لم تصدق أبدًا في أشد كوابيسها تعاسة، أن يصيبها مشهد أمواج البحر بكل هذا الحزن والأسى. لم يخطُر ببالِها أن تنقلب رحلة العمر التي تحتفل فيها هي وزوجها الحبيب بتقاعدهما معًا، بعد أكثر من 30 عامًا من الحب والعمل وفترات الصعود والهبوط التي عبراها معًا، إلى سجنٍ وقلق، وأن تخنقَها هواجس الموت والفراق.

كانت تلك هي المرة الأولى منذ أكثر من ثلاثة أيام التي يُسمَح لها فيها بالصعود إلى سطح السفينة لبعض الوقت، من أجل أن تتنسَّم بعد الهواء الطلق، وتستمتعَ بأشعة الشمس التي سُمِّيَت بها تلك البلاد (بلاد الشمس المشرقة). لكنها شعرت كأن النسيم أبخرة محرقة، وأن أشعة الشمس تلفحُ روحَها قبل جسمها، رغم اعتدال الجو. كيف لا، وزوجها الحبيب يرقد في أحد المشافي اليابانية يصارع هذا الفيروس الغامض الذي بدا لها وكأنه قد تقصَّد إفساد عطلتها المنتظَرة، بل يوشك أن يفسد حياتَها. كذلك كانت تشعر بخوفٍ كبير من الاقتراب من المسافرين الآخرين رغم الكمامات التي يضعها الجميع على الوجوه، فالأنباء القليلة التي تتسرَّب إليها تشي بوجود عشرات بل مئات المصابين بلا أعراض على سطح تلك السفينة التي تحوَّلت إلى سجن مُرَفَّه لمن فيها.

منذ أسابيع قليلة، كانت وزوجها يمنيان النفس بالاستمتاع بأجمل ما في جنوب شرقي آسيا، وأن يعودا معًا عقودًا إلى الوراء إلى ميعةِ الصِّبا، ويترشَّفان سحر تلك البلاد، وفتنتها الخاصة. ورغم أنها كثيرًا ما تتهم نفسَها بأنها شخصية قلوقة، كثيرًا ما تتخوَّف العواقب، وتتوقَّع الأسوأ، فقد فاقت الأزمة الحالية كل تخوفاتها، وهاهي رحلة العمر تنتهي بحجر صحي داخل السفينة السياحية في ميناء أوكلاهوما الياباني، ويصبح متنفسُها الوحيد هو الصعود أحيانًا إلى سطح السفينة، وحتى في تلك اللحظات القليلة، كانت يجلدُها القلق على حالة زوجها الصحية.

لم تسمح لها السلطات اليابانية حتى بمرافقة زوجها إلى المشفى الذي نُقِلَ إليه إثر ظهور أعراض الإصابة عليه، واشتداد الحُمَّى. وهكذا أصبح أقصى أمانيها الآن هو أن تعود رفقة زوجها إلى الجهة الأخرى من المحيط الهادي، ولكن أن يكون إلى جوارها في داخل الطائرة، وليس في صندوقٍ مخيف في جوفها.

وبالفعل كان القدر بها رحيمًا، فبعد أيامٍ قاست فيها الهواجس نهارًا، واحتلَّتها الكوابيس في ليلها، تحسَّنت حالة الزوج، وغادر المشفى، وتمَّ إجلاؤهما إلى الوطن مع المئات من مواطنيهما الذي كانوا على متن تلك السفينة البائسة، وكان حظهما بالطبع أفضل من 13 من السياح الآخرين الذين فتك بأرواحهم فيروس كورونا، وسبعة آخرين ما يزالوا يصارعون الموت في الرعاية المركزة لحظة تدوين هذه الكلمات.

كيف حلَّت نكبة كورونا بأميرة الماس؟

الحمد لله،لم تصل الوفيات للملايين بعد! وللمزيد من حسن الحظ، لا يتوقع أحد من المراقبين والمتابعين حتَّى الآن أننا قد نصل إلى مثل ذلك الوضع الخطير، رغم تمدد وباء الكورونا عالميًا، وتجاوز عدد حالاته المليونيْن في منتصف أبريل/ نيسان الحالي، وتجاوز عدد ضحاياه 150

ألف إنسان

، وزيادة الهواجس لدى البعض في حدوث موجات لاحقة من الوباء لن تقلَّ فتكًا عن الموجة الأولى.

