والعالم من ذاك المنجم الذي قادها إليه كيميائي عبقري. هذه هي قصة حرير القرن العشرين وأهم منجزات علم البوليمرات منذ ولادته قبل بداية حكايتنا بقرن.


الاستقلال عن الطبيعة

بدأ علم البوليمر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بتقصي الجزيئات التي تكمن في عمق هياكل الألياف الطبيعية كالسليلوز المكون للقطن والورق ومحاولة محاكاتها «جزئيًا». كان أقصى أحلام بيرزيليوس -الكيميائي الشهير الذي أطلق على هذه الجزيئات كلمة بوليمر- ومعاصريه هو التعديل على السلسلة التي صنعتها الطبيعة بإضافة بضع ذرات هنا وهناك لتحسين صفة ما أو التخفيف من أخرى. بالطبع مع ازدياد التوتر العالمي والقلق المتزايد من توافر المواد الأولية الطبيعية وكيفية نقلها، بقي الجميع يرنو إلى هدف أساسي؛ صنع ألياف صناعية بالكامل تحرر الدول من أغلال الاعتماد على غيرها من أجل المواد الخام.

ظهر أول بوليمر صناعي بشكل كامل في مطلع القرن العشرين وسميت مادته «باكالايت» نسبة إلى مخترعها ليو باكالاند. انتمت هذه المادة لما نعرفه الآن باسم البلاستيك –وهي كلمة قد اخترعها باكالاند بنفسه أيضًا- مما يعني أنه برغم أهميتها فإنها لم تكن ليفية fibrous. استمرت حمى السباق نحو أول مادة ليفية تتكون من بوليمر صناعي في كل معامل التطوير الضخمة التابعة لشركات الكيماويات في مختلف دول العالم، والتي امتلكت قدرات بحثية وموارد مالية ضخمة تخولها لمطاردة هذه المادة إلى أن حالفت الأقدار أحد كيميائيي التطوير في دو بونت Du pont.

كانت الشركة الأمريكية ذات الأصل الفرنسي تعمل في مجال المنتجات الكيميائية من بدايتها منذ حوالي قرنين على يد عائلة فرنسية فر أفرادها من مقصلة الثورة الفرنسية بشق الأنفس. كان بيير وابنه إيلوثير إيريني قد أبحروا بعائلتهم وخبراتهم وثرواتهم إلى العالم الجديد في محاولة لصنع فرنسا جديدة على أرض أمريكية بدلاً من تلك المحطمة التي خلفوها وراءهم.

سمى بيير ابنه إيلوثير إيريني نسبة للكلمات اليونانية «حرية» و «سلام». ومن المثير للسخرية أن يؤسس إيلوثير العائلة التي ستنمو إلى أن تصبح من أكبر ممولي اليمين المتطرف في الولايات المتحدة بعد أن يصبح النايلون -ولاحقًا التيفلون- أهم مصادر ثروتها والعامل الحاسم في تضخمها.

بدأت الشركة كجزء من مجتمع صناعة البارود الذي لم تكن أمريكا قد وصلت إلى مستوى التشبع فيه بعد، لكنها لم تلبث حتى توسعت لتشمل كل ما كان كيميائيًا آنذاك، وهي الفكرة التي واتت إيلوثير من تأثره بعمله كطالب ومساعد لدى كيميائي فرنسا الأعظم على الإطلاق؛ أنطوان لافوازييه.

والاس هيوم كاروثيرز

قفزة إلى المستقبل: نحن الآن في ثلاثينيات القرن العشرين حيث تحتل دو بونت مرتبة أهم عمالقة الصناعة الكيميائية في العالم. في معامل البحث لديها، كان كيميائي شديد التفاني يعرف باسم والاس هيوم كاروثيرز قد ترأس وحدة العلوم البحتة الجديدة بالشركة لتبدأ رحلة مطاردته للحلم آنف الذكر، تلك الرحلة التي ستنتهي مبكرًا جدًا بانتحاره. توصل كاروثيرز إلى عدة تفاعلات بإمكانها إنتاج بوليمرات صناعية كالبولي إيستر. لكن أهمها على الإطلاق كان تفاعل يعطي بوليمرا ليفيا يشبه في بنائه الحرير، كان هذا هو الإيذان باختراع أول الألياف الصناعية في العالم. كان كاروثيرز قد ضمن موقعه من التاريخ.

