يتنفس أهل مكة الصعداء. فقد تسامع الجميع الأنباء عن أن جيش الشام الأموي يلملم عدده وعدته بقيادة سيء الصيت الحصين بن نمير السكوني قافلًا إلى الشام بعد ورود الأنباء بهلاك يزيد بن معاوية. كان أهل مكة يعدون الثواني والأنفاس عند بدء الحصار الخانق على قبلة المسلمين من قبل هذا الجيش حقير السيرة.

وهل ينسى أهل مكة ما حدث منذ شهور عندما أوقع هذا الجيش بقيادة الهالك مسلم بن عقبة – ومن ضمن قادته الحصين هذا – بأهل المدينة قتلًا وترويعًا وسلبًا ونهبًا وإذلالًا و – في بعض الروايات التاريخية – اغتصابًا في وقعة الحَرَّة – 63هـ – عندما خرج أهلها بقيادة عبد الله ابن الصحابي الجليل حنظلة غسيل الملائكة على حكم يزيد اعتراضًا على قتله الحسين وإجرامه واستبداده بأمر المسلمين دون شورى.

ولذا لم يتعجب أهل مكة عندما انهمرت بعض قذائف المنجنيق الأموية على الحرم في هذا الحصار. فمن نكَّلوا بأهل المدينة وأبناء وأحفاد الصحابة ولم يكَد يمر على دفن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في ثراها الطاهر خمسين عامًا، لا سقف لما يمكن أن يفعلوه إرضاء لحكامهم الفجرة أصحاب رواتبهم.

وقف عبد الله بن الزبير وجنده فوق أحد التلال يراقبون الانسحاب المتحير المتعجل للجيش الأموي، وابتسامة من الظفر والتحدي تملأ وجهه، وتنطق بأنه سيشعل بلاد المسلمين نارًا تحت هؤلاء الأمويين الذين استباحوا كل شيء وداسوا كل الخطوط الحمر في سبيل الانفراد الكسروي بحكم المسلمين.


الكعبة في مرمى السياسة من جديد

نعود الآن إلى الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول 2016 … أي منذ أيامٍ ثلاثة. لا حديث للإعلام إلا عن الصاروخ الباليستي الذي أطلقه الحوثيون من شمال اليمن مستهدفين مكة المكرمة! لكن يد العناية الإلهية سببت الأسباب لإبطال الكارثة بواسطة صاروخ باتريوت أمريكي دمر الصاروخ على بعد 65 كم فقط من مكة. وهكذا نحن أمام حلقة جديدة مفزعة من مسلسل السفه السياسي الطائفي الدموي في عالمنا العربي.

يدافع الحوثيون – المحسوبون على معسكر إيران و روسيا وحزب الله وبشار – عن أنفسهم بأنهم كانوا يستهدفون مطار جدة الدولي – 70 كم من مكة تقريبا! انتقامًا من الجريمة الشعناء التي ارتكبها الطيران السعودي عندما قصف جلسة عزاء لأحد قياداتهم في صنعاء منذ أيام وأوقعت أكثر من 500 من المدنيين بين قتيل وجريح!

تتصف الصواريخ طويلة المدى التي يمتلكها الحوثيون – والتي هي إما من صواريخ سكود الروسية العتيقة أو محاولات إيرانية أو محلية لتطويرها – بافتقارها الشديد إلى الدقة وتأثرها بشدة الرياح بشكل لا يتناسب أبدًا مع طول مداها الكبير، وقوتها التفجيرية الكبيرة. لذا لا يمكن مبدئيًا استبعاد التبرير الحوثي ولا تفهمه. فصاروخ كهذا إن سقط على منطقة مدنية مأهولة سواء كانت هي هدفه أم لا .. سيحدث مجزرة مهولة. تخيل معي لو سقط هذا الصاروخ فعلًا على آلاف المعتمرين والمصلين في كعبة الله الحرام من كافة جهات الأرض، أو آلاف المسافرين من مشارق الأرض ومغاربها الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع المقيت!

ألهذا الحد وصل السفه وشهوة الانتقام فيما بين عناصر ومكونات هذه الأمة؟!!

وعلينا توقع الأسوأ والأفجع، طالما استمر الجنون السياسي والعسكري في منطقتنا، واستمر قطار السعار الطائفي خارجًا عن قضبانه ليسحقنا تحت عجلاته، وفي خلفية المشهد موسيقى أمريكية وصهيونية احتفالية راقصة!


الشاة التي ضرنا ذبحها وسلخها



نجحت أسماء بنت أبي بكر في إهانة الحجاج وظفرت بجثة ابنها البطل المصلوب. لكن لم ننجح نحن حتى الآن في التبرؤ والتخلص من الحجاج – وكل حجاج – فكرًا وسلوكًا وتطبيقًا.

