المقال مسجّل صوتيًا، يمكنك الاستماع إليه في آخر المقال.

(١)

في الثلاثين ندرك الأشياء التي أفسدتنا. أدركتُ متأخرًا أن التصوف أفسدني، فمثلما هَذَّب في نفسي كثيرًا، فإنه قد أفسد كثيرًا كذلك، وكانت علاقتي بالنبي واحدة من هذا الكثير الذي فسد.

جعلتني هذه المبالغات في المحبة والتقديس حول جمال النبي، ونور النبي، وعرق النبي، مليئًا بأسئلة بلا إجابات، لدرجة أن تصبح سببًا في ابتعادي عن الطريق، وأن أستبدل بالنبي في حياتي، صحابتَه. كنتُ راغبـًا في مواراة مبالغات المحبة والتقديس هذه للنبي خلف حكايات أكثر إنسانية ومعقولية لصحابته.

قرأتُ كل ما وقعت عيني عليه من حكايات وفُتنتُ، ولا أزال، بحكاية أبي بكر. كنت مفتونًا بدوره كصديق في لحظة كنتُ فيها وحيدًا، وأحتاج لصديق مثله يؤمن بي، ولو كنتُ بلا رسالة، ويقف جواري في كل ما سيأتي دون مخافة الفُرقة في منتصف الطريق.

كانت حكاية الصدّيق هي الحكاية التي توارت خلفها كل هذه المبالغات، وكانت علاقة النبي وأبي بكر تحديدًا، وبعيدًا عن أي سياق ديني أو عقائدي، مُلفتة لدرجة جعلت أثرها باقيًا في نفسي كل هذه السنوات، وأدوم من كل هذا الرصيد من المعجزات والصلوات والشعائر محبتهما التي تراكمت مع العمر، وزادت ولم تقل.

كنت مأخوذًا بهذا الصَديق الذي يطلع عليه النهار ويقول له الناس إن صديقه يقول إنه قد صار نبيًا ولا يغير هذا مما في قلبه من شيء، مكة كلها تنقلب ويتمايز أهلها ويتخذون أماكنهم من دعوته غيرةً من محمد أو كِبرًا أن يتبعوه، ومحبة أبي بكر ثابتة لا تهتز أو يعكر صفوها الغيرة وأسئلة الاستحقاق.

كانت هذه المحبة رفيقي ومؤنسي، ومثلما فُتنت بمحبة سيدي أبي بكر فُتنت بقول النبي: «إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر». اللحظة التي قرأت فيها هذه الجملة، كانت هي اللحظة التي شعرت فيها لأول مرة بعاطفة حقيقية تجاه النبي، مشاعره بالامتنان لصديقه وصورته على المنبر يُقِر بها أمام عموم الناس.

في أيامه الأخيرة رسمت الخط الأول في صورته الجديدة في خيالي، صورته كإنسان بلا مبالغات، الصورة الأكثر صدقًا، وحقيقة، وجمالًا من هذه الصورة المقدسة التي تعرفت فيها عليه على سجاد الطريقة.

تغيّرت أشياء كثيرة في حياتي، واهتزت كل الصور والذكريات تحت معاول إعادة التأويل، ولكن ظلت صورتهما معًا، كصديقين، يهربان معًا من مدينتهما لأرضٍ جديدة ثابتة في خيالي، أستعيدها كأرض صلبة، أخيرة، يمكنني الوقوف عليها بينما يهتز كل شيء آخر بلا توقف.

(٢)

لكل منا حكاية تأسره وتأخذ بجماع قلبه، وكانت حكايتي هي رجلين من أرضٍ بعيدة، ومن زمن آخر، ظلت محبتهما وصداقتهما باقية رغم دوران الأيام، وكانت هذه الحكاية بابًا أعاد عليَّ سؤالًا كان يُطاردني وأهربُ منه: ما الذي يدفع رجلًا مثل محمد –مهددًا بالقتل من قومه ويعرض نفسه على القبائل سرًا بحثًا عن مكان آمن- يسأله رءوس القبائل:

«أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟» أن يجيب هذه الإجابة المُختصَرة المُحبِطة: «الأمر لله يضعه حيث يشاء». إجابة غريبة، ومستهترة، لرجل مُهدد بالقتل ويبحث لنفسه عن ملجأ، وكان ردهم منطقيًا: «أفَتُهدَف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك».

