شهد العالم منذ قيام الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر استخدامًا واسع النطاق لمصادر الوقود الأحفوري (الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي)، وذلك بقصد زيادة الإنتاج وتطوير سبل حياة أكثر راحة.

وبالفعل تمكَّنت الاقتصاديات الصناعية من تحقيق قفزات إنتاجية هائلة ومعدلات نمو غير مسبوقة، على أثرها أصبح الوقود الأحفوري الدعامة الأساسية لاقتصاديات ما بعد الثورة الصناعية، وهنا ظهرت المشكلة، فمع كل تضاعف للاقتصاد العالمي كان يقابله تدهور واسع النطاق للنظام الأيكولوجي، وفجأةً أدرك الإنسان أنه وهو في سبيله لتحقيق التقدم والرفاهية قد أضرَّ بمخزون العالم من الثروة الطبيعية.

وبدأ العالم يدرك شيئًا فشيئًا الكوارث الناجمة عن استخدامه المُفرط للوقود الأحفوري، من تغير في المناخ وارتفاع في درجة حرارة الأرض ونقص في الغذاء وندرة في المياه، على النحو الذي بات من المستحيل معه معالجة الاختلالات البيئية بمعزل عن السياسة الاقتصادية السائدة، وبات من الضروري وضع تصور لاقتصاد جديد يقوم على احترام البيئة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية مع الحفاظ – في الوقت نفسه – على معدلات نمو جيدة تحسِّن من رفاهية الإنسان. اقتصاد لا يكون الثراء المادي فيه بالضرورة على حساب المخاطر البيئية والندرة الأيكولوجية. ومن هنا جاء مفهوم «الاقتصاد الأخضر».


ظروف النشأة والتطور

ظهر مفهوم الاقتصاد الأخضر لأول مرة في عام 1989، في أحد البحوث المُعدَّة من قبل «مركز لندن للاقتصاد البيئي»، تحت عنوان «مخطط تفصيلي للاقتصاد الأخضر»، رُبط فيه بين الاقتصاد والبيئة باعتبارها وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة من خلال الأدوات الاقتصادية والمالية، ومع ذلك لم يحظَ مفهوم الاقتصاد الأخضر بقبول واسع إلا مع اندلاع الأزمة المالية العالمية 2007-2008، وفشل معظم البلدان في الانتقال إلى مسار التنمية المستدامة، وبالتالي أصبح من الواضح أن نموذج التنمية الحالي لا يحقق النتائج المرجوة على جميع الجبهات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. [1]

وفي سياق متصل، قام برنامج الأمم المتحدة للبيئة بدور فعَّال في جذب الاهتمام العالمي مجددًا بالاقتصاد الأخضر من خلال ترويجه لما اصطُلح على تسميته «الصفقة الخضراء العالمية الجديدة»، وتُوِّج هذا الجهد بإطلاق برنامج البيئة لمبادرة شاملة بشأن الاقتصاد الأخضر في عام 2008، بهدف وضع السياسات العامة ومسارات العمل بشأن تحقيق نمو اقتصادي أكثر استدامة، وقد حثَّ البرنامج على النمو الأخضر الذي يراعي الاحتياجات البيئية، كما أشار إلى ضرورة أن يتضمن بعض الإنفاق اللازم لإنعاش الاقتصاد بعض الاستثمارات البيئية، بالإضافة إلى خلق وظائف كثيرة تقوم على مراعاة البيئة. [2]

وأكد مؤتمر ريو +20 في يونيو/حزيران عام 2012 في تقريره «نحو اقتصاد أخضر» ضرورة استثمار 2% من الناتج المحلي العالمي في تخضير عشرة قطاعات اقتصادية أساسية، وذلك لتحريك التنمية وإطلاق رءوس الأموال العامة والخاصة في مسار منخفض الكربون وأكثر كفاءة في استخدام الموارد، لتقليل مخاطر الصدمات والأزمات التي تزداد تأصلًا في النموذج الحالي. [3]

تعريف الاقتصاد الأخضر وفوائده

هناك العديد من التعريفات المختلفة للاقتصاد الأخضر، لكن معظم المراجع ترتكز على التعريف الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة للبيئة وهو أن:

الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد يؤدي إلى تحسين رفاهية الإنسان والحد من عدم المساواة على المدى الطويل، مع عدم تعريض الأجيال القادمة لمخاطر بيئية كبيرة وندرة إيكولوجية.