يحاول أهل مكة جاهدين حبس دموعهم، وكتم مشاعرهم وكظم غيظهم. فمن يعتلي منبر حرمها هذه الجمعة شخصية لم يسمعوا ويروا مثيلًا لها في الغلظة. ولن يسمح لا بفعل ولا بقول ولا حتى انفعال يفهم منه الاعتراض على ما حدث ويحدث وسيحدث. تسيطر على الجميع أحاسيس اقتراب القيامة. وماذا بقي في الدنيا من إرهاصات قيامتها أسوأ من أن تقصف الكعبة بيت الله الحرام وينهدم أجزاء منها على رؤوس المحاصرين فيها، والأدهى أن مصدر القذائف مجانيق جيش «الخلافة الإسلامية»!

لم يكن يصدق أحد أنه خلال أقل من 10 سنين تنتهي الثورة الزبيرية هذه النهاية الكربلائية المفجعة، وهي التي طوّقت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها سوى بُقَيْعة صغيرة من أرض الشام، خرج منها الأمويون بالمال والدهاء والبراجماتية – بالتعبير الحديث – التي لا حد لها، ليسحبوا البساط شيئًا فشيئًا من تحت الخليفة ابن الزبير، حتى قتلوا أخاه مصعبًا في العراق ( 72هـ)ـ، وحاصروه وثلة قليلة من جنده في الحرم المكي (73هـ) حتى قتلوهم، وصلبوا ابن الزبير كأنه من قطاع الطرق. وهاهو قائدهم السفاح الحجاج الثقفي يقف على منبر الحرم – الذي وقف عليه ذات يوم نبي الرحمة والشورى والعدل – ليبرر أفعالهم الشنيعة، ويعلن للجميع بمنتهى التصالح الفج مع الذات أنه يتقرب إلى الله بقصف حرمه والتنكيل بمن تحصَّنوا فيه، من أجل حفظ استقرار «الدولة الإسلامية» و «وحدة الخلافة»!

نجحت أسماء بنت أبي بكر – وهي في التسعين من عمرها – في إهانة الحجاج وظفرت بجثة ابنها البطل المصلوب. لكن لم ننجح نحن حتى الآن في التبرؤ والتخلص من الحجاج – وكل حجاج – فكرًا وسلوكًا وتطبيقًا.


أحفاد يزيد الثائرين vs ثوار الحسين المستبدين السفاحين!

بينما أتصفح تويتر أتابع أخبار الثورة السورية الباسلة التي نجح غباؤنا وتخطيط أعدائنا المتصهينين في تحويلها إلى واحدة من أبشع وأكثر الحروب الأهلية كارثية في تاريخ أمة الإسلام، هالني تعليقات كثير من المؤيدين للثورة على بعض انتصارات المقاومة السورية ضد ميليشيات بشار وداعميه الروس والإيرانيين والحزباليين – نسبة إلى حزب الله – والذين يمجدون المقاومين بعبارات طائفية فجة، تدور حول «هيا يا أحفاد يزيد – الطاغية المستبد الذي ورث حكم المسلمين قهرًا !! – والأمويين، اسحقوا شيعة بشار الروافض»!

وفي المقابل أصابني بالغثيان محاولات الجانب الآخر – من مؤيدي حزب الله وإيران – إضفاء الشرعية والقدسية على جريمته التاريخية بالدعم غير المشروط لسفاحهم بشار في حربه المجنونة لإبادة الثوار من شعبه، فيصفون جنود بشار الحثالة ومؤيديهم بأنهم الآخذون بثأر الحسين – الذي استشهد في حربه ضد طاغية – من النواصب أحفاد جيوش الشام التي كانت عماد دولة الأمويين التي قامت على أشلاء الحسين وشيعته!

وهكذا وصل اللامنطق الطائفي المستعر إلى أن تجره السياسة ومصالحها الدنيئة لتمثل ثارات مر عليها زهاء أربعة عشر قرنًا، ولتستمر رحى الطائفية في جزَ أعناقنا وسحق تاريخنا وتدمير وعينا. فيجعل العناد الطائفي البعض يعتبرون بشار السفاح شهيدًا كربلائيًا على المذبح الحسيني، ويرد الآخرون بجعل يزيد والحجاج وأشباههم من مستبيحي المقدسات تحت ركاب السلاطين والطغاة رموزًا للثورة ضد الشيعة الذين يقتلوننا على الهوية ويريدون إبادة السنة!

