في عام 1945 عثر فلاح مصري بالصدفة المحضة على مخطوطات قديمة بالقرب من نجع حمادي في صعيد مصر. ويُعتقد أن هذه المخطوطات كُتبت في الأصل باللغة اليونانية، ثم تُرجمت إلى اللغة القبطية. وعادة ما يشير كثير من الباحثين إلى هذا الكشف باسم «المكتبة الغنوصية». هذا الوصف يعزى إلى أن كثيرًا من هذه المخطوطات تعرض سرديات دينية عجائبية عن أصل العالم والخطيئة والخلاص. لقد تعرض «الغنوصيون» (العالمون) إلى هجوم من قبل آباء الكنيسة الأوائل، واتُهموا بنشر خيارين متطرفين للخلاص: الزهد والإباحية.

والمخطوطات المكتشفة، والمعرفة الآن باسم «مكتبة نجع حمادي»، تعرض غالبية كبيرة من الشخصيات الأنثوية الخطاءة، أو لنكن أكثر دقة، غالبية ساحقة من المومسات. والفكرة المحورية الغنوصية الرئيسة في تلك النصوص تحكي عن عالم متناغم من الخير والنور (يُقال له البليروما) تعرض إلى تفكك وانهيار بسبب إله شرير، أو خطأ، أو انحراف عن النظام القائم. ويقع اللوم على الشخصية الأنثوية صوفيا/الحكمة لما وقع من انحراف عن النظام في بعض الأساطير الغنوصية، ويعتقد أنها الصوت الشعري الأنثوي في أحد أبرز النصوص بمكتبة بجع حمادي، ألا وهو النص الشعري «الرعد: العقل الكامل». وهنا نستكشف أثر هذا النص في شعر الكاتبة اللبنانية جمانة حداد في ديوانها «دعوة إلى حفل سري» (2008)، حيث تستخدم جمانة حداد الوجه الآخر لصوفيا، أي ليليت، في تفكيك الصور المجازية التقليدية المرتبطة بالنساء، وإن كان ذلك على حساب الاحتفاء بصورة المرأة القاتلة في الفن والأدب.

«دعوة إلى حفل سري» عبارة عن ترجمة إنجليزية لقصائد مختارة من شعر جمانة حداد الذي نشرته من قبل في أعمالها باللغة العربية: «دعوة إلى عشاء سري» (1998)، و«يدان إلى الهاوية» (2000)، و«لم أرتكب ما يكفي» (2003)، و«عودة ليليت» (2004). وقد ترجمت هذه القصائد المختارة جمانة حداد وآخرون، وحررها خالد المطاوع وقدم لها. ورغم أن القصائد المختارة الرئيسة تتضمن صورة مجازية متماثلة ومقولات متماثلة من النص الغنوصي القديم «الرعد: العقل الكامل»، فإن جمانة حداد لم تعترف أبدًا بفضل هذا النص الشعري عليها في كتابة قصائدها.

عودة ليليت، يدان إلى هاوية، دعوة إلى عشاء سري، جمانة حداد

أغلفة دواوين: عودة ليليت، يدان إلى هاوية، دعوة إلى عشاء سري ــ جمانة حداد

في كثير من المناسبات، تؤكد حداد أنها كائن فرد، فهي لا تسعى إلى تغيير العالم من خلال كتاباتها، ومن ثم فهي تنأى بنفسها عن ربط الشعر بأيديولوجية أو رسالة أو فكرة معينة. هذا الموقف ليس مغالطة قصدية، بل ينعكس تأكيدها المفرط على الفردية في صوتها الشعري الرئيس، صوت ليليت التي تظهر في شعرها لا لتمثل النموذج الأصيل لاستقلال المرأة، بل النموذج الأصيل للشهوانية الجنسية العدوانية. أما الأصوات الشعرية الأنثوية الأخرى فتُظهر ميلًا شديدًا إلى الفردية، وتتحول أجسادهن إلى المرجعية النهائية للمعنى خارج التاريخ والثقافة والتغير الاجتماعي. والسرديات التي تحكي عن الأدوار النسائية الشريرة في شعر حداد تمثل ما يمكن أن نسميه نموذج ليليت أو المرأة القاتلة. فرغم اختلاف التفاصيل في السرديات المختلفة عن ليليت، سواء عند الحديث عن جلجامش ولاماستو وعشتار، أو السرديات التي وردت في التلمود، فإن عدوانيتها الشيطانية تعكس رغبة في إيذاء الرجال والأطفال بالمرض والمعاناة والتدمير.

