يجادل البعض في المسمى الذي يمكن نسبة لفظ «العثمانية» له، هل يكون دولة أم سلطنة أم إمبراطورية أم خلافة أم غير ذلك؟

طبعًا هنالك العديد من الأسباب التي تجعل كل من يختار تلك المسميات أن يعتبر بها، وهنالك (تعميم يجمع) من يختار أحد هذه المسميات، وثمة (تخصيص شاذ) منتق لها، وثالث فوضوي لا شأن لنا به. فمثلًا يفضل الإسلاميون وسمها بالخلافة، وهذا تعميم يجمع الإسلاميين -بالمفهوم العام لهم- ويشذ عنه باحث أو مستشرق أو مخالف لهم، كذلك الأمر في كلمة الإمبراطورية، التي ينسبها البعض إلى الاستعمال الاستشراقي حصرًا زمانيًا وحجرًا فكريًّا، بحيث يكون من يجتمع عليها هم الغربيون.

ولكن في ذلك لغط؛ لوجود باحثين أتراك متخصصين بالعثمانيات استعملوا هذا اللفظ، فتكون الزمرة العامة التي تستخدمه بالفعل هي التي تصل تاريخ العثمانيين بغيرها من الإمبراطوريات التي حكمت القارات الواسعة، ويشذ عن ذلك [الفعل] من يحوّره للفظة الاستشراقية، مما يكوّن ردة الفعل المتسرعة، لدى التيار المتعارف عليه، بأتباع خطاب ما بعد الكولونيالية، وكلا الأخيرين مخطئان.

كذلك قد يظن البعض أن العثمانية كانت تسمي نفسها (بالدولة العلية العثمانية) وهذا أيضًا بحسب مجموعة من المؤرخين الأتراك مغالطة، فهي كانت (الدولة العلية) ووسم العثمانية جاء متأخرًا، وأيضًا في الفترة ما بين استخدام «العثمانية» وعدمه، كانت ثمة طائفة من العلماء والمؤرخين في القرون الوسطى للدولة قد اجتمعوا على وسم العثمانيين، بولد عثمان أو آل عثمان وأبناء عثمان وغير ذلك، مما يعني وجود اعتراف ضمني بأن المؤسس هو عثمان وليس غيره.

الخلط بين كلمتي الإمبراطورية «imperium» والإمبريالية «impérialisme» كذلك وارد لدى بعض الباحثين، ويحوي لا وعيهم ذلك الأمر دونما إدراك في بعض الأحيان، فليس كل إمبراطورية هي إمبريالية، ولكن حتمًا كل عملية إمبريالية هي بالضرورة إمبراطورية على مختلف تشكلاتها التاريخية، بل ليس كل إمبراطورية [عدل بالحكم ونظام بالإدارة] هي إمبراطورية [طغيان بالحكم وفوضى بالإدارة] كذلك!

ويحدث التداخل بينهما نتيجة الخلط العمودي للمعاني اللغوية بينهما، وكذا التفاوت الأفقي التطوري مع الزمان فيهما، فالإمبراطورية تعطي معنى الحكم المطلق ولكنه بالمفهوم العام وليس الدكتاتورية «Dictatura»، وهنا يمكن أن نلج في جدليات فقه الإسلام السياسي عن المستبد العادل وغير العادل مثلًا، وكذلك هي ضمن «الأمر العسكري والقانوني»، وكذلك تعني منطقة السيطرة؛ دلالة على ضخامتها.

والعثمانية كانت تتميز بالهيمنة السلطانية على ثلاث قارات، وأما الإمبريالية فهي تخصيص «للعملية الإمبراطوروية»، فهي تعني سياسة استعمار أجنبي وتقويض لاستقلال أمة ما، وهذه مسألة يمكن نقاشها في موضع آخر بكل تأكيد، بحيث لم تحقق العثمانية هذا المفهوم، ليس منها فقط، بل ومن المناوئين لها والمناهضين لحكمها، لم يفهموا هذا الأمر بها كذلك بالمجمل.

طبعًا من المعنى التأريخي العام نستخدم كلمة «الدولة» في الحديث عن أي كيان سياسي، ولكنها كلمة هلامية عامة، لذلك فالإمبراطورية هي مجموعة من الدول والكيانات والإدارات، وأن الإمبراطورية يجب أن تكون دولة «Etat» بالتعريف العام، بينما الدولة قد لا ترتفع لتكون إمبراطورية، فالتنظيم الإداري وغير ذلك يلعب دورًا أساسيًا في الفصل الاصطلاحي. والدولة بالمفهوم الكلاسيكي السلطاني غير ذلك الذي نتج بعد ولوج الدولة القومية ساحة الاعتراف، وكذلك بعد عهد ويسفاليا Westphalia المشهور في منتصف القرن السابع عشر.

