في إحدى محاولات الرحبانية لتدويل مشروعهم الفني وتعميمه خارج حدود لبنان، اتجهوا لإعادة نشر مسرحياتهم في دول أخرى وكلٌ بلغته، وقرروا عرض مسرحية «الشخص» في مصر، فاختاروا «أمل دنقل» كشاعر

يقوم بتمصير النص

، لحاجة ما في نفس الرحبانية لا يعلمها إلا هم، ثم جاء الاختيار الأهم: من يقوم بدور فيروز؟ ووقع الاختيار على عفاف راضي.

فضل الطريق يضيق على الحلم البريء

وأدي الطريق طريق خالي من كل شيء

غير اسمين ع الشجر ودمعتين عقيق.


هي
عفاف راضي التي تشبه وتر الكمان كثيرًا، ذلك الوتر الرفيع الأنيق المشدود بإحكام،
ذلك الوتر الغريب الذي يُسمع «الكونسرفتوار» ومسارح الأوبرا، ويتغنى بأوبريت
الأرملة الطروب، وهو ذات الوتر الذي يغني: «ابعد يا حب ابعد… بقولك لأ».

من
الجميل أن يصاحبك صوتٌ ما -دون أن تدري- في مختلف مراحل عمرك، وهكذا فعلت عفاف،
صوت أمي لا ينقطع من ذاكرتي وهي تغني «سوسة سوسة كف عروسة»، وصوتي أنا الذي فاجأني
وأنا أستمع لأغاني عفاف الآن أنه يدندن «هم النم» و«يالا بينا» وأنا لا أذكر آخر
عهدي بسماعهم.

وصوت
عفاف نفسه المتنوع الذي يصاحبني كلما هممت بأي تأثر موسمي؛ أقرأ أمل دنقل وأبحث
عنه وأفتش كأي منبهر لأجد الأغنية الوحيدة التي كتبها دنقل قد غنتها عفاف راضي حين
تقابلا أثناء مسرحية «الشخص».

ثم
تأتي الفترة التي أخوض فيها بحر بليغ حمدي، فأجد عفاف راضي هي المشروع الذي حمله
بليغ ورعاه وتبناه وآمن بقدراته على تطويع ألحانه، والأداء الأنيق المتزن بين
الأكاديمية والارتجال المحسوب بدقة، فترة جعلت أغنية «يمكن على باله» لا تفارق
بالي لأيام وأيام.


ثم
موسم آخر تركت فيه بليغ الموسيقي «المحترف» وذهبت إلى عمار الشريعي الموسيقي «الأب»،
لأجد عفاف راضي أيضًا؛ ذهبت إلى عمار مستمعًا ومنصتًا شوقًا لتلك الموسيقى
الحنونة، تلك الموسيقى التي تذكرني بأبي وتغمرني بكثير من الدفقات الشعورية، التي
تجعلني أحتاج إليه كلما شعرت بحرمانٍ ما، ورأيت عفاف هنا أيضًا تحنو وترعى وتواسي
كما عمار هذا الذي مسّها بما فيه من شعور، صاحبتني في موسم عمار وخرجت منه بـ «ضحكتلي
بعينيك الصافية» و«بتسأل يا حبيبي».

على
ذكر «وبتسأل يا حبيبي» واستكمالًا للمصاحبة؛ يوم أن صرحت لها بحبي ظللت تلك الليلة
أفكر في أغنية ما أهديها لها في الصباح، بالتأكيد أول أغنية تستمع لها بعد أن
صارحتها لن تنساها، أريد تلك الومضة التي لا تبرح المخ طالما أومضت، فكانت «وبتسأل
يا حبيبي»، وكان صوت عفاف المناسب لتلك البدايات الوردية المفعمة بالنقاء الذي لا
يقوى عقله على تخيل الشوائب، بل يريد هذا الإهداء وتلك المثالية في الحب:

حبك هو الربيع

حبك زهر المنى

لولاه قلبي يضيع

ولولاه ما كنت أنا

وأعيش ازاي وليه

وبتسأل يا حبيبي بحبك قد ايه

ده حبك يا حبيبي بالعالم واللي فيه.


