التصاعد الملحوظ في السنوات الأخيرة لدور المملكة العربية السعودية بالمنطقة هو دائمًا محل تساؤل حول مستقبله، خاصة مع التغيرات الأخيرة بعد تولي ولي العهد «محمد بن سلمان» زمام الأمور، و تطور دور المملكة خارجيًا على المستوى الإقليمي والدولي.

وقد رأى العديد من المحللين أن ذلك الصعود سيظل مرهونًا بقدرة الدولة على التعامل مع الأزمات الداخلية والمضي بسياسات حذرة لتلافي أي أخطاء أو زلات حدثت بتجارب دول عربية أخرى بالمنطقة، وبدا الوضع مستقرًا نوعًا ما لا يشي بأي تحولات.

لكن كل تلك الحسابات والتوقعات تغيرت تمامًا مع تصريحات «ترامب» «الفجة» التي تحدث فيها عن حماية المملكة من أخطار الدول المجاورة وأن عليها أن تدفع، ثم حادثة اختفاء الكاتب السعودي المعارض «جمال جاشقي» بعد دخوله إلى مبنى السفارة السعودية في تركيا لإنهاء بعض الأوراق الرسمية، تلك الحادثة التي انتهى الجدل في مصير الرجل بها بعد اعتراف المملكة رسميًا بقتل جاشقي على خلفية شجاره مع أفراد بداخل السفارة.

تلك الجريمة لم ترجح فقط حدوث اضطرابات داخلية نتيجة رد الفعل الخارجي، لكنها أيضًا بدأت تعيد إلى الأذهان سيناريو غزو العراق مرة أخرى.

وذلك الاحتمال أو السيناريو له منطقيًا أسبابه، فالسقوط المدوي بعد ذروة السطوة لنظام «صدام» كان حاضرًا بعد أيضًا الضغط الدولي، بل إن المسببات التي أدت إلى دخول حرب الخليج الثانية وتمرير المجتمع الدولي لغزو العراق هي نتاج مجموعة من الانتهاكات البسيطة المتراكمة.

في عام 1988 قصفت القوات العراقية منطقة حلجبة باستعمال مواد كيميائية بعد انسحاب القوات العراقية منها مباشرة انتقامًا من تحالف بعض سكان تلك المنطقة مع القوات الإيرانية في حرب الخليج الأولى التي انتهت بخروج العراق منتصرًا، وقد قتل في ذلك القصف حسب الإحصاءات من 3000: 5000 شخص، كما أصيب من 7000: 10000 شخص بالتشوه.

أرسلت إيران مباشرة بعد القصف صحفيين ليقوموا بتغطية الحدث ويلتقطوا الصور الأولى، التي نشرت في اليوم التالي بالصحف الإيرانية تحت عنوان «الصور الأولى للمجزرة»، كما عرض فيلم تسجيلي بالتزامن مع ذلك بجميع أنحاء العالم ليصور فظاعة المجزرة.

واتفقت تصريحات المصورين الإيرانيين العاملين بجرائد ووسائل إعلام أجنبية على رؤية واحدة وخطاب واحد في الحديث، من أمثلته أقوال المصور الإيراني بـ«الفاينانشيال تايمز» «جوليستان كاوه» والذي وصف السحاب المتشكل نتيجة القصف بأنه لم يكن كسحابة الفطر (المقصود بها السحابة الشهيرة المنبعثة نتيجة ضرب هيروشيما وناجازاكي)، لكنها كانت سحبًا متعددة متشابهة وكثيفة متفاوتة في الحجم، وروى كيف صدم من المشاهد التي كانت أفدح من كل مشاهد الحرب الإيرانية التي عمل على تغطيتها منذ البداية.

في فترة ذلك الهجوم بالتحديد كان موقف العراق داخليًا لا يطمئن، حيث وصلت الديون إلى مليارات، ودخلت الدولة العراقية مع العديد من الدول المجاورة في صدامات نتيجة أزمة الاستدانة، كما تأثر الاقتصاد والبنية التحتية، لذلك فلم يكن من الصائب القيام بتلك العملية الانتقامية أو الضلوع فيها لأنها ستؤدي إلى عواقب وخيمة فيما هو قادم خاصة بعد غزو العراق ودخول صدام دائرة الاتهام الدولي. حينها أغلقت الحكومة الأمريكية وحلفاؤها وأبرزهم الحكومة البريطانية الأمر تمامًا، لمدة ثلاث سنوات، حتى أنها أدانت في بعض الفترات إيران في تلك القضية لأنه كان من مصلحتها تقدم العراق.