والمصدر الأدبي الأول الذي يجذب انتباه الناقد من أجل التعريف بليليت هو مسرحية فاوست التي ألفها جوته، وبداية من منتصف القرن التاسع عشر، ظهر نموذج المرأة القاتلة وشكلت نموذج ليليت. إن تصوير عدوانية ليليت يفوق تصويرها باعتبارها رمزًا لاستقلال المرأة حتى أن جسد المرأة صار الموضع الذي تتجسد فيه إرادة الشر.

هذا التأكيد المفرط على الشهوانية الجنسية العدوانية يبرز الاختلاف التام بين الإسهام الأدبي الذي تقدمه حداد والإسهامات الأدبية التي قدمتها الكاتبات اللبنانيات من أجيال سابقة. ففي تقديم لقصائدها المختارة التي جاءت بديوان «دعوة لحفل سري»، يوضح خالد المطاوع أن:

الأجيال التي سبقت جيل حداد كان يمثلها كاتبات رائدات، انصب اهتمامهن على تعزيز دور المرأة في المجتمع رغبةً في تخفيف ألوان الاضطهاد الذي كان يقع على الرجال والنساء على حد سواء. أما اهتمام حداد فيقع خارج أدب الالتزام، على افتراض بأن العبارة الاجتماعية المبتذلة تخترق أكثر الفضاءات خصوصية، لاسيما الفضاء الشهواني الذي يدعي فيه الرجال والنساء حقوقهم على أساس القوة لا على أساس تحقيق الرغبات والحاجات المتبادلة.

إن تأكيد حداد على الجانب الشهواني، مع ذلك، صار نهاية في حده، ووصل الأمر إلى ذروته بإصدارها مجلة إباحية تسمى «جسد» باشتراك سنوي يبلغ 130 دولارًا أمريكيًا.

يعلق ريتشارد سميث على أهمية الغنوصية الحديثة قائلًا:

إن إحدى الاستجابات الغنوصية لأمراض المجتمع وشروره تتمثل في الحروب من المجتمع، أما الاستجابة الراديكالية الأخرى فتتمثل في الاحتفاء بالجسد والانغماس في الخطايا الدنيوية وملذاتها. ومع ذلك، فإن هذه الإباحية، إن كان لها وجود في الأصل، تقوم على ميتافيزيقا مشتركة تدعم مقاومة إله شرير يُعتقد أنه خلق عالمًا شريرًا وفاسدًا. فالغاية النهائية من هذه المقاومة تتمثل في وضع نهاية للعالم والإله الشرير. ورغم أن هذه رؤية عدمية، فإنها تتمركز حول المستقبل، وتبرز اهتمامًا بخلاص البشرية.

أما حداد فتحول تلك الفكرة الغنوصية الأساسية وصورة صوفيا في «الرعد: العقل الكامل» إلى فكرة وصورة راديكالية لا لتدافع عن تحرير المرأة واستقلالها في مجتمع ذكوري، بل لتحتفي بالفردية والشهوانية. فالأصوات الشعرية في قصائد حداد، في مقابل صوفيا التي انتهى تمردها وسقوطها في ظلام العالم بالتوبة والعودة إلى البليروما، تحتفي بوهوياتها باعتبارها تراكمًا للعدوانية الشهوانية والخطايا والأخطاء، فتتلاشى تمامًا ميتافيزيقا الخلاص.

ترجم جورج مكراي قصيدة «الرعد: العقل الكامل» من القبطية إلى الإنجليزية، وحررها دوجلاس باروت في الطبعة المنقحة الثالثة من كتاب جيمز روبينسون «مكتبة نجع حمادي باللغة الإنجليزية» (1988).