وبتعبير أبسط، فإن الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد منخفض الكربون، وفعَّال من حيث الموارد وشامل اجتماعيًّا.

ويُوجَّه فيه النمو في الدخل والعمالة بواسطة استثمارات من القطاعين العام والخاص، تفضي إلى تخفيض انبعاثات الكربون والتلوث وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة والموارد ومنع خسارة التنوع الأحيائي وخدمات النظم الأيكولوجية. ونلاحظ من خلال هذا التعريف مدى الترابط بين مفهوم الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة، فهو ليس بديلًا عنها، وإنما هو أداة لتحقيق التنمية بمراعاة جدول أعمال القرن 21. [4]

ويتضح من هذا التعريف أن الاقتصاد الأخضر ينطوي على مجموعة من المبادئ، أهمها:

  • أن الاقتصاد الأخضر وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة.
  • يخلق العمل اللائق والوظائف الخضراء.
  • يحمي التنوع البيولوجي والنظم البيئية.
  • يرتكز على كفاءة الموارد وعلى أنماط إنتاج واستهلاك مستدام.
  • الاقتصاد الأخضر عادل ومنصف بين البلدان وداخلها، وكذلك بين الأجيال. [5]

أمَّا فوائد التحول نحو الاقتصاد الأخضر، فيمكن رصدها على النحو التالي:

  1. مواجهة التحديات البيئية: عبر خفض انبعاثات الاحتباس الحراري، وتحسين إدارة استخدام الموارد، وتقليص حجم النفايات، وحماية التنوع البيولوجي ووقف استنزاف الغابات.
  2. تحفيز النمو الاقتصادي: يُتوقع أن تؤدي الاستثمارات الخضراء إلى تسارع عجلة النمو الاقتصادي العالمي، خاصة على المدى الطويل لتتفوق على نسبة النمو السائدة.
  3. القضاء على الفقر وخلق فرص عمل: وذلك من خلال توفير العديد من الوظائف الخضراء في مختلف القطاعات الاقتصادية. [6]

تجارب دولية نجحت في الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر

لا يفوتنا في هذا الصدد أن نتطرق لبعض الجهود التي قامت بها بعض الدول لتحقيق تقدم ملحوظ في اتجاه الاقتصاد الأخضر في القطاعات الاقتصادية المختلفة؛ الطاقة والزراعة والمصايد والغابات والنقل والتنمية العمرانية ومياه الشرب والصرف الصحي. استعرض منها برنامج الأمم المتحدة للبيئة بعض التجارب كقصص نجاح في مجال التقدم في الاقتصاد الأخضر، مثل الطاقة الشمسية في تونس وبربادوس، وبرامج الطاقة المتجددة في الصين، والتخطيط المدني المستدام في البرازيل، وخدمات النظم الأيكولوجية في الإكوادور، والزراعة العضوية في كل من أوغندا وكوبا، بالإضافة إلى إدارة النفايات في كوريا الجنوبية. [7]

وظهرت أيضًا مجموعة من المبادرات الطوعية التي تبنَّاها العديد من الدول في سبيل انتقالها نحو اقتصاد أخضر صديق للبيئة، مثل تعهد المكسيك بتخفيض الانبعاثات الكربونية وتخفيض غازات الاحتباس الحراري إلى النصف بحلول عام 2050، ومساهمة كوستاريكا بأكثر من 170 مليون دولار من الميزانية الوطنية منذ إطلاقها عام 1993 لبرنامج الخدمات البيئية (PES) لمعالجة معدلات إزالة الغابات العالية.

