شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 76 في هذا العالم السريع الذي لا يتوقف، حيث يتحول كل شيء إلى رقم في العداد الاستهلاكي، وحيث يمتلئ الهواء بالمشاعر المتأججة المضطربة التي تنطلق كشرارة بسهولة وتندثر بنفس السهولة، تغيب المعاني، ويشعر المرء بالاغتراب عن نفسه وعن عالمه، وبالعجز عن الفعل. في ظل كل هذا، لمست قول محمود درويش: «حاصِر حصارك لا مفر» لأول مرة. لم أره في الحقيقة يتحدث عن الحصار العسكري والسياسيّ فحسب، حصار العدو البارز الذي تراه رأي العين، بل رأيته الحصار الذي يحيط بك في كل مكان حتى وإن لم تكن تراه. وعليك حياله أن «تكون أو لا تكون» كما قال درويش. في أحد لقاءاته بعد نشر ديوانه «لا تعتذر عما فعلت» (2003)، قال درويش إنه كانت ترافقه منذ الطفولة فكرة حالمة: أن أصير فارسًا بالكلمة.. أن أكون شاعرًا.. ففي عالم يفتقد إلى القيم، إلى المعاني، إلى العدالة، إلى حق الآخرين في الحرية، تُصبح الكلمة هي السلاح الأول. يمكنك أن تجد ذلك في شعر محمود درويش؛ ذلك العطاء الشعريّ الممتد من التعبير عن الحق في الأرض والاستماتة في سبيلها، إلى الدفاع عن الإنسان وحقه في العيش الحر الكريم. لكن لقائي الحقيقي مع محمود درويش بدأ بديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» (2005)، وقد كان لقاء تمخّض عن طرح سؤال الأنا، ذلك السؤال الوجودي الذي يبحث فيه الإنسان عن ذاته ويحاول اكتشاف حقيقتها. يقسم درويش الديوان إلى أربعة عناوين رئيسية: أنت، هو، أنا، هي؛ ثم المنفى. تحت عنوان «أنت»، نجد قصيدة «الآن في المنفى» التي يُنهيها درويش قائلًا: قُل للحياة، كما يليقُ بشاعرٍ متمرِّس سِيري ببُطء، كالإناث الواثقات بسحرهنّ وكيدهنّ لكل واحدة نداء ما خفي: هيتَ لك، ما أجملك! سيري ببُطء يا حياة لكي أراكِ بكامل النقصان حولي.. كم نسيتُك في خضمّك باحثًا عنّي وعنك، وكلما أدركت سرًّا منكِ قلتُ بقسوةٍ: ما أجهلك! قُل للغياب: نقصتني! وأنا حضرت، لأُكملك. في هذه القصيدة، يُخاطب محمود درويش أناه كأنها آخر. وحين قرأتُ القصيدة للمرّة الأولى، شعرتُ أنا الأخرى أنني أقف على حافتي، فعبر ذلك الخروج من الذات والتعامل معها كآخر، يمكن للإنسان أن يكتشف نفسه. لم تكن تلك المرّة الوحيدة التي خاطب فيها درويش أناه كآخر، بل نجد ذلك، وعلى نحو أوضح، في قصيدته «شخص يطارد نفسه» من ديوان «أثر الفراشة» (2008) التي يقول فيها: لم تنتظر أحدًا، مشيتَ على رصيفك سائرًا، ومشيتُ خلفك حائرًا، والشّمس غابت خلفنا.. ودنوتُ منك خطوةً أو خطوتين، فلم تجدني واقفًا أو ماشيًا، ودنوتُ منك فلم أجدك. أكنتُ وحدي دون أن أدري بأني كنت وحدي؟ لم تقل إحدى النساء: هناك شخص يخاطب نفسه. أما تحت عنوان «هو»، فنجد قصيدته «لم ينتظر أحدًا»: لم يشعُر بنقصٍ في المكان، المقعدُ الخشبيّ، قهوتُه، وكأسُ الماء، والغرباءُ، والأشياء في المقهى كما هي.. والجرائدُ ذاتُها، أخبارُ أمسٍ، وعالمٌ يطفو على القتلى كعادته… تدفع تلك القصيدة إلى التساؤل عن ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بيننا كبشر، والتشابه بين تواريخنا وتجاربنا على اختلافها. وإن أحد أهم أدوار الشعر هو