ارتبطت
مدينة «إرم ذات العماد» بقوم عاد في القرآن الكريم، لكنها وردت دون أي تفاصيل إضافية عدا وصفها بأنها «ذات
العماد»، على عادة الكتاب العزيز في عدم الإغراق في التفاصيل، والتركيز على الغرض
الأساس من القصة، وهو الاعتبار. ثم انتقلت القصة إلى القصاص الذين سعوا إلى بناء
قصة للمدينة، تستند إلى ما ورد في القرآن العظيم، لتبني عليه عوالمها المتخيلة. فكيف
تشكلت الحكاية بناء على هذه التفاصيل القرآنية المحدودة؟

محفزات الحكي: كيف بدأت الحكاية؟

بالعودة إلى ما ورد في القرآن، نجد ما يلي:

  • ربط مدينة إرم بقبيلة عاد: الفجر، 6-8: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ».
  • مسكن عاد بالأحقاف: الأحقاف، 21: «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ».
  • وصف عاد بالقوة: الأعراف 69: «وزادكم في الخلق بسطة».
  • وصفهم بامتلاك أسباب النعيم: الشعراء 128-135: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

انطلاقًا من هذه الآيات، يتضح أن القرآن الكريم ركز على قبيلة عاد، وما تمتعوا به من قوة جسمانية، ووفرة في الرزق، فأنشأوا الجنات والعيون، وبالغوا في اتخاذ مصانع اللهو والعبث والبطش. فكيف تشكلت الحكاية بناء على هذه التفاصيل القرآنية المحدودة؟

للإجابة عن هذا السؤال، نورد نصاً مهماً جداً لابن كثير- رحمه الله- في تفسيره؛ يقول مُلخِّصاً أقوال المفسرين في قوله تعالى: «إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ»:

وقوله: «التي لم يخلق مثلها في البلاد» أعاد ابن زيد الضمير على العماد لارتفاعها، وقال: بنوا عمداً بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد. وأمّا قتادة وابن جرير فأعادا الضمير على القبيلة، أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني في زمانهم. وهذا القول هو الصواب، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: «لم يخلق مثلها في البلاد». قلت: فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها، أو أعمدة بيوتهم للبدو، أو سلاحاً يُقاتلون به، أو طول الواحد منهم- فهم قبيلة وأمة من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع، المقرونون بثمود كما ها هنا ، والله أعلم. [1]

بدأت الحكاية بالتشكل إذن من تأويل نحوي للضمير في «مثلها»، هل يعود على القبيلة عاد؟ أم على إرم؟ يذهب واضع الحكاية إلى أن الضمير يعود على إرم؛ وهذا مهم جداً، لكونه يجعل جملة الصلة وصفاً لإرم- المدينة، فتصبح مدينة لم يخلق مثلها في البلاد، أي مدينة متفردة، واستثنائية، وخارقة للعادة، وبالغة الغرابة.

وظّف واضع الحكاية هذا الفهم للآية لتحفيز مقدرته التخيلية، ليبني صورة
لهذه المدينة الاستثنائية، وهنا سيجد في باقي أوصاف عاد سنداً آخر لرغبته هذه، وهو
اتصافهم بالقوة والبسطة في الخلق، واتخاذ المصانع. وبهذا تكتمل المحفزات لعملية
التخييل قد اكتملت.

تشكل الحكاية

تبدأ الحكاية بخبر أعرابي- عبد الله بن قلابة- يتيه في الصحراء (مُحفِّز حكائي)، طالباً إبله التي ضاعت منه، ليجد نفسه أمام مدينة إرم، فدخلها وتجول في أرجائها. وهذا التيه مهم جداً في سياق الحكاية؛ فلو لم يته الأعرابي، لكان عرف طريق العودة إليها، وهنا سيقع عليه عبء إرشاد الناس إليها، وهنا ستفقد المدينة عجائبيتها، وتصبح منكشفة للناس (حال كونها موجودة) أو ستطوى إلى الأبد (حال كونها مختلقة)؛ ولتجاوز هذا العبء، يعلن الراوي– الذي هو ابن قلابة نفسه- عن توهانه في الصحراء لينقذ حكايته من مأزق قد يقضي عليها.