وسم العثمانية بـ«الخلافة» هو أمر متحقق بالتحصيل الحاصل، وهو حقيقة تاريخية لا يمكن النقاش فيها، وهي نظام الحكم الذي جاء به الدين الإسلامي وفق أحكام الشرع، كما هو متعارف عليه عند المسلمين، والتي كانت نحو 90% من أحكام الدولة العثمانية به، كما يبين حقوقيون ترك أبرزهم، عربيًا، أحمد أق كوندوز، والباقي هو أصلًا فيم فيه اجتهاد طبعي «مُلْكي» وفق مصطلحات فيلسوف فاس العربي طه عبد الرحمن.

ولفظ «السلطنة» لا يمكن حصره ضمن فترة دون أخرى كذلك، فليس كما تصور مدونات الإخبار/ الأخبار القديمة ومن تبعها من مدوني التاريخ الشعبي في زماننا؛ أنه كان إبان عهد العثمانيين الأول وأنه بمجرد دخول سليم الأول مصر أصبحت خلافة، بل هو تابع لمعنى من معاني القوة التي يشتق من لفظ «السلطان والشوكة» فالسلطان والهنگار الخاقان والخان والجهانگير وغيرها من المصطلحات التي نقرؤها في التراث القارسي والهندي المنتقلة للتركي العثماني كلها استمرت عابرة من البداوة العثمانية لعصر الحداثة وحتى انهيار السلطنة العثمانية.

يبقى الحديث عن نقولات المفكر العثماني الكبير، مجري مسيحي الأصل، إبراهيم متفرقة، من التراث اليوناني، الذي عاش في القرنين السابع عشر والثامن عشر فيم يتعلق بهذا الموضوع، فهو يقرر أن الدولة على ثلاث طبائع؛ الأفلاطونية الملكية الحكمية تحت سلطة «monarchy»، والأرسطية الأرستقراطية تحت قيادة «bureaucracy»، وأخيرًا الديموقراطية الشعبية.

وقد يصعب فعلًا الاختيار من بين هذه المسميات، وذلك لتميز العهد العثماني بالتقلب والتحديث، على ما عهد فيه من الإصلاحات التي امتدت على عهد الإمبراطورية، والتي قد تكون تحققت أو تعثرت، فهي أفلاطونية حكمائية بعلمائيتها، وهي أرسطية أرستقراطية تارة أخرى، وكذلك كانت تتجه نحو الدمقرطة لولا ظروف الحرب التي عايشتها ما حصل بعد ذلك من تحالفات كثيرة معقدة كما يناقش سليمان البستاني في هذه النقطة الأخيرة.

في المحصلة نحن يجب أن يكون لدينا ثقة عالية بأجدادنا، وأن نعرف أن أبناء عثمان المؤسس لم يكن لديهم مجرد دولة ذات تنظيم، ولا إمبراطورية ذات تقاسيم، أو حتى مجموعة من الولايات المتراصة والقوميات المتنوعة والمذاهب المتشاكلة، الحاكمة عبر الدهور المديدة والقارات العديدة، بل هي خليط فريد من كل ذلك، علت بالاستبداد الشرعي القانوني المنتشر في سائر بلدان ذاك الزمان، ودنت بالاستبداد القمعي أحيان أُخَر لأسباب ليس المجال لها هنا.

وظيفة المؤرخ الجاد هي القلق، على ما يشير إليه وجيه كوثراني، ومن الصعوبة بمكان إطلاق الأحكام دومًا كما تحدث بذلك أستاذه قسطنطين زريق، والحسم التاريخي كما يبين أستاذنا إلبير أورطايلي هو أمر في غاية التعقيد، وليس من مهمتنا إطلاق الأحكام المؤدلجة بالقدر الذي تجعلنا فيه مساءلات سقراط في النحو السليم بحيث لا نحقق الحقيقة بالقدر الذي نريدها به، وعملية المنهج المنطقي الديكارتي في السير المتأني هي التي نبتغيها، لا الشكوكية البيرونية ولا الحتمية الشعبية الديوجينية، وكذا لا يمكن فصل فلسفة التاريخ عن تاريخ الفلسفة، كما يجادل كولنيكوود الإنكليزي، ذلك لكون التاريخ هو حوادث لا تقف عند حدود الزمكان، وكذا الفلسفة لا يمكن أن تلجم عن الولوج في أي حد وكذا فيما فوق الحدود.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.