التعبير الموضوعي عن حالة مررنا أو نمر أو سنمرُّ بها، وأن تُمنح تلك الحالة أبعادًا أخرى في محاولةٍ لتوسيع الواقع، لرؤيته بوضوح أكثر. فما أشبه ذلك الـ«هُوَ» في تلك القصيدة بذلك الـ«أنت»، وهو التوحد الذي نجده في قصيدة «ما أنا إلا هو» من ديوان «أثر الفراشة» التي ينهيها قائلاً: وما أنا إلا هوَ، وما هو إلا أنا، في اختلاف الصور. أما في مجموعة الـ«أنا»، فواتتني قصيدة «لوصف زهر اللوز»: سيخطُفُني الكلام إلى أحابيل البلاغة، والبلاغة تجرحُ المعنى، وتمدحُ جُرحه، كمُذَكّرٍ يُملي على الأنثى مشاعرها، فكيف يُشّعُ زهرُ اللوز في لُغتي أنا؟ وأنا الصدى؟ هنا، يصل درويش أخيرًا إلى سؤال الهوية عبر ما يمثله زهر اللوز في الهويّة الفلسطينية، فدرويش هو ذلك الصدى للصوت الفلسطيني الحر الذي تُشّع الهوية في كلماته، فقد بدأت مسيرته في الأساس للدفاع عنها، وهي أهم دوافعه الشعرّية. يقول درويش واصفًا عودته إلى فلسطين بعد التهجير: وهكذا وجدت نفسي أحمل اسمًا جديدًا بدلًا من اسم طفل، اسم لاجئ في بلادي، حاضرًا غائبًا في بلادي. فكيف يمكن تحرير تلك الهويّة الحاضرة الغائبة؟ كيف يمكن أن تتجلّى بالشعر كتجلّي زهر اللوز في قصيدة درويش تلك؟ أما في مجموعة الـ«هي»، فواتتني قصيدة «وأنتِ معي»: وأنتِ معي، لا أقول: هنا، الآن، نحن معاً. بل أقول: أنا، أنتِ، والأبدية نسبح في لا مكان… على الرغم من أن حبيبةُ درويش الغائبة التي لا تأتي في أغلب قصائده، كما في قصيدة «لم تأتِ»، والتي ينتظرها في قصائد أخرى كـ«درس من كاما سوطرا»، يحاول درويش منح معنًى آخر للحُب من خلال وجودهما معًا في تلك القصيدة. فالحُب لدى درويش هو تحررٌ من ضيق المكان والزمان إلى حُرية الأبدية، فكما يقول درويش في نفس القصيدة: «ولا حُبَّ في الحُبِّ، ولكنه شبق الروح للطيران». «أثر الفراشة»: اكتشاف الذات في الحياة اليومية يدعو عنوان «أثر الفراشة»، وهو آخر ديوان نشره درويش في حياته، للتساؤل عنه، إذ ماذا يعني درويش بأثر الفراشة. جعلني ذلك أتجه إلى القصيدة المُسمى باسمها الديوان، حيث يجيب درويش واصفًا أثر الفراشة بأنه «هو خفّةُ الأبديّ في اليومي». ففي هذا الديون الذي هو عبارة عن يوميات، لا يستهدف درويش الشاعرية التي تمنحُ اللحظة بُعدًا آخر فحسب، بل يُدوّن يومياته، روتينه الخاص، الذي قد يُمثل روتين آخرين أيضًا. أحداثٌ متتالية ومتابعة يرصُدها درويش قد يكونُ لها «أثر الفراشة» فتصنعَ أثرًا عظيماً. ولكن كيف يكونُ يوم من يعيشون في الحصار؟ على حافة الدمار، كيف يكون أثر الفراشة هناك؟ حيث في كل لحظةٍ موتٌ جديد. يقول دويش في منثورة «أبعد من التماهي»: أجلس أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أفعل شيئًا آخر. هناك، أمام التلفزيون، أَعثُرُ على عواطفي، وأَرى ما يحدث بي ولي، الدخان يتصاعد مني. وأَمدُّ يدي المقطوعةَ لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسومٍ عديدة، فلا أَجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة الألم. أَنا المحاصَرُ من البرِّ والجوِّ والبحر واللغة. أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت ووضعتني أمام التلفزيون، لأشاهد