لا يجادل أحد في قوة التقدم التقني والعلمي في عالم اليوم، واندفاع البلدان نحو الإنتاج والزيادة في الإنتاجات العلمية والتقنية، والتفنن في الصناعة وكل الآليات ووسائل الاتصالات التي اقتحمت عالمنا السري، وتركت صدى وتأثيرات جمة على السلوك والعلاقات الإنسانية، من ظهور شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والثورة الإعلامية، وعصر الصورة والفضائيات، وتناسل القنوات الناقلة للأخبار العاجلة من العالم، وتغطية موسعة بوسائل تقنية عالية الجودة والدقة في التحري واستقصاء الخبر، وبذلك يكتفي الإنسان بالجاهز دون تكليف نفسه بالتساؤل عن الخلفيات والغايات من وراء أبعاد الخطاب.

من هنا تبدأ التأويلات وقراءة ما وراء الصورة من أفكار نقدية تصب في خانة التشكيك والتقليل، وطرح التساؤلات الممكنة عن الأهداف والمرامي الخفية والظاهرة للصورة، ومن هذا التعدد تأتي الحاجة للفلسفة بخصائصها المميزة في إثارة السؤال والبحث عن الحقيقة، والشك في الأفكار الواردة، والتأويل للحقائق دون إنكارها، حاجتنا بالفعل للتفلسف وتكوين صورة ذهنية عن وجودنا وتفاعلنا في العالم. فهل حقًا للفلسفة وظائف في عالم الصورة والتقنية؟ وهل يمكن للفلسفة مجاراة إيقاع العلم والتقدم التقني في عالم اليوم؟

مهمة الفلسفة في عصر التقنية

بوسعنا دائمًا العودة من جديد إلى الينابيع الأولى للفلسفة، في التماس رؤى الفلاسفة اليونان في التفكير والبحث عن الحقيقة، وإزالة اللبس والغموض عن الأشياء الغامضة، وفي الأمر غاية مهمة في تجديد الرؤية للذات والواقع.

ساهمت حكمة القدماء في التأسيس للوجود والموجود، ومحاولة للتفكير في الكائن الإنساني اليوم في واقع التيه والاغتراب الذي يعاني منه، جرّاء هيمنة التقنية وسيادة العصر التقني. ففي تحليل الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر»، يمتلك الإنسان -المقيم في لحظة معينة من الزمان- تفكيرًا مستقلاً، ويتخذ مواقف من المعيش والآخر والعالم، وذلك تعبيرًا عن الوجودية، وتفاديًا للسقوط في الرداءة والابتذال، ومجابهة أعباء الحياة اليومية، وهذا الكم الهائل من الصور والوقائع.

مهمة التفكير اليوم أبسط من تفكير الأمس (الذي اتخذ من المفاهيم والقضايا الكبرى إشكالات للبحث والتفكير)، وعند نهاية الفلسفة بوصفها ميتافيزيقا اكتملت في الإعلاء من قيم معينة مطلقة ونهائية من أفلاطون إلى نيتشه، وقلب هذه الحقائق يعني نقد وخلخلة تاريخ الفلسفة باعتباره ترسبات للفكر النهائي الثابت، وتجاوز هذا النمط من التفكير نحو إعادة النظر في الوجود. تدرك الفلسفة نهايتها في عصرنا الراهن. لقد وجدت مكانًا لها في عملية البشرية الاجتماعية الفاعلة. لكن الطابع الأبرز لهذه العملية هو كونها أنظمة تحكّم علمية، أعني الطابع التقني. [1]

ويتساءل الفيلسوف هايدغر عن مهمة التفكير الآن بعد نهاية الفلسفة، تفكير يُنتِج ذاته من الآني، وحاجة الناس لكل ما هو مناسب لعالمهم الصناعي العلمي –التقني- بوصفه أساس ومنطق الحياة في الحاضر والمستقبل. ويكشف الفلاسفة في الغرب من أمثال هابرماس وهربرت ماركوز عن ملامح الهيمنة التقنية على الحياة وتراجع الفعل التواصلي باعتبار التقنية أيديولوجية العصر، والهوة بين التقدم الكمي والتقدم الكيفي، وما تنطوي عليه التقنية من آثار سلبية على الوجود البشري الذي أصبح مُهددًا بفعل انزياح التفكير نحو التنميط وثقافة الاستهلاك، وتراجع التفكير في الوجود والاهتمام بالموجود والأشياء، ولعل مهمة التفكير إذن هي تخلي التفكير المعاصر عن تحديد موضوع التفكير.[2]