يؤكد مكراي الطبيعة الفريدة لهذا النص باعتباره خطابًا يكشف فيه الصوت الشعري عن نفسه في ثلاثة أشكال: الجمل التقريرية عن الذات بضمير المتكلم «أنا»، الحث على الإنصات إلى المتكلم، والتوبيخ على الفشل في الإنصات أو الحب. ومع ذلك يرى مكراي أن سيادة الجمل التقريرية المتعارضة والمتناقضة عن الذات هي السمة الرئيسة في قصيدة «الرعد: العقل الكامل». ويتجلى ذلك في الجمل التقريرية الشعرية التالية: «أنا المعرفة والجهل، أنا الخجل والجرأة، أنا من غمرني الخجل وأنا من بلا خجل، أنا القوة وأنا الخوف، أنا الحرب والسلام». تلك الجمل التقريرية الشعرية المتوالية لما يبدو تعريفات متناقضة بالذات لا تنطوي على أية إشارات يهودية أو مسيحية أو غنوصية مميزة ولا يفترض أية أسطورة غنوصية.

يقول محرر هذه القصيدة:

إن كثيرًا من الباحثين يذهبون إلى أن الصوت الشعري الأنثوي في هذه القصيدة هي صوفيا في الأدب الغنوصي، بل وربما حواء الغنوصية التي تتسم بدور إيجابي غير تقليدي في الدراما المتعالية للسقوط. إن القول بأن الصوت الشعري هي صوفيا يقوم عادة على العبارات التالية التي تقولها الذات المتكلمة عن نفسها: لما كرهتموني، أنتم أيها الإغريق؟ لأنني بربرية بين البرابرة؟ لأنني أنا حكمة الإغريق ومعرفة البرابرة. أنا حكمة الإغريق وحكمة البرابرة. أنا التي صورتها عظيمة في مصر والتي لا صورة لها بين البرابرة.

ومع افتقار هذا الرأي لأي دليل دامغ، فإنه مهم جدًا للأطروحة التي ندافع عنها في هذه المقالة لأنه يؤسس أثرًا نصيًّا بين بطلتين: صوفيا في«الرعد: العقل الكامل» وليليت في شعر جمانة حداد. كما نجد نصين نثريين في مكتبة نجع حمادي يؤيدان هذا الاستنتاج، (1): في تأويل الروح، و(2): التعاليم القاطعة للمخطوطة رقم خمسة. فأما النص الأول فهو يسرد حكاية قصيرة عن روح عذراء تعيش وحدها مع الإله الأب، ولما انحرفت عن النظام الإلهي القائم، سقطت من البليروما، سقطت من عالم الخير والنور إلى عالم الشر والظلام، سقطت في جسد، وصارت عاهرة، وظلت تعاني من الأسر الجنسي والنفساني، وأنجبت ذرية قبيحة مشوهة. ولما تابت، بعث الإله الأب أخاها عريسًا، وفي غرفة العرس، غمرهما حب أبدي روحاني حميم. وأما النص الثاني فيعرض حكاية قصيرة عن مراحل مختلفة من حياة الروح عندما صارت عاهرة، ثم تحولت إلى بطلة منتصرة، وفي النهاية عروسًا جميلة.

ربما كانت هاتان الحكايتان القصيرتان معالجة رومانسية لصورة صوفيا كما رسمها القديس إرينيئوس عندما هاجم الغنوصيين وهرطقاتهم. إن القصتين كلتيهما يبرزان انحرافًا عن النظام الإلهي القائم، يتبعه سقوط المنحرفين، ثم يظهر انشغال متزايد بالتوحد من جديد في عالم البليروما. إنهما يستحضران قصة صوفيا، الآيون الأخير الذي يترك البليروما بحثًا عن آفاق جديدة.