بقيَّة موتي مع ملايين المشاهدين، لا شيء يثبت أني موجود حين أفكِّر مع ديكارت، بل حين يهضمني القربان، الآن، في لبنان. أَدخُلُ في التلفزيون، أنا والوحش. أَعلم أنَّ الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أَدمنت، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز: التهمني الوحشُ ولم يهضمني، وخرجتُ سالمًا أكثر من مرة، كانت روحي التي طارت شَعَاعًا مني ومن بطن الوحش تسكن جسدًا آخر. مرّة أخرى، أفكر في الفرق بين الأنا والآخر. فدرويش هنا يتماهى مع هويته، فيعبر عن أناسٍ لا يحملون الاسم نفسه لكنهم يحملون الهويّة نفسها، فيموت ويجمع أشلاءه، ويصبح الموت جُزءًا من روتين تلك الحياة، فإن مات أحدٌ فالهوية لا تموت، فسيأتي آخر يحمل نفس الهوية ليُكمل الطريق. من خلال شعر محمود درويش، خُضت تجربة ارتباط الذات بالآخر عبر الشعر، فلديه القدرة على أن يضمنا جميعًا كأننا نسيج واحد من الهويّة التي تتخذ عنده بُعدًا حُرًا وحاضرًا، والقدرة على أن يمنح اللحظة اليومية بُعدًا أبديًا بالشعر. حين تقرأ لمحمود درويش ترتسمُ أمامك دروبٌ شعريّة يُمهدها لك، لتصل معه إلى بعض الإجابات، ولتبقى أسئلةٌ أخرى مفتوحة، ستجدُ إجاباتها في دواوين أخرى، وقصائد أخرى، وأحيانًا لن تجد الإجابة، لكن سيبقى شعر محمود درويش قصيدةً لم يُرد لها أن تنتهي، ولم ولن تنتهي. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً كيف أصبح «الرجل الجيد ذو السلاح» خيالًا أمريكيًا مُميتًا؟ فيلم «La Graine et le Mulet»: وجبة عشاء لن تأتي أبدًا النوبة: نصف الجمال أو كله جنون المُبدعين: لن ينتهي البؤس أبدًا شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram علا رأفت Follow Author المقالة السابقة معنى الحياة: هل وجود الموت يعني عبثية الحياة؟ المقالة التالية عفاف راضي… أو أن يغني وتر الكمان قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك سيمون: بنت شبرا والفيمنست الشعبية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك تحولات نظام الاجتماع السياسي العربي: رؤية سوسيو تاريخية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كتاب «Born a Crime»: حكايات من جنوب أفريقيا 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك من روما إلى الكاريبي: 8 مسلسلات تاريخية تستحق المشاهدة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحرب العالمية الثالثة: لا تخافوا ولكن كونوا مرعوبين 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك نظرات الندم: بين «إيفان الرهيب» و«عبد الملك زرزور» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك 12 نصيحة قبل البدء في مشروعك المنزلي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أنت نرجسي في رواية أحدهم: حوار مع الكاتب «عماد رشاد... 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك تهميش العقل في عصر «التريند» وصراع الأيديولوجيات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحزن الخبيث: لماذا يجب أن نخشى الاكتئاب بشدة؟ 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.