في المقابل، تخبرنا أميرة الماس – diamond princess – أنه لولا كل الجهود التي بُذلت – وما تزال تُبذل – على المستويات المحلية والدولية في كافة أرجاء المعمورة، من أجل لجم انتشار هذا الفيروس، لكانت ملايين الوفيات أمرًا واقعًا، ولكانت البشرية في خطر وجودي حقيقي، تحت وطأة محنة لا تقل كارثيةً عن وباء الإنفلوانزا الإسبانية الذي فتك بأرواح عشرات الملايين من البشر قبل قرنٍ من الزمن.

اقرأ:

الإنفلوانزا الإسبانية: كيف قتل الفيروس 50 مليون إنسان في عامٍ واحد؟

واقرأ:

ماذا أفعل إن أصبحَ وباء معد على أعتاب منزلي؟

أميرة الماس –

diamond princess

– هي سفينة سياحية بالغة الضخامة، أنشئت عام 2004 في ناجازاكي باليابان، وهي مسجلَّة في بريطانيا، وتقوم بجولاتها السياحية شتاءً في نصف الكرة الشمالي في السواحل الشرقية والجنوبية الشرقية لآسيا. شاءت الأقدار أن تصبحَ تلك السفينة من المراتع الأولى

لانتشار فيروس كورونا

، خارج الصين.


في العشرين من يناير/ كانون الثاني 2020

صعد على متن السفينة في ميناء يوكوهاما الياباني سائح ثمانيني من هونج كونج، ليغادر إلى موطنه في هونج كونج يوم 25 يناير. في الأول من فبراير/ شباط، توجَّه السائح إلى أحد مشافي هونج كونج، ليظهر التحليل إصابته بفيروس كورونا.


بعد ذيوع أنباء إصابة هذا السائح، منعت السلطات اليابانية في ميناء يوكوهاما إقلاع السفينة في جولتها البحرية التالية التي كان من المقرر لها يوم 4 فبراير، وبدأت في عمل بعض المسحات للسياح ولطاقم السفينة يوم 3 فبراير من المحتمل مخالطتهم للسائح المصاب، لتأتي النتائج إيجابية لـ10 منهم. فوضِعَت السفينة في الحجر الصحي تحت إشراف وزارة الصحة اليابانية، لكن منعت السلطات اليابانية السياح من مغادرتها، وفرضت على ثلاثة آلاف و 700 سائح وعامل على متنها البقاء داخلها لأسبوعيْن.

في السابع في فبراير 2020م ارتفع عدد المصابين على متن أميرة الماس

إلى 61

، ثم 64 في اليوم التالي. ليتضاعف العدد إلى 135 في العاشر من فبراير. ثم تضاعف العدد مرة أخرى إلى 285 في منتصف فبراير. وفي تلك الأثناء نُقل العشرات من المصابين إلى المشافي اليابانية لتلقي العلاج اللازم. في يوم 16 فبراير

أجلت الولايات المتحدة الأمريكية

معظم مواطنيها البالغ عددهم أكثر من 400 من السفينة، ووضعتهم تحت الحجر الصحي في قاعدتيْن عسكريتيْن في تكساس وكاليفورنيا لأسبوعيْن. وقامت كندا وأستراليا أيضًا بإجلاء رعاياها لاحقًا.

استمرَّ عدد الإصابات في التصاعد، ليشهد يوم 17 فبراير وحده ظهور 99 حالة، ليصل الإجمالي إلى 454 منهم أكثر من ثلاثين من طاقم السفينة. مُدَّت فترة الحجر الصحي أسبوعيْن إضافييْن، ثم بدأت الإصابات في التباطؤ مع تشديد إجراءات الحجر الصحي داخل السفينة، ليصل

العدد الكلى للإصابات بحلول مارس

712 من أصل 3700 بنسبة تقترب من 20% من مجموع من كانوا على متن السفينة في خلال أقل من شهر ونصف، من بينهم 145 من طاقم السفينة البالغ أكثر من الألف. وبحلول مارس، كانت تحليلات تشخيص الفيروس قد

أُجريَت

لجميع من استقلُّوا السفينة بالكامل.