ومع أن جمانة حداد لم تستخدم صوفيا صوتًا شعريًّا أنثويًّا في أي من قصائدها، فإنها استخدمت الوجه الآخر لصوفيا، أي ليليت. إن ليليت هي الظل العبراني لصوفيا، فهما يرمزان إلى المنفى والتهميش لما لهما من قدرة على توكيد الذات، ومقدرة جنسية، وتأكيد على الاستقلال. لقد عالجت جمانة حداد أسطورة ليليت في قصائدها النثرية، إذا جاز التعبير، وهي تبرز مقاومة التهميش والسقوط لما وقع من تمرد على نظام قائم، وإن كانت تحتفي أكثر بالقوة الجنسية التدميرية.

الاهتمام بالتأويل يغير النظر في الأشياء، ولذا يعاد النظر في كثير من السرديات التقليدية عن الوجود والخلاص من أجل مراجعتها وإعادة تأويلها. فزوجة آدم الأولى ليست حواء، بل ليليت، والأفعى ليست الحيوان الخبيث الذي أضل آدم وحواء، بل مرشدة حقيقية للمعرفة. بل إن حواء نفسها والأفعى تكرمهما بعض السرديات غير المألوفة، ويصير الأكل من تفاحة شجرة المعرفة خطوة في الاتجاه الصحيح لا خطيئة تستدعي الندم والتوبة.

إن جمانة حداد في مفتتح قصائدها المختارة تحدد الصوت الشعري الرئيس وتؤكد على استقلالها: «أنا ليليت، المرأة الأولى، شريكة آدم في الخلق، لا ضلع الخضوع». كما أن الصوت الشعري تربط نفسها بالحكاية الغنوصية التي تعطي الأفعى دورًا إيجابيًا في الدراما التالية للسقوط: «حرضت رسولي الأفعى على إغواء آدم بتفاحة المعرفة». فالغنوصية يتفرع منها أنصار الأفعى الذين اعتقدوا أن الأفعى كانت المسيح نفسه أو صوفيا نفسها في صورة حيوان، ومن ثم فلابد للناس أن يدينوا بالفضل للأفعى الطيبة التي دلت آدم وحواء على الغنوص أو المعرفة.

تستخدم حداد ضمير المتكلم باستفاضة، وفعل الكينونة الذي لا يظهر في اللغة العربية. وتكرار ضمير المتكلم يمكن النظر إليه باعتباره محاولة لإبراز الشخصية القوية المستقلة للصوت الشعري، ولكن هذا الأسلوب خداع جدًا؛ فضمير المتكلم يظهر ثماني وثلاثين مرة، ولكن القارئ يفشل في نهاية المطاف في تحديد هوية الصوت الشعري لأنها الأنثى التي ترمز لكل شيء ونقيضه: «أنا العذراء ليليت، وجه الداعرة اللا مرئي، الأم العشيقة والمرأة الرجل. أنا الليلُ لأني النهار، والجهة اليمنى لأني الجهة اليسرى، والجنوب لأني الشمال».

ويمكننا أن نجد هذا التناص مع الصوت الشعري في قصيدة «الرعد: العقل الكامل»، فنجد صورًا مجازية معقدة تتحدى الإدارك التقليدي للنوع الجنسي: «أنا الأم والابنة. أنا أعضاء أمي، أنا العاقر، وأنا التي كثير بنينها». ويمكننا أن نعثر على صور مجازية مماثلة في ديوان جمانة حداد عندما يقول الصوت الشعري: «حرّروني من شرط الإنجاب لأكون القَدَر الخالد … أنا المرأةُ المرأة، الإلهةُ الأم والإلهةُ الزوجة. تخصّبتُ لأكونَ الابنة وغوايةَ كلّ زمان».

في قصيدة «الرعد: العقل الكامل»، يبدأ الصوت الشعري جمله التقريرية بضمير المتكلم وفعل الكينونة الذي لا يوجد في العربية، وتنسب إلى نفسها سلسلة طويلة من المتناقضات والثنائيات المتعارضة: «أنا الأولى والأخيرة. أنا الكريمة الشريفة والحقيرة الذليلة. أنا العاهرة والمقدسة. أنا الزوجة والعذراء». ونحن نجد مثل هذه الجمل التقريرية المتناقضة في الآداب الغنوصية والمندائية، بل والهندية، وهي تؤكد العلو الإلهي الغيبي المتجلي.