وهكذا يأخذ المعسكر الأول كلام سفهاء الثاني ويقول هاكم الشيعة الروافض يتقاطرون من كل أنحاء الدنيا ليذبحوا أهل السنة، فلنذبحهم جميعًا قبل أن يذبحونا، والثاني يستشهد بسفهاء الأول ليُسعّر جمهوره ودهمائه «ألم نقل لكم أنهم نواصب للعداء لأهل البيت، هيا نبيدهم عن بكرة أبيهم».. ويقف العم سام يراقب المشهد في سخرية قرموطية ولسان حاله «أشوفها بتولع!»


الاستبداد والطائفية هما الداء

يشعرني بعض من يختزلون المشهد في أنه صراع طائفي سني شيعي، أنه لو كان بشار الأسد يلبس الجلباب الأبيض القصير ويضع السواك في فمه، ويمارس نفس استبداده الذي ورثه عن أبيه بنفس الإجرام ونفس الطغيان، لكنه يعادي إيران وحلفها، وخرج عليه شعبه، لقاتلوا مع بشار السني المؤمن دفاعًا عن الشرعية! وسحقًا له من لامنطق. وليس بمستغرب أن يصلوا إلى هذا ما كل التسمم الفكري الذي يملأ صحائف فقهنا السياسي وتاريخنا من تراكمات عصور الاستبداد والتخلف المتتالية.

أما نظائرهم من الجانب الآخر وفي مقدمتهم مؤيدي دولة الثورة «الإسلامية» التي تضع في المادة السابعة من دستورها نصرة المستضعفين حول العالم، فيكفي لدحر لامنطقهم، أن نذكرهم بأن بوتين حليفهم وسيدهم الأكبر هو سفاح المسلمين في الشيشان، وبشار الذين يستميتون من أجله لا يقل طغيانًا وإجرامًا وسفكًا وسفهًا عن الشاه المأفون الذين بنوا شرعيتهم على أنقاض دولته. والعار كل العار على حزب الله الذي قتل من جنوده في برك الدم السورية أضعاف من قتلوا أيام أمجاد سحق الميركافا، وأيام ما اعتقدنا أن نصر الله هو نصر من الله، وتفاؤلنا خيرًا بأن الأمة كلها ستلتف حول أحرار السنة والشيعة المثخنين في الصهاينة – العدو الأول – من فوقهم ومن أسفل منهم.

وهكذا لا يزال تاريخ الاستبداد في التجييش الطائفي يعيد نفسه. والخلاف السني الشيعي أصل منشئه خلاف سياسي. ولم يخلُ عصر إسلامي من المتاجرة به من الطغاة لكسب الولاء والشرعية والنفوذ. منذ أيام الطالبين وكل من الأمويين والعباسيين. ثم أيام البويهيين الشيعة والسلاجقة السنة، والفاطميين الشيعة والعباسيين السنة ثم الأيوبيين السنة، وأيام العثمانيين السنة، والصفويون الذين شيَّعوا معظم شعب إيران جبرًا واختيارًا ليحتموا من المدافع العثمانية بالخندق الطائفي.

والجانبين المتصارعين الآن – حلف إيران وما يمكن مجازًا تسميته بحلف السعودية – لو رآهما الحسين لتفل على الأرض وخرج على الجميع بسيفه. ولو رآهم يزيد، لاحتار كثيرًا في أن يحترف – بلغة الكرة – في هذا المعسكر أو ذاك!

والكعبة المشرفة لا تتشرف بأن يتوجه هؤلاء وهؤلاء إليها في صلواتهم، بينما قلوبهم تغرق في الحقد والطغيان والمطامع والثارات الدموية البشعة، والإثخان في بعضهم البعض.

مكمن أدوائنا هو الاستبداد وحرمان الأمة من قرارها، وتجييشها فقط في المسار الطائفي الذي يثبت عروش الطغاة ولا يعيد لها كرامتها وحريتها. ولن نعالجه إلا بصدمات عنيفة من التغيير الفكري في العقيدة والفقه والفكر والأدب وفلسفة التاريخ حتى نتيقظ جميعًا من تراكمات غفلة قرون الجهل والاستبداد والطائفية المتراكبة. وإلا فلتهنأ إسرائيل ومن وراءها بديمومة من الانتصار. ولنتجرع في صمت مرارة الجوع والخوف والقهر بما كنا وما نزال نصنع.

وحتى يأتي اليوم الذي تكون فيه قناعة الأكثرية منا، أنه لو تكرر المشهد الحالي، وكان الشعب السوري من عبدة الأصنام، وبشار «مسلمًا موحدًا»، لوجب علينا – كأمة العدل والكرامة والحرية – أن نأخذ على يده حتى نكسر ظلمه وطغيانه وسفكه للدماء البريئة وننصر الشعب المظلوم. سنظل ندور في دوامات الاستبداد والطائفية والتخلف بلا شاطئ. ويظل الخوارج – كداعش – يجدون ألف ثغرة للنفاذ إلى الوعي والواقع.