لكن، ما الذي
أدى بالرجل إلى دخول الصحراء واقتحام مجاهيلها؟ إنه طلب إِبِله التي افتقدها؛ ففي
غياب هذا المُخفِّز تفقد القصة معقوليتها وهي التي تسعى لأن تكون معقولة؛ إذ لا بد
من سبب معقول يبرر هذا الدخول إلى الصحراء. ثم يأتي الدور على اختيار الأعرابي
بطلاً للحكاية، لكونه العارف بالصحراء ودروبها وتفاصيلها، والذي عايشها، وسار بين
كثبانها، ويستطيع بفضل هذه المعرفة الخروج منها، وبهذا، يضمن واضع الحكاية راوياً
لها، يستطيع تخليدها في الذاكرة الشعبية، فلو لم يستطع الخروج من الصحراء، لبقيت
المدينة مختبئة إلى الأبد.

وبعد دخول
الأعرابي المدينة، وخروجه منها، وعودته (لم تخبرنا الحكاية عن كيفية عثوره على
طريق العودة) يدخل إلى ديوان الخليفة وجلس ليقص عليه ما رآه. وهنا يثور سؤال صدق
الرجل في خبره: ما مدى صدق الرجل فيما يرويه؟

تتغلب
الحكاية على هذا المأزق من خلال الإحالة إلى سلطة معرفية يصعب التشكيك فيها، وهي
سلطة «كعب الأحبار»، الرجل الذي عنده علم بأخبار أهل الكتاب وكتبهم. يلجأ معاوية
بعد سماع حكاية الرجل إلى كعب، فيسأله عن خبر مدينة إرم (دون أن يُخبره عن عثور
الرجل عليها)، فيخبر كعب الخليفة عن نبوءة سابقة مفادها أن مدينة إرم مدينة بناها «شداد
بن عاد» مُحاكياً بناء الجنة، وأن سر المدينة سينكشف مرة واحدة على يد رجل محدد،
مذكور بصفته في النبوءة، ثم تأتي المفاجأة حين ينتبه كعب إلى وجود الرجل الموصوف
في المجلس فيقول: هذا الذي سيكشف سر المدينة على يده، فيخبره الخليفة بأنه قد اكتشفها
فعلاً.

وها هنا خدعة يمارسها واضع الحكاية على المتلقي، لاطمئنانه إلى عدم معرفة أصحاب المجلس بكتب أهل الكتاب وأسفارهم، وعدم انتشارها بين الناس زمن التأليف. وهنا يصبح كعب المصدر المؤتمن على صدق الحكاية. غير أن المفاجأة تكمن في أن هوداً- عليه السلام- وقومه عاد غير مذكورين عند أهل الكتاب، وقصة هود مما تفرّد بها القرآن الكريم من القصص عن كتب أهل الكتاب وأسفارهم.

وبهذا، تنجح الحكاية في الحفاظ على سر المدينة التي انكشفت مرة واحدة وعادت إلى الاستتار مرة أخرى. هذا الاستتار هو الذي حافظ على حياة المدينة في الحكاية وفي الذاكرة والمخيال؛ ومن دونه كانت ستنتهي إلى التكذيب والانمحاء من الذاكرة.