كما حققت شركة «جرامين» للطاقة في بنجلاديش نموًا كبيرًا في مجال الطاقة المتجددة، حيث تعمل على توفير الأنظمة المنزلية الشمسية لسكان الريف، وأسعار تتناسب مع إمكانياتهم، اعتمادًا على شبكة قروض متناهية الصغر، كما أنها تُوفِّر أيضًا وحدات الغاز الحيوي والمواقد المُحسَّنة، والتي تساهم في تقليل استخدام الكتلة الأحيائية، وبالتالي التقليل من التلوث داخل المنازل، وقد استطاعت الشركة من خلال هذا البرنامج توظيف الآلاف من العمالة المحلية. [8]

ومن ناحية أخرى يمثل قانون ضمان العمالة الريفية الوطني في الهند استثمارًا هائلًا في إعادة تأهيل رأس المال الطبيعي المتصل بالحد من الفقر، وينطوي البرنامج على وظيفة اقتصادية واجتماعية وبيئية في آن واحد، وهو جزء من برنامج التنمية المستدامة الأوسع نطاقًا الذي يشمل خطة العمل الوطنية بشأن تغير المناخ (2008)، وتعالج فرقة عمل مشتركة بين الوزارات قضايا العمالة المتصلة بتغير المناخ والطاقات المتجددة والوظائف الخضراء. [9]

وعلى صعيد الدول العربية، أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة استراتيجية للتنمية الخضراء عام 2012، وهي مبادرة وطنية طويلة المدى لبناء اقتصاد أخضر، تهدف من خلالها أن تكون رائدًا عالميًّا ومركزًا لتصدير المنتجات والتقنيات الخضراء، بالإضافة إلى الحفاظ على بيئة مستدامة تدعم نموًا اقتصاديًّا مُستدامًا، وهو ما تجلَّى في إنشاء مدينة نموذجية مستدامة «مصدر» منخفضة الاستهلاك في المياه والطاقة، واستُخدِم 200 ميجاواط من الطاقة النظيفة (بالطاقة الشمسية)، مقابل 800 ميجاواط مقارنة بمدينة تقليدية بنفس الحجم، ويُستهلك 8 آلاف متر مكعب من مياه التحلية يوميًّا، مقارنةً بأكثر من 20 ألف متر مكعب يوميًّا بالنسبة إلى مدينة تقليدية بنفس الخصائص. [10]

كما تُعد التجربة المغربية في الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر من التجارب الجديرة بالذكر والإعجاب، فقد أعدَّت الحكومة المغربية لهذا الانتقال وثيقة خاصة حملت عنوان «الاقتصاد الأخضر في المغرب»، جاء فيها أن الانتقال نحو اقتصاد أخضر يحترم التوازنات البيئية وقادر على توفير فرص جديدة لإنتاج الثروات وفرص العمل المستدامة، يمثل هدفًا رئيسيًّا للمقاربات الاستراتيجية الجديدة للتنمية المستدامة.

وساهمت سياسات ترشيد استعمال الماء في المجال الزراعي، وحماية الغابات والتنوع البيولوجي، ومخططات تنمية الطاقات المتجددة وكفاءة الطاقة، وتقوية معالجة مياه الصرف، وتحسين تدبر النفايات، في إرساء مناخ إيجابي يتيح الانتقال نحو الاقتصاد الوطني المغربي إلى اقتصاد أخضر. ومن أجل مواجهة الطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية، استثمر المغرب 11 مليار دولار للحصول على 2000 ميجاواط من الطاقة الشمسية ومثلهم (2000 ميجاواط) من البرنامج المغربي لطاقة الرياح. [11]

وتجدر الإشارة إلى أن هذه التجارب هي على سبيل المثال لا الحصر، كما أنها ركَّزت على تجارب الدول النامية، التي تمتلك إمكانات محدودة مقارنة بالدول المتقدمة ذات الفوائض المالية الضخمة، وهو ما أضفى على هذه التجارب طابعًا متميزًا، كونها تمت دون الحاجة لتمويل ضخم، وجعل عملية تسويقها كنماذج رائدة يُحتذى بها أمرًا سهلًا، نظرًا لواقعيتها وسهولة استنساخها، ومِن ثَمَّ الاستفادة منها.

