على المرء أن يستحضر دومًا التأثير الذي يمارسه الزمن عليه، وكذلك حركية الأمور من حوله.





شوبنهاور.

هل حدث وأن توقفت لحظة وسط كفاحك المُنهِك ووسط سعيك من أجل حياة كريمة حتى أنك نسيت ذاتك القديمة وأصبح همك هو المواصلة فحسب، لتسأل نفسك كيف حدث هذا؟

تمشي
وسط الطبيعة فلا تلاحظها، تتعجل دومًا الوصول إلى وجهتك، تمر السنون دون حديث عميق
إلى أصدقاء طفولتك.

لماذا
أصبح اللهاث المستمر وانقطاع العلاقات هو السمة السائدة في واقعنا اليوم؟

قد
يعزو بعضهم السبب إلى تقصير من أنفسنا وإلى عجلة الحياة والوقت الذي يمضي، وهو أمر
على جانب من الصواب.

ولكن أليس هذا حال أغلب المجتمعات الحديثة؟ فهل هذه مصادفة؟

يحاول «زيجمونت باومان» في سلسلته الممتعة «السوائل» عبر علم الاجتماع إلقاء الضوء على طبيعة الحياة بوقتنا الحاضر في كافة الاتجاهات والنواحي. يحاول الوصول إلى تفسير لحالة التغيير الشديد المستمر في كل شيء، فلا يمر عام إلا وهناك الجديد، والويل لمن لا يلحق بركب الحضارة.

في أول كتب سلسلته «الحداثة السائلة» نعرج على وصفها لواقعنا اليوم وأثرها على التحرر والفردية، العمل والعلاقات والجماعات، وحتى تأثيرها تحت سقف المنزل الواحد.

ولكن،
لماذا نقرأ هذا الكتاب الذي يصف حال المجتمعات الغربية من شخص لا يعرف شيئًا عن العرب
أو خصائص مجتمعاتهم المختلفة بالضرورة عن الغرب؟

ذلك
لأنه لا ينبغي أن ننظر بمقياس التقابل النمطي بين الشرق والغرب، فالحداثة غزتنا على
مستويات متنوعة، ويعيش الناس على خريطتها طوعًا أو كرهًا، لذا لابد للأفراد والجماعات
أن تستوعب ما يجري إذا كانت تنوي تغيير مصيرها.

الحداثة السائلة هي وصف لعصر، توضح ما يحدث، وليس المقصود أنها فاعل مستقل يُسبِّب ما يحدث. وقد اختار باومان وصف السائل أو المائع كوصف دقيق لصفة التغير المستمر وعدم الثبات، فمن المعروف عن السوائل أنها تتشكل في الحيز الذي يُمنح لها ولا بقاء لحالها.

يبدأ باومان بوصفه لدور الحداثة كالتالي:

لقد كانت مهمة الحداثة إطلاق حرية التحقق والاختيار الإنساني من أسر الغيب وعدم الثقة وغياب اليقين في القدرة على سيطرة الإنسان على هذا العالم، والقيام بحرب غير مقدسة لإخضاع الطبيعة بالعلوم، وبالتالي رفع مستوى الحرية وضمان الفردية وإخراج المرء من القفص الحديدي للتقاليد.

فقد كانت الحداثة تهدف إلى صهر القديم من أجل الإصلاح والتجديد، والخروج من سطوة التقاليد للوصول إلى صورة نهائية للمجتمع، تتعزز فيها الحرية وتتحقق فيها العدالة وتتسم هذه الصورة النهائية بالثبات.

لكن الذي حدث أن الصهر استمر ولم تصل الحداثة إلى صورة نهائية، بل استمرت المشكلات والمعضلات بالظهور، وهيمنة الرأسمالية التي لا تعنى كثيرًا سوى بالسوق والاستهلاك، الذي سيصبح سمة أساسية في كل شيء.