وتستخدم حداد جملًا تقريرية قريبة جدًا في قصيدة لها بعنوان «عودة ليليت»: «لأنّي الأولى والأخيرة، المومس العذراء، المشتهاة المهابة، المعبودة المرذولة، المحجوبة العارية». يرد ضمير المتكلم خمسًا وسبعين مرة تقريبًا، وضمير الملكية ثلاثًا وثلاثين مرة تأكيدًا على استقلال الصوت الشعري وقوتها. بيد أن الصوت الشعري تعي أيضًا أن هويتها مائعة وغير ثابتة وتجمع بين الأضداد: «حارسةُ البئر أنا وملتقى الأضداد .. قدرُ العارفين إلهةُ الليلَين. إلفة النوم واليقظة. أنا الجنين الشاعر. أهلكتُ نفسي فوجدتُـها. أعودُ من منفاي لأكون عروس الأيام السبعة وخراب الحياة المقبلة». بل إن الصوت الشعري على وعي بالنظرة المزدوجة تجاهها: «ترويني اللغات الأولى وتفسرني الكتب، وعندما يرد ذكري بين النساء تمطرني الأدعية باللعنات».

هذا الوعي يمكن أن نتتبعه أيضًا في قصيدة «الرعد: العقل الكامل»: «أنا التي كُرهت في كل مكان، أنا التي أُحبت في كل مكان». هذا التناص يظهر في مواضع أخرى من القصيدة: «أنا التي يمتدحونها كل المدح، وأنا التي يبغضونها كل البغض».

هذا التناص يعزز العلاقة بين الأدوار التي تقوم بها كل من صوفيا وليليت، وهو يتضح تمامًا في وعي الصوت الشعري بالمنفى في شعر جمانة حداد وقصيدة «الرعد: العقل الكامل». تقول جمانة حداد على لسان ليليت: «وأنزلوني إلى المنفى لأكون وجع الشرود. جعلوني الرهينةَ للقفر من الأرض والفريسةَ للموحش من الظلال، وطريدةَ الكاسر من الحيوان جعلوني. عندما عثروا عليَّ كنتُ ألهو. لم أستجب فشرّدوني وطردوني لأني خرجتُ على المكتوب». وهذه الكلمات تتردد أصداؤها في قصيدة «الرعد: العقل الكامل»، حيث يعبر الصوت الشعري عن وعي بالعواقب المأساوية للمنفى ويتوقع موقف السامعين: «لا تتكبروا عليّ عندما أُنفى في الأرض … ولا تحتقروني عندما يُلقى بي بين المذمومين وفي أقذر الأماكن، ولا تسخروا مني».

وفي الجزء الأخير من هذه المقالة، سأوضح أن جمانة حداد تجاوزت هذا النص الغنوصي القديم، واستخدمت التصوير الذكوري الحديث لشخصية ليليت حتى تخلق نسخة راديكالية من الصور المجازية عن الأنثى.


الكلام الموجز الذي يصدر عن الصوت الشعري في قصيدة «الرعد: العقل الكامل» لا يتجاوز صعوبة استيعاب النوع الجنسي والهوية المائعة التي لا يقر لها قرار. أما الأصوات الشعرية في قصائد جمانة حداد فتتجاوز الأسطورة الغنوصية وانشغالها بالخلاص واستعادة النظام. فالصوت الشعري عند جمانة حداد يتكاثر، وتنجب ليليت بنات كثيرات تشكل نموذج ليليت أو المرأة القاتلة. فقصيدة «نشيد سالومي ابنة ليليت» تحتفي بضمير المتكلم وضمير الكينونة المحذوف في العربية، وتمزجه بعدد من أفعال الحركة مثل: أرقص، وأشرب، وأُقبِّل. وهذه الأفعال تصور الصوت الشعري باعتبارها تملك زمام المبادرة، الفاعل وليس المفعول، وإنت كانت أفعالها عنيفة وعدوانية ودموية:

سوف أقبل رأس حبيبي في فمه / لكي يبتسم الموت لي مرة أخيرة / فيا معشوقي وكاملي.. / تعال يا يوحنا / أنا القلادة المخطوبة لعنقك المقطوع / تعال عمدني بالشمس التي لوحتك / من أجلك وحدك أنا عدت / دماؤك التي أهرقتها اجعلها تدلك على الطريق.