مهمة التفكير أقل تعقيدًا من التفكير في المشكلات الفلسفية الكبرى، وأقل حدة من القضايا التي شكّلت حقيقة الفلسفة في تاريخها، ولن يكون التفكير بدون ذوات بل العكس هناك مرامي وتوجيه العقول نحو ثقافة جديدة بدأت بالفعل تتجلى معالمها في اليومي والمعيش. هناك انهمام وتبعية عمياء للعصر التقني واستيلاب للصورة وقوة هائلة في التنميط، وتراجع ملحوظ للسؤال والبحث عن الحقيقة، وسوف يتزايد السقوط في الهاوية ويزداد القلق ويصعب تحقيق الوجود الأصيل، في ظل سيادة التقنية ودينامية التفكير الموجه نحو الإنتاج والمراقبة وإعادة التوزيع، من خلال آليات سلطوية مرئية وغير مرئية، كإستراتيجية معقدة في وضع معين في تحليل الفيلسوف ميشيل فوكو لمفهوم السلطة ونظام الخطاب.

وظيفة الفلسفة

من
ملامح التفكير الفلسفي المعاصر محاولة تجاوز الميتافيزيقا، وكل اليقينيات التي ترسّخت
من تاريخ الفلسفة، وعدم تحديد وجهة معينة للتفكير، بمعنى تحول هذا التفكير من النسقية
وتناسق في المباحث الكبرى إلى التنوع والاختلاف. وظيفة الفلسفة ليست ثابتة بل
تتغير حسب العصور وتتلون بألوان الإشكالات والقضايا المطروحة، ولن تمر بمجال معين
دون أن تكون هناك فلسفة لصيقة تصيغ أسئلة وتعيد البحث من جديد في أجزاء المعرفة
المُمكنة؛ من الفلسفة السياسية والأخلاقية والعلمية إلى فلسفة اللغة، هذا التنوع
في أنماط الفلسفة يعني هيمنة الآليات المنهجية من النقد والتفكيك في إعادة قراءة
التراث الفلسفي، وضخ نفس جديد في شريان المعرفة السالفة، ومحاولة فهم الواقع
باستعادة بعض مضامين التفكير القديم والحديث، بغية الوصول إلى نتائج نسبية ومفيدة
في محاولة الفهم للواقع.

الفلسفة تشخيص للحياة على غرار الفحص الطبي الذي يجريه الطبيب على المريض حسب ميشيل فوكو، وفي عملية الفحص والتشخيص يكون الإنسان طبيبًا في استخلاص النتائج بالتجربة والملاحظة، ومن خلال الخاصية الجوهرية في الفلسفة وهو السؤال الذي يفتح آفاقًا ممكنة للتفكير. المعرفة هنا تحتاج إلى أدوات جديدة وباحث مُنقِّب يحفر في أعماق الفكر والتاريخ للكشف عن المنسي والمكبوت وإعادة الاعتبار للمُهمَّش والمرفوض من التفكير، وما كان يعتبر من اللا عقل واللا حقيقة.

وظيفة الفلسفة في إثارة السؤال دون تحديد الجواب النهائي، حتى تبقى الفلسفة أفقًا للتفكير المُنفتح وتجربة حية للذوات الفاعلة في العلاقة بالعالم ومجالات للفعل الإنساني. الفلسفة ارتحال وإبداع للمفاهيم، والفيلسوف صديق المفهوم، إنه بالقوة مفهوم.

مفاد هذا أن الفلسفة ليست مجرد فن تشكيل وصنع المفاهيم، ذلك لأن المفاهيم ليست بالضرورة إشكالات أو اكتشافات أو مواد مصنوعة، إن الفلسفة، بتدقيق أكبر، هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم، مفاهيم جديدة مُستوحاة من الفكر والخيال يبنيها الفيلسوف دون تكرار أو اجترار المفاهيم السابقة.[3]

نصيحة نيتشه للفلاسفة صناعة المفاهيم وصقلها من خلال الحدس والتجربة الذاتية، وأن يبتعد الفيلسوف عن المفاهيم المثالية والمجردة كـ «عالم المُثل» عند أفلاطون و«العقل الخالص» عند كانط و«المطلق» عند هيجل و«الجوهر» عند أرسطو و«الكوجيتو» عند ديكارت و«الموناد» عند ليبينتز. فنتعلم التفكير انطلاقًا من ذواتنا وفي علاقتنا بالمعيش وبناءً على تجاربنا الخاصة.