قامت دو بونت بتحويل النايلون من فكرة رائعة إلى خط إنتاج ضخم ذهب في معظمه للأغراض العسكرية مع بداية الحرب العالمية الثانية. سينتظر العالم حتى 1946 لتصل الألياف الجديدة إلى الأسواق على هيئة كل ما يمكن تصوره، من الملابس النسائية إلى الأغطية والخيوط والصنانير. باعت دو بونت في أول يوم فقط من طرح جوارب النايلون في الأسواق ما يصل إلى أربعة ملايين زوج من الجوارب بينما وصل الرقم إلى ما يقارب 64 مليون زوج من الجوارب في أول سنة. كان الأمر حقًا مدهشًا، فتلك الجوارب كان نقصها قد تسبب في إثارة أحداث «شغب النايلون» قبيل عام 1946، أما من هذا العالم إلى الآن، فقد استقر البديل الصناعي للحرير وأغرق تفاصيل الحياة اليومية كلها بكميات وفيرة.


جزيئات عملاقة

والاس هيوم كاروثيرز نايلون

والاس هيوم كاروثيرز نايلون

للتعرف على النايلون علينا سبر أغوار طبيعته الجزيئية. يشبه النايلون تركيب البروتين الطبيعي الذي نعرفه باسم الحرير. في محاولة تصنيعه، قام كاروثيرز بمفاعلة حمض الأديبيك Adipic acid مع سداسي الميثيلين ثنائي الأمين، وهما مركبان يحمل كل منهما مجموعتين وظيفيتين (مجموعات من الذرات غير الكربون والهيدروجين المكونين لهيكل البوليمر العضوي). إذا لم يسبق لك المرور على مقرر دراسة للبوليمرات فإن معنى الحديث السابق يكمن في قدرة هذين المركبين على أن يرتبطا ببعضهما ويرتبط كل منهما بجزيء آخر من الناحية الأخرى. هكذا تتكون السلسلة التي نطلق عليها بوليمر.

تحدث هذه العملية بطريقة من اثنتين، إما ارتباط بواسطة فقد جزيء صغير كالماء، وهذا ما يحدث في تصنيع النايلون ويطلق عليه Condensation polymerization، أو ارتباط دون فقد وهو ما يعرف باسم addition polymerization. تتكون من جراء هذه العملية سلسلة طويلة من وحدتين متكررتين تكونان معًا كتلة ما نطلق عليها لقب أميد Amide. مع تكرار هذا الأميد يصبح لدينا «عديد الأميد Polyamide» وهو النايلون.

مع تطور الصناعة عمومًا خلال القرن العشرين، وجد النايلون مضمارًا جديدًا للغزو وهو تغليف أسطح المعادن وخاصة تلك التي تصبح تروسًا بعد ذلك. مع التعمق في فهم خواص النايلون الكيميائية والفيزيائية، ظهرت خواصه الفريدة من التشحيم الذاتي إلى تحمل درجات الحرارة المرتفعة «نسبيًا». اتضح بعد ذلك إمكانية صنع نسخ مختلفة من النايلون بتغيير المواد المتفاعلة مما أدى لامتلاكه خمسة أنواع نايلون -6 ونايلون 6/6 ونايلون 8 ونايلون 11 ونايلون 6/10-، ولكل نوع بدوره قائمة طويلة من الصناعات والنوعيات تعاقب اكتشافها وتطويرها مواكبة للتطور السريع في الاحتياج لخامات بخواص مختلفة.

توصل البشر للعديد من إنجازاتهم بالنظر إلى الطبيعة ومحاولة مسايرتها أولاً ثم محاكاتها ثانيًا فالتفوق عليها ثالثًا. بعد ما يقرب من ثمانين عامًا على لحظة العبقرية التي لمعت في ذهن كاروثيرز ونافست الطبيعة، أصبح من شبه المستحيل أن تهرب من النايلون في احتياجاتك اليومية من فراشي الشعر والأسنان إلى الملابس والستائر والسجاد، ومن عجلات السيارات والطائرات إلى العوازل والمحركات وصولاً للأسلحة. يومًا بعد يوم تسرق البشرية المزيد من وصفات الطبيعة المدهشة، وما إن تهتدي للسر حتى تعود للبحث مجددًا.


المراجع



  1. J.E. McIntyre-Synthetic Fibers: Nylon, polyester, acrylic, polyolefin
  2. Gerard Colby, Mark Crispin Miller-Du Pont Dynasty: Behind the Nylon Curtain
  3. Fry, Bill-Working with Nylon-Society of Manufacturing Engineers (SME)
  4. Chemistry in context 6th edition- Eubanks