فكرت في الإجابات المعقولة والمنطقية التي يفترض لشخص يبحث عن النجاة أن يقولها ردًا على سؤالهم، ما الذي كان سيضيره لو وافق مثلًا وترك الأمر للأيام لو وافق وتراجع بعدها بناءً على ما سيحدث، ثم ما المشكلة أصلًا في أن يكون لهم الأمر ماداموا سيدفعون وحدهم ضريبته، محمد بلا أبناء ذكور يطمع لهم فيما له بعده، فلماذا هذه الإجابة المحبطة؟ ولماذا يُضيّع هذه الفرصة التي ربما تكون فرصته الوحيدة للنجاة؟

لم تكن هناك إجابة لسؤالي، مثلما لم تكن هناك إجابة أيضًا لسؤال:

ما الذي يدفع رجلًا في الأربعين تجارته مستقرة وبناته على مشارف الزواج، وسيكون جَدًّا خلال شهور، للوقوف على جبل الصفا وإعلان أن «لا إله إلا الله»، وهو يعرف أن الإجابة بالضرورة ومن الأقربين ستكون «تبًا لك سائر اليوم»؟ يعود بعدها لبيته بعد تفرُّق الناس عنه بتجارة كاسدة وبنات فُسِخَت خطبتهن، وقد صار في نفس اللحظة نبيًا منبوذًا وبلا أتباع.

لأيام تالية ظل السؤال يتكرر في نفسي بلا إجابة، غير أنه كان مُساقـًا لهذا كله، لكل ما سيأتي في حياته من حوادث، تحركه قوة أكبر منه، تجعل الشخص الذي عاش الجزء الأكبر من حياته يتجنب الناس، يقضي ما تبقى من حياته في محاربتهم لأجل دعوة ظهرت له فجأة وهو في الأربعين. شيئًا أشرق في قلبي، إنه النُبوّة.

(٣)

متأخرًا جدًا أظنني أدركت قيمة النبيّ؛ أحببته كصديق. تخيلت غضبته لأجل صاحبه ومقالته: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كَذَبْت، وقال أبو بكر صَدَق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي» وأبتسم، أكرر في نفسي لفظ «صاحبي» حتى يطمئن قلبي، وكأني بالكلمة أستعيد إيماني القديم بالمحبة، ولكن ظلت علاقتي به كنبي بعيدة وغائمة.

في ليلة بعينها وبينما أقرأ في كتاب الله، خطر على قلبي أن النبي تلقى هذا الوحي وكانت مهمته تبليغه، وأن باب محبته ليس لكمال خَلقه وخُلُقِه، ولكن لأنه النبي الذي تلقى هذه الآيات وبلغها حتى وصلتني، إنه باب الخير، وإنني مَدين له بهذا الخير الذي هداني إليه، بما بلغ عن ربه إلى يوم ألقاه.

شعرت ليلتها أن قلبي يُفتح على اتساعه ويُشرق بالمحبة والشوق، محبة تُبدد كل الأسئلة، وشوق يجعلني أركض عائدًا كل الخطوات التي قطعتها في الاتجاه الخاطئ أغني ملء قلبي: «بدي أزورك يا نبي .. ياللي بلادك بعيدة».

في اليوم الأخير في «المدينة»، وبينما أتحرك ببطء مع التيار المتدفق في الممر الصغير المؤدي للوقوف أمام مقَام رسول الله وصاحبيه، يختلِط صوت تحيّتي وصلواتي له بتحيات وصلوات تُقال بكل اللغات، أُقرئه السلام مني ومن آخرين حملوني أمانتهم، وأعتذر منه عن جهلي وتقصيري طوال سنوات مضت، كنتُ فيها أعمى عن محبته، قلتُ بصوتٍ عالٍ: «معذورين يا سيدنا»، وفي قلبي عَتَب أنه لم يعلمنا أحد، لماذا يجب أن نحبه؟ سلمت على سيدي أبي بكر، ووقع في قلبي، ويجوز للمرة الأولى في حياتي، أنهما دُفِنا معًا.

غالبتُ دموعي وابتسمت، وعندما تجاوزت المَقام مدفوعًا بشوق الآخرين غلبني الشوق والتفت، أدركتُ وقتها أني كنتُ أدخل للنبي، وطول سنين عمري، من باب أبي بكر.




مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.