عفاف
راضي كانت هي الصوت الذي رأى فيها كلٌ منيته، فكانت هي الوتر المضبوط الذي رأى
فيها بليغ حمدي القدرة على الأداء بلا مجهود وبلا شكوى أو تذمر، فغمرها بالألحان،
أو كما تقول هي: «بليغ كان قادر يعمل غنوة كل يوم» وكما يقول هو: «أنا قمت من
النوم قولتلهم هاتولي عفاف راضي»، وكان ميلاد لحنهما الأول «ردوا السلام».


وكانت
هي الوتر الناقص في عود عمار الشريعي، كانت عفاف في بداية علاقتها بعمار تمثل
وترًا من أوتار عمار الجميلة، كما الحال بعد عدة سنين مع حنان أو لطيفة أو هدى
عمار، لكنه رأى في عفاف المنية الناقصة؛ منية الأطفال.

بدأت
علاقة عمار الشريعي بعفاف راضي بمجموعة من أغنيات سيد حجاب العاطفية الخفيفة، التي
أدتها على أكمل وجه مثل: «وبتسأل يا حبيبي» و«قالي تعالى» و«هو الطريق»، ونجحت كما
المتوقع، ليعرض عليها عمار بعد ذلك أن تغني شريطًا للأطفال من كلمات حجاب أيضًا
وألحانه، الأمر الذي أرهب عفاف في البداية وأشعرها بمخاطرة لا حاجة لها بها، وهي
تغني بتنوع الملحنين في هذا اللون العاطفي الملائم لصوتها الحالم؛ إلى أن جلس عمار
على عوده وأسمعها باقة من تلك الأغاني، لترد عليه عفاف في الحال:

نبطل عاطفي ونخليها أطفال.

وعفاف
راضي هي الوتر الذي أحس به رياض السنباطي بقيثارة تاريخية قد بُعثت من الماضي
فسقاها بالموشحات، فكان صوت عفاف راضي بعد ذلك هو منية فؤاد عبد المجيد، الصوت
الذي فتن القلوب بسحره فأدى «فتن الذي» و«يا منيتي يا مهجتي» و«حبي منيتي»،
واستمرت هي المنية حين رأى فيها الرحبانية فيروز مصر عندما حاولوا إعادة تقديم
مسرحياتهم في مصر.


لـ عفاف راضي تجربة سينيمائية واحدة مع فيلم «مولد يا دنيا» بصحبة محمود ياسين وعبد المنعم مدبولي وسعيد صالح ومحي إسماعيل، بتجمع كوميدي استعراضي غنائي لاقى نجاحًا منقطع النظير، وكان يمكن للتجربة أن تكون البداية فقط لمشروع ربما يكون سعاد حسني جديدة، ولكن على كلام عفاف نفسها فلم تلقَ العائد المادي المناسب، حيث حصلت نظير «مولد يا دنيا» على 300 جنيه، وبعد النجاح ورغبة شركة أفلام صوت الفن في تجربة أخرى عرضوا عليها مبلغ 800 جنيه وهو ما رأته عفاف «مش جايب همه»، لتقف تجربتها السينيمائية على هذا المولد، الذي يظل تحت منه مجموعة من الأغنيات العلامات، وهو من عوامل نجاح عفاف التي تعترف هي ذاتها به، بالأقدار التي أتاحت لها هذا الكم من العباقرة في طريقها، أغنيات الفيلم التي تقاسم كتابتها كل من: «مرسي جميل عزيز» و«عبد الرحيم منصور» و«مجدي نجيب» و«سيد مرسي»، وتقاسم ألحانها كل من: «بليغ حمدي» و«محمد الموجي» و«كمال الطويل» و«منير مراد».


لم
تحقق عفاف كذلك نجاحًا متواصلًا في تترات المسلسلات، وإن كانت غنت مؤخرًا

تتر مسلسل «أبو
العروسة»

ولاقى استحسانًا مقبولًا، كذلك كانت قد غنت تتر «أوبرا عايدة» وقد
كان إحدى جواهر ثلاثية عفاف وعمار وحجاب.


عفاف هي فتاة الكونسرفتوار التي ترعى الأطفال، هي هذا الخليط بين المراهقة والنضج… بين الأنوثة والوقار… الطرب والهمس… الأوبرا والمولد… الغناء على المسرح والغناء في الحلم، وكل الحلم أن تتغنى عفاف، أو أن يغني وتر الكمان.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.