لكن الوضع تغير تمامًا بعد غزو الكويت، حيث أعيد فتح تلك القضية وتوظيفها في سبيل الهجوم على العراق وفكرة الغزو، وصورت تلك المجزرة السابقة كإيذان باحتمالية تكرار النوبة مرة أخرى بالكويت إن لم يتصدى المجتمع الدولي لصدام.

«نيو يورك تايمز» حينها نشرت تقريرًا يتهم العراق باستعمال الأسلحة الكيميائية، منظمة مراقب الشرق الأوسط أيضًا أعدت تقريرًا أخذ العينات المحللة لتربة منطقة الحلجبة بمختبر «بورتون نيفل» بإنكلترا كدليل إدانة بات، «الأوبزرفر» البريطانية أفردت صفحات لسرد انتهاكات أخرى على هامش الحرب الإيرانية، وأعادت وسائل الإعلام الإيرانية فتح الملف لمصلحة الدولة بأن تبتعد أصابع الاتهام عنها حتى تفرغ لمشروعها النووي الوليد.

ورغم أن الغزو العراقي للكويت هو قرار آخر لا يضاهى في الغباء السياسي، إلا أنه لا يمكن إنكار تأثير التصوير الإيراني لمجزرة الحلجبة في تمرير قرارات تحكم الخناق على نظام صدام سياسيًا واقتصاديًا وتؤدي إلى زيادة ضعف الدولة وإنعاش آمال التحالفات المعارضة في الاستيلاء على الحكم، بل يمكن اعتبار تلك الحادثة من الأسباب الأساسية الصغيرة المؤدية إلى غزو العراق في 2003؛ أي بعد 11 عامًا من الاستنزاف البطيء.

لذا لا يمكن إغفال الدور الإعلامي على مستوى أي قضية و تأثيراته المستقبلية وهو خطأ متعمد أو غير متعمد كان يجب على المملكة أن تحسب حسابه عدة مرات قبل أن تتورط في عملية مثل تلك، وخاصة مع وجودها تحت الضوء، واعتراضات على العديد من ممارسات السياسة السعودية بالخارج، وقلق من مراكز القوى بالمنطقة (تركيا وإيران) من منافسة قادمة خاصة مع تضارب المصالح بالحرب الأهلية السورية بين الطرفين، بالإضافة إلى الانتهاكات المتعلقة بالمسئولية تجاه المجاعات اليمنية الحالية. وسيساهم مقتل خاشقجي بالطبع في تسريع وتيرة الأحداث ووضع كل التكهنات مرة أخرى على الطاولة.

عملية قتل خاشقجي تمت في القنضلية السعودية بتركيا، وتم اكتشافها بعد إبلاغ خطيبته «خديجة جنكيز» عن عدم خروجه منها لمدة أربع ساعات، ظلت الأمور بين النفي السعودي والتأكيد التركي، وطلبات التفتيش لمنزل القنصل السعودي والقنصلية ذاتها التي قبلتها الحكومة السعودية مع إرسال فريق تفتيش ليشارك بالتحقيق، وتصريحات دولية من الولايات المتحدة تؤكد متابعة ترامب بنفسه لمسار القضية، حتى أعلنت النيابة العامة السعودية وفاته على خلفية مشاجرة عنيفة داخل القنصلية مع قرار اتهام لـ18 مسئولًا وإعفاء نائب رئيس الاستخبارات السعودية «أحمد عسيري» من منصبه هو ومستشار الديوان الملكي «سعود القحطاني» مع إنهاء خدمات عدد من ضباط الاستخبارات العامة.

وحتى إعلان النيابة العامة خبر الوفاة، استغلت وسائل الإعلام المختلفة التركية والقطرية وجهات بالحكومة التركية الحادث لتحقيق أكبر ضجة إعلامية ممكنة منه، حيث تحدثت مصادر أمنية إلى وسائل إعلامية مختلفة ساردة تفاصيل التفاصيل بالقضية، بداية من الملابسات حتى كيفية التخلص من الجثة، والذي أضاف طابع الوحشية على الممارسة وأثار السخط الدولي أكثر وأكثر، نضيف إلى ذلك تصريحات «أردوغان» نفسه المتابع الأول للأزمة، والتأكيد التركي على وجود رد كامل على الرواية السعودية التي وصفت دوليًا بغير الكافية برواية أوثق وأكثر منطقية.

السؤال المهم الآن: ما هو مدى قدرة العلاقات السعودية الدولية الحالية على إبقاء الأمر كما هو عليه دون تصعيدات جذرية تضر بمصالحها المباشرة؟

الإجابة هو أنه حتى تلك اللحظة لا توجد إدانة أمريكية مباشرة للإدارة، وهذا في حد ذاته نقطة مطمئنة، إضافة إلى ذلك فإن الاستثمارات السعودية بالولايات المتحدة ودول أخرى بمنطقة الشرق الأوسط لا زالت ذات أهمية محورية، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن دورها في تسيير حركة الحرب بالوكالة القائمة بسوريا.