لا يمكن أن تمجد يزيد والحجاج، وتدعي الثورة والحرية والعدل.

المبادئ الحرة المؤمنة لا تتجزأ يا سادة!


وما تزال الكعبة تحت الحصار والقصف



الجانبان المتصارعان الآن لو رآهما الحسين لتفل على الأرض وخرج على الجميع بسيفه. ولو رآهم يزيد، لاحتار كثيرًا في أن يحترف في هذا المعسكر أو ذاك!

لكل ما سبق. لم أستسِغ أبدًا متاجرة آل سعود بالقصف «المزعوم» تعمُّدُه – مزعوم لا تعني نفيًا ولا إثباتًا – على الكعبة المشرفة. ومحاولتهم استغلال الأمر لإسناد جبهتهم التي تتضعضع يومًا بيوم، ولو على حساب التأجيج المجنون للهوس الطائفي الذي يحرق الجميع على مدار الساعة في العراق وسوريا واليمن وسواها.

لن يغسل تجميل الكعبة وكسوتها الفاخرة بملايين الريالات دماءنا التي تتلطخ بها يد خدمتها ومن والاهم، والذين في خمس سنين مضت أنفقوا من خير المسلمين مئات المليارات لمحاولة سحق انتفاضات الحرية من تونس إلى اليمن مرورًا بمصر وليبيا وسوريا والعراق، ولو كان الثمن تدمير المنطقة كلها وإدخالها في المجهول، لتكون عبرة أمام شعوبهم إن فكرت في الاقتداء بالثائرين.

وكل روح بريئة أتلفتها الثورة المضادة في هوسها المجنون أشد على الله من هدم كعبته المشرفة التي يتشدقون بخدمتها حجرًا حجرًا.

حرروا الكعبة من طغيانكم، ومن أموالكم الضّرار أولًا. ثم انسبوا أنفسكم إليها كما تشاؤون.

لقد كان الربيع العربي في بداياته، فرصة نادرة لتصحيح الأوضاع ولحرف مسار الهاوية التاريخية الذي نتدحرج فيه – ولو نسبيًا – بأقل الخسائر. لكن أبى الاستبداد الخليجي والطمع الإيراني البراجماتي المغلف بالطائفية إلا أن يدهسا كل الخطوط الحمر، وينصرا إسرائيل وأمريكا وروسيا بقصدٍ أو بغير قصد على حساب دمائنا وأعراضنا وحاضرنا ومستقبلنا.

الحروب الأهلية المتلبسة بالطائفية لا كاسب فيها ولا خاسر. لن يستطيع «السنة» إبادة ربع مليار شيعي، والعكس أكثر استبعادًا. وحل الخلاف السني الشيعي هو تقديس التعايش بين الجميع، والالتفاف ضد عدو الأمة الأكبر.

ولا مخرج في رأيي من الجنون الدموي الحالي إلا أن يعترف الجميع بكارثية ما حدث ويحدث، ويجلسون في ظل الكعبة – بدلًا من المتاجرة الرخيصة بها – ليتنازل كل طرف عما يستطيع. فتقدم إيران بشار كبش فداء مقابل حل فوري للكارثة السورية يضمن لشعبها عودة للحياة وحد أدنى من الكرامة والحرية، ويحافظ على درجة من توازن النفوذ فيها بين المعسكرين، مع محاولة إخراج الطارئ الروسي والأمريكي من المعادلة قدر المستطاع. وأن يتوقف القصف العبثي لشعب اليمن المحصور بين المطرقة والسندان، ويحظى بحل مشابه لسوريا. وتعتذر القيادة السعودية ” الجديدة ” وحلفائها في الخليج عن كوارث سابقتها ضد الربيع العربي. فيتوقف عبثهم بمصير ليبيا والذي أوصلها إلى أن تكون ساحة نزاع 3 حكومات !، ويصرفون سحرهم الأسود الذي نفثوه عامدين في مصر، حتى تشفى من السكتة الدماغية التي أصيبت بها. ويوقفون كذلك محاولات التحرش بالانفراجات النسبية للربيع العربي في تونس والمغرب. ويبدأون في إصلاح سياسي وفكري وحقيقي في بلاد الخليج، يعيد للشعوب شرعيتها ويجعلها دولًا حقيقية تليق بالزمن الحديث.

الأكثر مرارة هو أن مشروع الحل السحري السابق، هو أكثر ما استطعت أن أهتدي له واقعيًا – على حساب المبادئ كثيرًا -، ومع ذلك يبدو مستحيلًا في غمرة الجنون والعبث الطاغي الحالي!

ولذا أدعو الله أن يخفف قضاءه فينا، وأن يحفظ دماءنا وكعبتنا من أنفسنا!



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.