وهذا لا يعني أن الدول المتقدمة تكاسلت عن اتخاذ خطوات فعَّالة في سبيل الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر، بل على العكس تمامًا، فهناك دول قطعت أشواطًا كبيرة نحو خضرنة الاقتصاد، لكن المجال لا يتسع لذكرها جميعًا، نظرًا لما تنطوي عليه هذه التجارب من تفاصيل عميقة تستحق أن نقف عندها، ويأتي على رأس هذه الدول الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وهولندا وأستراليا والسويد والدنمارك … إلخ.

خاتمة

هكذا ظهر مفهوم الاقتصاد الأخضر استجابة للعديد من الأزمات التي أقضَّت مضاجع سكان هذا الكوكب، من أجل تحويل المحركات الدافعة للنمو الاقتصادي نحو القطاعات الخضراء الناشئة، وإلى خضرنة القطاعات القائمة، وتغيير أنماط الاستهلاك غير المستدامة، ومِن ثَمَّ نستفيد من الأهمية الكبيرة للاقتصاد الأخضر في مواجهة التحديات البيئية الخطيرة، وتسريع عجلة النمو الاقتصادي، وتحقيق المساواة الاجتماعية والحد من الفقر.

وعلى الرغم من المجهودات التي بذلتها بعض الدول – سواء في صورة برامج أو سياسات أو مبادرات – لتحقيق تقدم في اتجاه الاقتصاد الأخضر، فإنها ما زالت على المستوى الجزئي، حيث إنها لم تشمل سوى قطاعات محدودة من الاقتصاد، ورغم أن هذا يُعد نجاحًا نسبيًّا على المدى القصير، فإننا نأمل في أن تُطبَّق مفاهيم الاقتصاد الأخضر على المستوى الكلي، بحيث تشمل جميع قطاعات الاقتصاد العالمي وأجزائه في أقرب وقت ممكن، وذلك من أجل ضمان أمن وسلامة وحيوية الحضارة الإنسانية.


المراجع



  1. Hussein Abaza, Introduction, Green economy in action, United nations development programme, August 2012, Page 5.
  2. حسام الدين نجاتي، الاقتصاد الأخضر ودوره في التنمية المستدامة، سلسلة قضايا التخطيط والتنمية رقم 251، معهد التخطيط القومي، أكتوبر 2012، ص17.
  3. أسامة محمد الحسيني، الاقتصاد الأخضر – الجزء الأول البيئة والتنوع البيولوجي، القاهرة، شركة إسكرين لاين، 2015، ص2.
  4. الأولويات الإقليمية والعالمية: مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (ريو +20)، والحكم السليم في ظل النزاعات وما يتصل بها من أزمات، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، بيروت 6-7 إبريل 2011، ص3.
  5. Introduction to the green economy approach, Module 1, Page 12.
  6. نجوى يوسف جمال الدين، سمير أكرم أحمد، محمد حنفي حسن، الاقتصاد الأخضر: المفهوم والمتطلبات في التعليم، مجلة العلوم التربوية، العدد الثالث، يوليو 2014، ص438.
  7. حسام الدين نجاتي، الاقتصاد الأخضر ودوره في التنمية المستدامة، مرجع سبق ذكره، ص55.
  8. عبد الله بن محمد المالكي، التحول نحو الاقتصاد الأخضر: تجارب دولية، المجلة العربية للإدارة، مجلد 37، عدد 4، ديسمبر 2017، ص 181 و182.
  9. التنمية المستدامة والعمل اللائق والوظائف الخضراء، مكتب العمل الدولي جنيف، الدورة 102، 2013، التقرير الخامس، ص35.
  10. قحام وهيبة، شرقرق سمير، الاقتصاد الاخضر لمواجهة التحديات البيئية وخلق فرص عمل: مشاريع الاقتصاد الاخضر في الجزائر، مجلة البحوث الاقتصادية والمالية، العدد السادس، ديسمبر 2016، ص449.
  11. بن جلول خالد، بخاخشة موسى، بضياف عبد المالك، الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر آلية فعالة للتخفيف من حدة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة، الملتقى الدولي حول: الجزائر وحتمية التوجه نحو الاقتصاد الاخضر لتحقيق التنمية المستدامة، 10 و11 ديمسمبر 2018، ص14.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.