أما على مستوى الشركات العالمية فالعديد منها لا يزال لديه صفقات لم تتم بعد مع الجانب السعودي، «جيف بيزوس»، مالك «واشنطن بوست» التي كان يكتب بها خاشقجي له علاقات مع محمد بن سلمان وقد ظهرا سويًا في أكثر من مناسبة، كما أن مصادر أكدت أن القائمين على الجريدة أعلموه بخطوة تحرير الأخبار المتعلقة بمقتل خاشقجي باللغة العربية قبل القيام بها؛ وذلك ما لا ينص عليه القانون التنفيذي، لعلمهم بما بينه وبين ولي العهد.

لكن في نفس الوقت هل يمكن أن تمر القضية مرور الكرام كأي أزمة سياسية؟ هذا أيضًا صعب، فخاشقجي، الصحفي السعودي البارز الذي عمل بالعديد من جهات الدولة، كان أبرزها المستشار الإعلامي للأمير «تركي فيصل»، قبل أن يتحول للمنطقة الرمادية لا يزال عليه العديد من علامات الاستفهام، خاصة في موقفه من الدولة، التي يقف في صف نظامها الملكي لكن مع انتقاده كما جرى تصنيفه مؤخرًا، فما هي طبيعة تلك الحالة الهيستيرية التي تؤدي إلى قتله؟ وإلى ماذا ترمي الدولة بذلك (حتى الآن كل المصادر تنفي علم ولي العهد بقتل خاشقجي داخل السفارة)؟ وما هي الرسالة التي أريد إيصالها بذلك الفعل؟

ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة طالبوا بتحقيقات شفافة والمزيد من التفاصيل، ومحاسبة لكل فرد شارك في ارتكاب تلك الفعلة، الدول العربية أيدت ضمنيًا موقف السعودية ووصفته بالجريء. والموقف الأكثر تأثيرًا يأتي من شركات رؤوس الأموال المستقلة البارزة والتي قاطعت المؤتمر الاقتصادي بالرياض وهي: النيو يورك تايمز»، السي إن إن، أوبر، الإيكونوميست، بلومبرج، مجموعة فيرجين، جوجل كلاود، جي بي مورجان، فورد، والسي إن بي سي وفوكس بيزنس، وغيرهم.

مع كل تلك التصعيدات، لن تواجه السعودية تحديًا دوليًا كسابقه العراقي، سيظل رأس المال هو الحاكم، لا تملك السعودية موقف العراق المتطرف على المستوى الدولي، ولا زال يمكنها شراء ولاء حلفائها، لكن شبكة العلاقات تلك يمكن أن تنهار، خاصة وإن حدث تغير على مستوى الإدارة السياسية الأمريكية ورحل دونالد ترامب وأتى مرشح ديموقراطي أكثر تحررًا في التعامل مع الالتزامات الحالية، وهذا أمر وارد خاصة مع تصاعد الأصوات الرافضة لسياساته، وإن حدث ذلك فاحتمالية فتح تحقيق دولي في انتهاكات السعودية وعلى رأسها مقتل جمال خاشقجي كبيرة.

ذلك ما يتعلق بالمدى البعيد، أما التأثير الداخلي جراء الضغط فيمكن استنتاجه ببساطة من الإجراءات العاجلة التي حدثت، بداية من إعفاء مسئولين كبار بالدولة من مناصبهم، إلى البدء في إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات العامة، وحتى الأنباء المتداولة عن نية الملك سلمان في تحجيم صلاحيات ولي عهده، نضيف إلى ذلك قضايا الاعتقالات تجاه أمراء من أسر ملكية، والتي تصدى لها خاشقجي مباشرة قبل وفاته، كل ذلك سيؤدي إلى نتائج سلبية على المدى البعيد. القرارات الاستباقية السريعة المتأثرة بالضغط الدولي قد تساهم على المدى البعيد في ضرب الاستقرار الداخلي على مستوى الدولة الملكية المهدد من الأصل بعد سياسات الإبعاد والتهميش المتبعة حاليًا. لا ننسى أن المملكة مقبلة على برنامج 2030، وهو برنامج تنموي ضخم أي تعثر قادر على إيقافه.

النتائج القادمة على المدى البعيد قد تكشف صدق رؤيتنا، الوسائل الإعلامية للضغط تزداد قوتها يومًا بعد يوم، ولا تستطيع أي وسيلة قمع ردعها، قد نشهد سيناريو انهيار آخر، نوعًا يتوافق مع طفرات البترو دولار.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.