طالما تساءلتُ منذ أن كان ابني جنينًا بداخلي: كيف يتعلَّم الأبناء التصالحَ مع البشر واختلافاتهم؟ ما الذي يجعلهم يتقبلون الآخر ويحترمون الاختلاف؟ هل هي عادة تُغرَس فيهم منذ الصغر، أم هي صفة وراثية تنتقل عبر الجينات؟ أو ربما هو سلوك مُكتَسب من البيئة المحيطة! فكرت كثيرًا وكثيرًا.

كنت قد أدركت منذ زمنٍ طويلٍ أن التصالُحَ مع الذاتِ واحترام اختلافات الآخرين هما السبب الرئيسي للوصول إلى السلام النفسي. فالإنسان الذي يتمتَّع بسلامٍ نفسي لا يجد وقتًا ليحكُم على الآخرين ويُفنِّد أفعالهم، إنما هو يُحب عالمه ويتعمَّق في دراسته وفهمه، ولا يجد وقتًا لمحاسبة الناس على أفعالهم، لمجرد أنه لا يألفها. ومن ثَمَّ أردتُ أن يتمتع ابني بهذه الصفة، أردته أن يحب نفسه ويترك حساب الآخرين لله وحده سبحانه وتعالى.

كنتُ أتعمَّد أن أُلقِي على مسامعه العِظات في المواقف المختلفة، وأخبره إن فعل فلان ذلك فإنه شيء لا يخصنا ويجب ألا نتدخل ولو حتى بالكلام، ما دام الفعلُ لا يخصنا أو يضرنا في شيء. فكنت ألاحظ أنه ينظر إليَّ بدهشة، فأنتِ يا أمي تخبرينني بذلك بينما أنتِ تفعلين عكسه، عندما كنتِ تتحدثين مع أبي عما فعلت فلانة وعلانة. وقد حدث أن قال لي: أنتِ تفعلين ذلك، فلماذا لا أفعل أنا؟

هنا وقفتُ وقفة مع نفسي، وعلمت أنه لا يوجد سبيلٌ لتعليمه احترام الاختلاف إلا عن طريق تغيير سلوكي أنا شخصيًا. يجب أن أتوقف تمامًا عن الحكم على الآخرين إذا أردت أن يكون ابني هكذا، يجب أن أعطي مثالًا حسنًا وقدوة جيدة يقتدي بها. وقد كان.. أصبحت أفكر في كل كلمة قبل أن أقولها.



إذا أردت ألا يكون طفلك عنصريًا، فعليك ألا تنصحه بالبُعد عمن هم أقل منه اجتماعيًا

استهلكني الأمر في البداية، فهو ضد عادات مجتمعنا البالية التي نشأتُ وأنا مقتنعة بها، ومن ثَمَّ أصبح سلوكًا معتادًا وأسلوب حياة. وإن كنت أحيانًا كثيرة أغفل وأكررها، ولكن أحرص كل الحرص على ألا يكون أمامه.

ومن هنا أدركت أن كل سلوك جيد أريد أن أزرعه في ابني يجب أن أتحلَّى به بدايةً، فأنا أمه وقدوته ومُعلِّمته التي يستقي منها قِيمه، وهكذا يجب أن أكون.

في بعض الأحيان يتراءى لنا أن أبناءنا قد لا يلاحظون تصرفاتنا وأفعالنا السيئة، ونُخبِر أنفسنا أنهم ما زالوا أطفالاً لا يدركون، ولكن الحقيقة أن كل فعل يصدر منك هو بمثابة قاعدة تسنُّها وتؤكدها بالفعل، وليس الكلمات. فإذا اعتاد أبناؤك منك الكذب فسوف يصبح الكذب لهم مثل الماء والهواء، فهو شيء عادي يفعله قدوتي، فلِمَ لا أفعله أنا؟

ففي تجربة تسمى «bobo doll experiment» درس ألبرت باندورا، الأستاذ بجامعة ستانفورد، إمكانية تقليد الأطفال للسلوكيات الاجتماعية عن طريق مشاهدة الآباء فقط، وأُجريت التجربة على 36 طفلًا في عمر يتراوح بين 3 و6 سنوات. وقد ثبت أن الأطفال الذين شاهدوا البالغين أثناء القيام بسلوك عنيف قد أظهروا درجة أعلى من العنف، من أقرانهم الذين لم يشاهدوا السلوك العنيف.