وبسبب الحركة المستمرة لكل شيء وسط حضارة مادية، فقد ظهر وجه قبيح غير معلن حوّل الدين إلى طقوس فارغة من مضمونها وأربك العلاقة بين الفرد والمجتمع وأخفى سطوة الرأسمالية عبر ترويج أوهام السعادة.

وقبل الغوص في مظاهر وتأثيرات الحداثة السائلة، يجدر أن نوضّح أن الكاتب لا يتخذ موقف المهاجم الشرس فحسب، ولكنه يسعى لتوضيح ما يحدث حولنا وفهمه، ومع أنه لا يقدم حلولًا، إلا أن مفتاح الحل يكمن في إدراك المشكلة.

التحرر
والفردانية هما سمتا العصر، فقد عملت الحداثة على حصول كل فرد على حرية تامة فيما يفعل
في حياته الخاصة دون أي تدخل، وكحق أصيل لتقرير مصيره، ولكن هل تكفي الحرية فقط؟

فحرية الاختيار متاحة ولكن حرية اختيار وجهة يعوقها الإمكانات المناسبة، إذن فالحرية الحقيقية ليست ملكًا للجميع، بل لمن يستطيع فحسب.

إحدى مشاكل النزعة الفردية هي أنه وعلى عكس الماضي قد تم تحويل العبء من المجتمع إلى الفرد، فقد أصبح كل شخص مسئولاً عن نفسه.

فإذا
أخطأت في عملك فهو خطؤك لأنك لم تتعلم مهارات العمل الكافية وكيفية العبور من المقابلات
الشخصية، وإذا كنت تشعر بالوحدة فهذا لأنك لم تكتسب مهارات التأثير في الناس… كل
شيء يقع على عاتقك وحدك وكلُ يكافح وحده.

يحكي باومان قصة رمزية، وهي حكاية أوديسوس في الميثولوجيا اليونانية، الذي تحوّل رفاقه إلى خنازير، وعندما ذهب لإنقاذهم رفضوا وثاروا عليه، فقد كانوا سعداء بكونهم خنازير، مُتحللين من مسئولية اتخاذ القرارات، فهم يمرحون وسط نزواتهم دون خوف أو اعتبار من مسئوليات أو دوافع أخلاقية.

وفي مثال آخر، نرى أن أغنى رجل بالعالم (بيل جيتس) لم يقع أسيرًا لولع التشبث بالأشياء، فمنتجاته بقدر ما تُحدِث ضجة عند طرحها في السوق، بقدر ما تختفي سريعًا، وكثيرًا ما صرح أنه يفضل وضع نفسه في شبكة من الإمكانات والخيارات على أن يُقيِّد نفسه بوظيفة أو عمل ما، ويعرب دائمًا عن رغبته في تحطيم ما صنعه، غير مكترث إلا بمتطلبات اللحظة الراهنة. لذا كان حريصًا على عدم بناء أي علاقات ولا سيما العاطفية وعدم الارتباط بشيء على المدى البعيد بما في ذلك ابتكاراته الشخصية.

وهذه
هي سمة العمل حاليًا، فببساطة لا يوجد عمل لكل إنسان، لذا ففي عصر «تخفيض العمالة والمصاريف»
وزيادة الإنتاجية والفعالية، أنت مُعرَّض للطرد في أي لحظة، إذا توفر البديل التكنولوجي
لك، أو جاء من يقوم بوظيفتك بشكل أرخص، ويُلاحظ هذا في تشريد عمال كثيرين عند بدء الشركات
متعددة الجنسيات في تشغيل عمالة بالسخرة من الدول الفقيرة.

وفي هذا الجو المتوتر وسيادة الوضع الراهن يصبح الإشباع الفوري إستراتيجية معقولة، فإنك لا تأمن أن الجائزة تنتظرك في نهاية الطريق، بل يمكن أن تضيع في موجة لا يد لك فيها.

هذه صورة بسيطة، عرضت بعض مظاهر الحداثة السائلة وتأثيراتها التي لا تتعلق فحسب بالمناخ العام والمجتمعات، بل تؤثر شخصيًا عليك وعلى مساراتك اليومية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.