ويؤكد الصوت الشعري بكل وضوح مسؤوليته عن شهوة الدماء من دون شعور بالذنب، فتتجلى نزعة سادية نموذجية تتسم بها شخصية المرأة القاتلة في الفن والأدب.

إن استخدام حداد لأصوات شعرية متعددة مثل عشتار وسالومي وغيرهما لتصوير مهمة ليليت يمكن أن نراه متسقًا مع الاحتفاء الحديث بتيمات محورية مثل النزعة العدوانية والخطيئة والموت والنجاة في صورة الجمال الأنثوي. هذا الجمال المتوحش ينعكس في لوحات جوستاف مورو لكل من سالومي وهيلين وكيلوباترا. أما الشاعر هينرش هينه، فقد استبدل فكرة الجمال الجسدي المتوحش بفكرة الحب والموت، فقد أبت سالومي يوحنا المعمدان لكنها لم تستطع أن تحظى به، فكان قتله واستلام رأسه امتلاكًا لما أحبت ولم تستطع أن تلمس.

إن لذة قتل الرجال اكتسبت بعدًا جديدًا مع ملارميه الذي جعل شخصية سالومي متماثلة مع شخصية ليليت. وكل هذه التمثيلات للأنثى أبدعها الخيال الذكوري، واحتفت بهم الشاعرة اللبنانية جمانة حداد في كافة قصائدها تقريبًا. وظفت حداد أصواتًا شعرية متعددة، وأكدت أهمية الموت والخطيئة، وقدمت شخصية المرأة القاتلة في صورة راديكالية في استجابتها لتهميش النساء في المجتمع. فالأصوات الشعرية الأنثوية المتعددة ليست مختلفة رغم تعددها، إنها إنتاج لمرض خبيث أو ورم سرطاني على جسد البشرية.

عندما يتحدث الصوت الشعري في قصيدة «الرعد: العقل الكامل»، يدور الحديث عن الخطيئة، وتظهر الهوية المزدوجة: «أنا الشهوة في مظهر خارجي، والتحكم الذاتي الداخلي يوجد بداخلي … أنا بلا خطيئة، وأنا أصلها». ويمكننا أن نستشف هذه الهوية المزدوجة في شعر جمانة حداد عندما تصف ليليت نفسها بأنها حمامة تداعب الأسد بصوتها لتروضه وتلبس ثيابها كالعاهرة.

هذه الازدواجية تبرز ثراء الشخصية، لكنها تبرز أيضًا الطبيعة الزائلة للصوت الشعري، فهي تعيش وجودًا شبيحيًّا طيفيًّا عدوانيًا لا وجودًا يعكس القوة والاستقلال. ولا غرابة أن هذه الازدواجية تتلاشى في شعر جمانة حداد في سبيل احتفاء أحادي البعد بشحصية المرأة القاتلة في الفن والأدب. ففي قصيدة بعنوان «لم أرتكب ما يكفي»، يتخذ الصوت الشعري موقفًا راديكاليًا في الاستجابة للتهميش، حتى تتلاشى فكرة الانتماء، وتترسخ عبادة الخطيئة:

لقتُ سهوًا في الحياة/ ورغمًا عني/ ولكي لا أقع من حافة الضجر/ نذرت يديّ لأغلاط حميمة/ ولم أكن يومًا واهمة/ أحببت وأغلقت أبوابًا كثيرة/ لئلا أهب أحدًا غيابي/ تعمدّت أن آثم/ لتكون لي ذنوب مستحقة/ سرت طويلًا في صحبة الظل/ وطويلًا أغويت الملذات/ ما رأيت سربًا إلا تبعته/ ما صادفت نارًا إلا أخذتني/ لكني لم أرتكب ما يكفي من الأخطاء/ وسيمضي وقت طويل/ قبل أن أبكي كما يجب/ سيمضي وقت طويل/ قبل أن أعرف كيف أفسد حياتي.