أنماط تلقي حكاية مدينة إرم

يقوم منهج المؤرخين القدامى: إلى عدم الاكتفاء بالإمكان الذهني للأشياء حتى يحكم بوجودها الخارجي– خارج الذهن- بل لا بد من النظر في إمكانها الخارجي. يقول المسعودي:

وقد تنازع الناس في هذه المدينة، وأين هي؟ ولم يصح عند كثير من الإخباريين ممّن وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين فيها، إلا خبر عبيد بن شَرِيَّةَ وإخباره إياه عما سلف من الأيام، وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب، وكتاب عبيد بن شرية متداول في أيدي الناس مشهور. وقد ذكر كثير من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار موضوعة من خُرَافات مصنوعة، نظّمها من تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها سبيل الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب «هزار أفسان»، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خُرَافة، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسان، والناس يسمون هذا الكتاب «ألف ليلة وليلة»، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها، وهما شيرزاد ودينازاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى. [2]

يذهب المسعودي إلى أن الحكاية موضوعة لضعف الإسناد؛ ولمخالفتها للعقول. وينسبها إلى رغبة الوضاع في التقرب من مجالس الملوك، ويرجعها ابن خلدون إلى عوامل تتعلق بضعف النقلة وعدم تحققهم من الروايات، إلى جانب التأويل النحوي الذي أشرنا إليه سابقاً.

يؤدي بنا هذا الموقف إلى البحث في أنماط تلقي هذه الحكاية؛ وهو ما يقودنا
إلى تحديد أنماط ثلاثة: التلقي العلمي، والوعظي، والأدبي:

1. التلقي النقدي التاريخي:

تفضي محاكمة الحكاية إلى قوانين صناعة التاريخ إلى إبطالها. فهي أولاً –كما
يشير المسعودي- غير ثابتة أصلاً من حيث إسنادها ونقلها، فهي مختلقة ومنسوبة إلى
معاوية. ثم هي من حيث اختبار المتن باطلة أيضاً، لكونها تخالف ما يقرره العقل
والعادة. فمن المستحيل في العادة على قدرات البشر إنشاء مدينة على هذه الصفة، فهي
تتحرك وتنتقل وليست ثابتة؛ ثم هي رغم كونها وسط الصحراء، فهي ذات ثمار وأنهار تجري
تحتها. ثم إن مكانها الذي توجد فيه قد قطعه المسافرون والتجار ولم يقفوا لها على
أثر… كل هذه الدلائل وغيرها تثبت استحالة وجود مثل هذه المدينة.

2. التلقي الوعظي:

إذا كان مقتضى صناعة التاريخ رفض هذه الحكاية، فإن التلقي الوعظي أكثر
تساهلاً في إيراد هذه القصص، ونظراً إلى أن صناعة الوعظ موجهة أصالة إلى العوام،
والطبقات الشعبية، فإنها تتخفف كثيراً من صرامة العقل، ومقتضيات العلم، وتسمح
بتسرب الخيال إلى مروياتها. وذلك لأن سلطة الواعظ لا تتحقق إلا باجتماع الناس
حوله، وكلما كثر الحضور دل ذلك على نجاح القاص/ الواعظ، وتمكنه من تكريس سلطته
وحضوره. ولكي يتحقق هذا المسعى، يلجأ القاص إلى الإيغال في الخيال، والإغراق في
الوصف، والتركيز في التفاصيل، والابتعاد عن الواقع، الأمر الذي يجذب الجمهور،
ويمتع خيالهم؛ فالشيء كلما كان أغرب كان أعجب وألذ للنفس.

3. التلقي الأدبي:

يحضر هذا
النمط من التلقي في مجالس الخلفاء والوزراء عادة. وهو تلقٍ مُتأسس على الإمتاع
والتعجيب والإدهاش. ولكي تتحقق هذه الوظائف، لا بد من الإغراق في الخيال والابتعاد
عن المألوف. على أن هذا المسعى يلتقي مع مساع خفية للراوي، إذ توجهه رغبتان
أساسيتان: نيل الحظوة لدى صاحب المجلس والتنافس في إرضائه ولو بالاختلاق والتزيد
والوضع؛ والثانية: تكريس مكانته كراوٍ، والتفوق على الأقران في الإتيان بكل غريب،
لتعزيز صورة العالم واسع الاطلاع، الممتلئ من أخبار المتقدمين.


المراجع



  1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: محمود حسن، دار الفكر، الطبعة الجديدة، 1994، ج4- ص617.
  2. مروج الذهب، ج2، ص251.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.