لقد كنت أخشى بجدية أن أصاب بالفيروس أثناء زيارتي للسفينة .. فإجراءات مكافحة العدوى داخلها كانت قاصرة للغاية، ولا يوجد تمايز فعَّال بين المناطق الخضراء الآمنة من العدوى، وتلك الحمراء الموبوءة ..





اختصاصي الأمراض المعدية الياباني

إيكتارو إيواتا

بعد زيارته لأميرة الماس منتصف فبراير للاطمئنان على أوضاع الحجر الصحي بداخلها، في

مقطع

على يوتيوب، حذفه فيما بعد أن أثار الكثير من الجدل

جدير بالذكر أن

العديد من الانتقادات

طالت قرار وتنفيذ الحجر الصحي على أميرة الماس، لا سيَّما وأن السفينة كانت تخلو من

أنظمة تهوية مضادة للعدوى

والجسيمات الصغيرة، كتلك المزوَّد بها الطائرات. كذلك

انتقد بعض الخبراء

عدم مسارعة السلطات اليابانية إلى إجراء التحليل منذ البداية لجميع من كانوا على متن السفينة، لتحديد بؤر العدوى داخلها، والتعامل معها جيدًا منذ البداية.

كما توجَّهت بعض سهام النقد للبيروقراطية اليابانية التي أضاعت وقتًا ثمينًا في التعامل مع الوباء المتسارع. وأكد أنتوني فاوتشي، الخبير الأمريكي في الأمراض المعدية، وعضو لجنة إدارة أزمة وباء كورونا، أن الحجر الصحي لأميرة الماس في اليابان لم يكن ناجحًا، ولم ينفِ د. نوريو أوماجاري رئيس المركز الياباني للسيطرة على الأمراض هذا الاتهام الأمريكي،

وذكر

أن الحجر الصحي لم يكن جيدًا بالقدر الكافي.

دروسٌ علمية واجبة من تجربة نادرة


لكي يمكن تعميم نتائج أي دراسة علمية على عموم البشر لا بد من اشتراطاتٍ عديدة، من أهمها أن تكون العينة محل الدراسة كبيرة العدد، وأن تتنوع في خصائصها، كالجنس مثلاً (ذكورًا وإناثاً)، والشرائح العمرية، وكذلك الأعراق المختلفة. ورغم أن ما حدث لسفينة أميرة الماس وسيّاحها مع فيروس كورونا لم يكن دراسة مقصودة بالطبع، فإن

جمهور السياح

المتنوع على متنها يصلح كعينة مثالية للدراسة.

من بين ثلاثة آلاف و 700 مسافر وعامل، تُوُفِّيَ 13، جميعهم من المسافرين، ولعل متوسط الأعمار المرتفع للمسافرين والبالغ 69 عامًا يفسر هذا، إذ كانت متوسط أعمار العاملين 36 عامًا فحسب. وبذلك بلغت نسبة الوفيات من إجمالي الإصابات على متن السفينة، والمعروف بـ case fatality ratio نحو 1.8%، ومن إجمالي عدد من كانوا على متن السفينة نحو 4 في الألف. وهي نسب منخفضة بالمقارنة بحال الوباء في معظم دول العالم نتيجة الحجر الصحي المبكر للسفينة على عِلَّاته (بالطبع سهَّلت البيئة شبه المغلقة داخل السفينة انتقال العدوى سريعًا في البداية بين قطاع ليس بالصغير من ركاب السفينة وطاقمها، كذلك تسبَّبت الكبائن المزدحمة لمبيت طواقم العمل في تفشي الإصابة بين العشرات منهم).

من أهم ما لفت الأنظار في إحصاءات الفيروس في أميرة الماس، أن

18%

من المصابين، لم تظهر عليهم أعراض مُطلقًا، رغم أن معظم المسافرين كانوا من كبار السن المعتاد ظهور الأعراض واشتدادها لديهم. بتطبيق تلك النتيجة على المشهد الأكبر، فإنها قد تعني أن هناك ملايين عديدة حول العالم، ومن بينهم بعض كبار السن، يحملون الفيروس وينشرونه هنا وهناك، دون أن تظهر عليهم أي أعراض مرضية. ولكن الجانب الإيجابي في هذا الأمر، أن معدل وفيات الحالات واقعيًا أقل مما نحسبه من عدد الحالات الموثقة، لأن هناك أضعافهم من الإصابات الصامتة التي لم تُجرِ التحاليل.