فالصوت الشعري يعي وجود الخطيئة، لكنه يبحث عن المزيد منها، بل ويلجأ إلى عبارات متناقضة مثل «أغلاط حميمة». فالصوت الشعري في استجابته للتهميش يتحدى أفق توقعات القارئ ويفكك الطبيعة البنائية للخطيئة باعتبارها شيئًا سيئًا، ويضفي عليها بدلًا من ذلك صفات إيجابية. إن وصف أمر ما بأنه خطيئة ينطوي ضمنًا على وعي بفكرة العقاب، لكن الصوت الشعري حريص على تفكيك البناء الاجتماعي للواقع، وهذه الإستراتيجية تتسق والسرديات الغنوصية ونبرتها المتمردة كما يقول هانز يوناز:

بدلًا من السيطرة على النظام القيمي للأسطورة التقليدية، تأتي السرديات الغنوصية لتثبت معرفتها الأعمق ببواطن الأمور، فتعكس أدوار الخير والشر، والرفعة والوضاعة، واللعنة والتكريم، الموجودة في السرديات الأصلية. إنها لا تحاول إظهار الاتفاق، بل صدم المتلقي بكل صراحة بهدم المعنى الذي تحويه عناصر التراث الراسخ والمقدس. فنبرة التمرد لتلك السرديات الغنوصية واضحة جدًا، وهي أحد تجليات الموقف الثوري الذي تتخذه الغنوصية في الثقافة الكلاسيكية المتأخرة.

يصر الصوت الشعري على تحدى النظام القائم الذي يجعلها شيئًا سلبيًا صامتًا ينتظر الذكر النشط الغازي. وهكذا نجد أنفسنا أمام استجابة راديكالية للتهميش، تصبح فيها «الأغلاط الحميمة» هي معايير المقاومة. بل إن عنوان القصائد المختارة «دعوة إلى حفل سري» له دلالته، لاسيما أنه يستحضر عنوان عمل سابق للشاعرة جمانة حداد، وهو «دعوة إلى عشاء سري». إن كلمة «دعوة» تبرز فكرة المبادرة الذي يأخذ بزمامها الصوت الشعري الأنثوي. وما دامت الدعوة تتجاوز مجرد «عشاء سري» لتصبح «حفلًا سريًا»، فإن الاستجابة الأنثوية للتهميش تأخذ شكلًا راديكاليًا.

يصير الجسد مركز الهوية، ويمتلك الصوت الشعري الأنثوي زمام المبادرة بحيث يستحوذ الصمت على الذكر الذي يذهله الجمال المتوحش. هذا التوجه ربما يبرز نبرة وجودية تعكسها مغامرة الصوت الشعري الأنثوي وبحثها عن قوة الأنوثة والحرية واللذة والكمال وسيولة الجسد وميوعة الروح تجاه فعل التلذذ نفسه وتجاه حضور الذكر. بيد أن سيولة الجسد لا تشير إلى إمكانية التوحد مع العاشق أو الرابطة الإنسانية بين الرجال والنساء، بل إنها تحتفي بنموذج المرأة القاتلة في الفن والأدب، المرأة المتوحشة التي تتخذ من قوتها التدميرية الجنسية وسيلة للخلاص من الهيمنة الذكورية. إن لحظة التهام الذكر تصبح الهدف النهائي. إن محاولة إنقاذ المجتمع من ضعف المرأة وعدم استقلالها تختزل في الانحراف الجنسي وترويج الفردية والنزعات السادية وإرادة الشر. وهذا ما نستشفه من هذا التحليل النقدي، وإن كانت جمانة حداد تنأى بنفسها عن كل الأيديولوجيات. ففي قصيدة لها بعنوان «هوية»، تتوصل على نحو قاطع بأنه لا أمل للنور أن يهديها، وأنها لا تملك في هذه الدنيا إلا أغلاطها.