ومن المُلاحَظ أن الأطفال الذين يتعاملون مع أقرانِهم بشكل عنصري هم في الأغلب أبناء لآباء يتبعون النهج نفسه، فهو سلوك مُكتَسَب تمامًا نتسبب فيه بشكل أو بآخر لأبنائنا. فقد أظهرت الدراسات أن السلوك العنصري المكتسب لدى الأطفال في سن الثالثة إنما هو فقط البداية لما سوف تكون عليه شخصية الطفل فيما بعد، فمنذ سن الثالثة يبدأ الطفل في صقل مفهوم العنصرية في شخصيته، حتى تمام العاشرة، حينها تصبح صفة في شخصيته لا يمكن تغييرها.

وفي دراسة جديدة أجراها الدكتور ماهزارين باناجي الأستاذ بجامعة هارفارد، تفيد بأن السلوك العنصري ربما يكون مكتسبًا منذ الأعوام الأولى، وليس منذ المراهقة كما هو المعتقد السائد. فقد أُجريت الدراسة على 263 طفلًا في عمر يتراوح بين 3 و14 عامًا، وقد أظهر خلالها الأطفال في عمر الثالثة أو الرابعة درجة مقاربة من العنصرية مثل البالغين. مما يعني أن الأعوام المبكرة في عمر الطفل هي المؤثر الأساسي في تكوين شخصيته المستقبلية.

هناك نسبة كبيرة من الآباء يعتقدون أن طفل الثالثة أو الرابعة غير مدرك لما يحدث حوله، ولا يتأثر بأفعالنا أو أقوالنا، ولكن الحقيقة هي العكس تمامًا.



الأطفال الذين يتعاملون مع أقرانِهم بشكل عنصري هم في الأغلب أبناء لآباء يتبعون النهج نفسه

إذا أردت ألا يكون طفلك عنصريًا، فعليك ألا تنصحه بالبُعد عمن هم أقل منه اجتماعيًا. عليك ألا تنهره عندما يتكلم مع من هم مختلفين عنه في اللون أو الدين. علِّم ابنك أن ينبذ الكراهية ويفتح قلبه لحب كل البشر. أخبره أن الله خلق البشر جميعًا من مكان واحد، وسوف يرجعون إليه جميعًا. أخبره أنك إذا أردت أن يحبك العالم ويسمح لك باكتشافه ومعرفته يجب أن تحبه.. والعالم هو البشر، والبشر مختلفون.

القراءة والبحث هما أهم أداتين يجب أن نستخدمهما إذا أردنا أن نثقف أبناءنا حول الممارسات العنصرية وكيفية تجنُّبها. نبذ العنصرية واحترام الآخرين يجب أن يكونا جزءًا من منهاج تعليم الطفل اليومي، حتى يدرك الطفل أهميته ويصبح جزءًا من شخصيته.

الأعياد والمناسبات الرسمية فرصة لزيادة التوعية وتثقيف الأطفال حول احترام حقوق الآخرين، واستغلال هذه الفرص لشرح ثقافات الشعوب المختلفة ومعتقداتهم، وعقد حلقات الحوار والنقاش قد يكون مفيدًا في هذا الصدد، فإن الأطفال يميلون إلى تصديق من يحترمهم ويعاملهم كالكبار الناضجين ويدير معهم حوارًا هادفًا يظهر فيه احترامه لآرائهم.

رحلة تربية الأبناء هي الرحلة الأصعب، تستلزم مجهودًا بدنيًا ونفسيًا، وهدفها هو إخراج إنسان سوي نفسيًا يتمتع بسلام نفسي وقدرة على التكيُّف وتقبُّل الآخر.

يحدث هذا عندما نحب أنفسنا ونتوقف عن الحكم على الآخرين، فننقل الصورة الجيدة والقدوة الحسنة لأبنائنا.