كذلك أثبتت التجربة فعالية إجراءات العزل داخل السفينة رغم الانتقادات التي وجِّهَت لها. فقبل تطبيق الحجر، كان متوسط عدد الحالات التي يمكن أن ينقل لها المصاب الواحد العدوى – يُرمَز له R0 وهو رقم متغير حسب قوة انتشار الفيروس وكفاءة إجراءات العزل –

أكثر من 7 حالات

، وهو من الأعلى عالمياً للفيروس الذي يبلغ متوسط R0 له 2 إلى 2.5، والسبب في ارتفاعه هو البيئة شبه المغلقة داخل السفينة، وكثرة الأسطح التي تلمسها الأيدي المختلفة. لكن مع فرض البقاء داخل الكبائن منذ 5 فبراير على المسافرين، انخفض الرقم

دون الواحد

، وكانت الثغرة الوحيدة هي نقل الأشخاص للعدوى إلى مرافقيهم في الغرف – قبل تشخيص المصابين منهم – وكذلك إلى طاقم السفينة الذي أصيب نحو 14% من أفراده، لكنهم نجوْا جميعًا من الوفاة لحسن الحظ نظرًا لانخفاض متوسط أعمارهم، كما ذكرنا سابقًا.

الواقع أقل سوءًا حتى الآن بفضل الإجراءات


3 علماء يتنبَّأون بقرب انتهاء وباء الكورونا

بعد أن

تجاوز عدد الحالات

المؤكدة حول العالم المليونيْن والربع منتصف أبريل/نيسان الحالي، توُفي منها ما يزيد على 150 ألفًا، شكَّك البعض في جدوى الإجراءات التي اتّخذتْها حكومات العالم لكبح جماح انتشار الوباء، لا سيّما الإغلاقات الكلية وشبه الكلية، كما حدث في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وسواها، خاصةً مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة لتلك الإجراءات.

اقرأ:

كيف تصارع الماكينات الألمانية وباء كورونا بنجاح؟

كان الهدف من جولتنا السابقة عن انتشار الوباء في سفينة أميرة الماس هو الرد على تلك الادعاءات المُشكِّكَة في جدوى الإجراءات بنموذج واقعي عن ماذا كان بإمكان الفيروس أن يفعله إذا انتشر في بيئة ما دون اتباع إجراءات السلامة والوقاية في الوقت المناسب.

تخيلوا لو طُبِّقَت النسب التي شهدتها أميرة الماس من الوفيات والإصابات على العالم ككل (مع الوضع في الاعتبار أن كفاءة الحجر الصحي العام، والتحكم في الجمهور في السفينة كانت أكثر مما طبق على النطاق الأوسع في مدن ودول العالم). يبلغ عدد سكان العالم نحو 7.8 مليار نسمة، كان سيصاب في أسابيع أو شهورٍ قليلة نحو 20% منهم، وهو ما يزيد على المليار و700 مليون إنسان، يُتوفى منهم 1.8%، وهو ما كان ليصل إلى 30 مليون إنسان. وبإمكانك أن تتصور تلك النسب في الدوائر الأكثر انغلاقًا، مثل قريتك، أو مجمَّعك السكني، أو مدينتك، أو دائرة معارفك.

إذًا، فما نفعله فرديًا وجماعيًا من إ

جراءاتٍ للوقاية

من تمدد الوباء، أو حتى تعطيله وتأخيره لتخفيف الأعباء المتزامنة عن كاهل المنظومات الصحية، هو فرض عيْن على الجميع، ويساهم بشكلٍ جوهري في إنقاذ أرواحنا وأحبابنا والعالم.

ملحوظة: القصة في صدر التقرير مقتبسة من قصة حقيقية لزوجيْن أمريكييْن كانا على متن أميرة الماس، وتحسَّنت حالة الزوج الصحية، وعادا معًا إلى وطنهما.