تمثل رؤية حداد تحديًا للعالم الأنثوي نفسه لما تنطوي عليه من نزوع راديكالي نحو التدمير والعدوان. فربما ترمز ليليت إلى الاستقلال والعدوانية على حد سواء، لكن عندما نتناول الأعمال الأدبية، يفترض الفهم السردي المسبق مفردات الفاعل والمفعول، والبطل والشرير. ومن ثم فإن الأسئلة التي يدور حولها الحديث هي: لماذا تتعرض النساء للاضطهاد؟ لماذا تتعرض حواء إلى الحرمان من الاستقلال؟ لماذا تتعرض بنات حواء إلى المعاناة في هذا العالم؟ إن رمزية الشر في أي نص أدبي، كما يقول بول ريكور في نظريته المثالية، يتوقع منه أن يساعد على تعاطف القارئ مع استقلال النساء، لا مع عدوانيتهن وقوتهن الجنسية التدميرية.

إن حداد تتجاوز ذلك، وتظهر نوعًا من اللا مبالاة عندما تعي أن إنتاجها الشعري يرسخ التمثيلات الذكورية المبغضة للنساء، فتؤكد في كثير من الأحيان أن المرأة في أي نص يكتبه الرجال كائن جنسي ذو نهدين يقظين وشفتين متلهفتين وبشرة متوهجة، ولا ينبغي لهذه الصورة أن تتغير في النصوص التي تكتبها النساء، وإلا تحول الجسد الأنثوي إلى هيكل حمل هموم البشرية الكبرى، ولا يبالي باللذة والحب والرغبة. إن المفارقة تكمن في أن حداد تشارك في إنتاج الصور المبغضة للنساء كما في التصوير الذكوري لشخصية ليليت باعتبارها النموذج الأصيل للجمال المتوحش والشهوة والخطيئة، ويعد هذا الموقف ترسيخًا للمنظومة الأبوية المهيمنة.

في الدفاع عن التمركز حول الخطيئة وسيولة الجسد والتحقير من عالم القيم، تركز حداد على الحاضر واللحظة العابرة للذة، وهي بذلك تقترب من السمة العدمية لكل من الغنوصية والوجودية، فلا تخفف من حدة الهيمنة الذكورية، بل تشارك في تفكيك تراث شرقي وغربي ثري جدًا.


والخلاصة التي يمكن أن نستشفها من هذا التحليل تتمثل في أنه بالرغم من عدم اعتراف جمانة حداد بفضل قصيدة «الرعد: العقل الكامل»، فإنها استخدمت صورها المجازية الرئيسة ومقولاتها وجملها التقريرية. لقد استخدمت حداد الوجه الآخر لصوفيا، أي ليليت، في تفكيك الصور المجازية التقليدية المتعلقة بالنوع الجنسي، وإن كان ذلك عبر الاحتفاء بشخصية المرأة القاتلة في الفن والأدب. ومع ذلك تتجاوز حداد النص الغنوصي القديم، وتقدم استجابة غنوصية جديدة للتهميش. فالأصوات الشعرية الأنثوية في قصائد حداد تعتبر الجسد صورة مجازية أساسية تبرز الالتزام بالخطيئة والعدوانية الشهوانية. ولكن هذه الأصوات الشعرية تختلف عن الصوت الشعري في قصيدة «الرعد: العقل الكامل»؛ ذلك لأنها لا تربط هذا الالتزام بأية خلفية ميتافيزيقية، دينية أو علمانية، وهذا بالتحديد ما يجعل استجابة حداد للتهميش والاغتراب في المجتمع استجابة راديكالية. إن دعوة العاشق الذكر إلى عشاء سري أو حفل سري من أجل إغوائه وتدميره يصبح الركيزة الوحيدة للمعنى خارج التاريخ والثقافة والتغيير الاجتماعي.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.