من
وظائف الفلسفة تقديم الرؤى والمواقف بنسبية، حتى ترسيخ فكر الاختلاف والتعدد ضد
الانغلاق والتزمت والدوغمائية، فلا سبيل في التحرر من قيود التسلط العلمي والتقني
في عالم اليوم إلا بمحاولة فهم عميقة لما وراء الخطاب من أهداف وغايات ومرامي مُوجهة
في عملية التنميط وتكريس الوجود المزيف.

عالمنا يقتضي منا توظيف الفلسفة للفهم والاستيعاب والانهمام بالذات أكثر، وإدراك قضايا العالم حتى تتمكن الفلسفة من إتمام مهامها في تعرية الحقائق والكشف عن ألوان الخطاب الموجه للتضليل والتعبئة. خطاب اليوم ليس محايدًا في الإعلام والسياسة والثقافة، وفي التلاعب بمشاعر الناس وأفكارهم. الرفض والنقد لا ينطلق من فراغ معرفي، بل من المنطقي أن تغير الفلسفة أحيانًا من أدواتها وتنزل من المجرد والمثالية إلى الواقع، ولذلك قال المؤرخ الروماني «شيشرن» قولاً صريحًا في حق سقراط: إنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الارض، تحولت الفلسفة إلى تفكير عمومي، ومجال للحوار والتفكير من الذات إلى الفضاء العمومي.

ساحة
الأغورا بأثينا، كانت وظيفتها تنوير العقول وتهذيب النفوس بنمط تفكير مغاير يتجاوز
التعليم السوفسطائي، ويفتح إمكانية أخرى للتأثير في شباب أثينا، وبمجرد إحساس الأعداء
بخطورة طموح الفيلسوف حتى نصّب له البعض اتهامات باطلة، من إفساد عقول الشباب، وسب
الآلهة، فكانت الفلسفة أداة في التعلم وصقل الأفكار وإزالة الصدأ من العقول ومحاولة
بث روح البحث عن الحقيقة، وتعليم الناس الفضيلة بآليات الحوار والتهكم وفن توليد
الأفكار.

رهانات الفلسفة

تراجع مهمة الفلسفة في عالم اليوم لا يعني النهاية الحتمية بل بداية تشكل نمط جديد من الفلسفة ينهل قليلاً من التفكير الفلسفي السابق، ويفتح آفقًا جديدة للتفكير بمنطق العصر وبمفاهيم أقرب للمعيش، حتى تتمكن الإنسانية من معالجة القضايا العالقة، وأدوات فعل التفلسف لا زالت صالحة في السؤال والشك والنقد والتجاوز والاختلاف والنسبية.

رهانات الفلسفة ستنصب على بناء الإنسان في عالمه الفكري والمعرفي، حتى لا يكون ضحية للصورة المزيفة والوعي المغلوط، لكي يصبح إنسانًا فعالاً ومنتجًا وليس ضحية بنيات تتحكم في وجوده وأفعاله، وتجعل منه كائنًا بدون مشاعر يعاني من الضياع والتشتت، أو تدني قيمته بفعل الاستيلاب والاستهلاك في عالم اليوم. هذا الإنسان لن يختفي حتى ولو أعلنت البنيوية وفلسفة «موت الإنسان» عن نهايته، سيبقى صامدًا بفعل الإرادة والقدرة على الاختيار وتصويب الفكر نحو الغايات الكبرى، وتلك رهانات عملية للفلسفة في الإعلاء من مكانة الإنسان دون تنميط، لما تتوفر عليه الفلسفة من آليات في الفهم والتأويل للذات والعالم.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. مارتن هايدغر، «نهاية الفلسفة ومهمة التفكير»، ترجمة: وعد علي الرحية، الطبعة الاولى، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2016، ص 55.
  2. المرجع السابق، ص 79.
  3. جيل دولوز وفليكس غتاري، «ما هي الفلسفة؟»، ترجمة: مطاع صفدي، الطبعة الأولى، بيروت: مركز الانماء القومي والمركز الثقافي العربي، 1997، ص 30.