في مطلع العقد الرابع من القرن السابع عشر خضع جاليليو جاليلي، عالم الفلك والفيلسوف الإيطالي الشهير والذي لقبه أينشتاين بـ«أبو الفيزياء الحديثة»، أمام إحدى محاكم التفتيش الرومانية متهمًا بممارسة الهرطقة؛ فحكم عليه بادئ الأمر بالإعدام، وإشفاقًا عليه في عمره الذي جاوز السبعين خفف الحكم إلى السجن، ثم خفف بعدها للإقامة الجبرية التي صودرت خلالها كتاباته ومنع عنه اللقاء بتلامذته ومريديه.يأتي ذلك الأمر في سياق دعمه لنظرية كوبرنيكس التي تنفي عن الأرض مركزية الكون، أيضًا وفي سياق إثباته خطأ نظرية السقوط الحر لأرسطو التي أقرتها الكنيسة ولم يشكك في صحتها أحد على مدى ألفيتين! كان ذلك التدخل المقيت من الكنيسة في أمور العلم مميزًا لحقبة سبقت عصر النهضة الأوروبية إبان القرون الميلادية الوسطى.



عقل الإنسان وخاصة صاحب الأيديولوجيا الدينية حين تتم برمجته على أمور معينة يصعب عليه تقبل نقيضها ما لم يكن حرًا يفكر أو مقيدًا بمصلحة تحكم طريقة تفكيره

منبوذة في بادئ أمرها كل الأفكار المغايرة كما هي دائمًا؛ فعقل الإنسان – لا سيما صاحب الأيديولوجيا الدينية- حين تتم برمجته لسنوات عدة على أمور معينة، فإنه يصعب عليه جدًا تقبل نقيضها، ما لم يكن حرًا يفكر، وما لم يكن مقيدًا بمصلحة تحكم طريقة تفكيره؛ فمصلحة الكنيسة وقتها كانت تقتضي أن يظل الناس في حاجة دائمة إليها لتدبير شئونهم، وبالتالي إيهام الناس بأن كل شيء من علوم الدنيا والدين موجود بين دفتي الكتاب المقدس، فكيف يتجرأ أحدهم على إثبات شيء آخر! وقد اعتبرت تلك الأمور دينًا راسخًا بمرور الأيام.كم يصعب اليوم على أناس لا تزال منظومات تفكيرهم تعيش في قرونها الوسطى – بذات النمط التقليدي النفعي الجامد – أن يتقبلوا أفكارًا مغايرة لسابقتها، وأن يتعظوا من فشل تجاربهم، وأن ينفتحوا على عوالم أخرى أرحب!اليوم غدا إخوان مصر ومن داروا في فلك قراراتهم بين قتيل وسجين ومطارد ومهاجر، ولا أدري أي جراحات أخرى أنكأ ينتظرون ليتوقفوا حينًا من أجل عظة ودرس، ولكن الغريب أن أحدًا من المسئولين عن مآل يومهم هذا – من قيادات الصف الأول – لم يكلف نفسه طوال أربع سنوات عناء تقويم قرار أو تقييم حدث فضلًا عن مراجعة فكرة، بل على العكس فإنهم ينفون باعتزاز صدور أية تقييمات اجتهد فيها آخرون من أبنائهم. في مخيال الإخوان يتجذر خصام المراجعة بمنهجية واضحة؛ والرجوع لأدبياتهم أقصر الطرق لكشف جوهر ذاك الخصام، فكيف تكون المراجعة أصلًا مع أصحاب الحق المطلق؟ هكذا رسخ البنا مؤسس الجماعة ذلك المفهوم في كثير من رسائله، فمثلًا ضمن «رسالة الشباب» أورد: «وﺇﻧﻤﺎ ﻧﻌﻠﻦ ﻓﻲ ﻭﺿﻮﺡ ﻭﺻﺮﺍﺣﺔ ﺃﻥ ﻛﻞ ﻣﺴﻠﻢ ﻻ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻬﺎﺝ ﻭﻻ ﻳﻌﻤﻞ ﻟﺘﺤﻘﻴﻘﻪ ﻻ ﺣﻆ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻹﺳﻼﻡ، وليبحث ﻟﻪ ﻋﻦ ﻓﻜﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﻳﺪﻳﻦ ﺑﻬﺎ ﻭﻳﻌﻤﻞ ﻟﻬﺎ»، بهذه البساطة أطلق على كل من فهم الإسلام بغير فهمه، وكل مخالف لنظريته للتغيير وصف (لا حظ له في الإسلام).وفي رسالة «الإخوان تحت راية القرآن» قال: «نحن أيها الناس ولا فخر، أصحاب رسول الله، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)» بدون أية مقاربات أو فتح مجال احتمال لأفهام أخرى من غيره، أوردها الرجل (نحن أصحاب رسول الله).أما في ركن «الثبات» الذي أورده ضمن أركان البيعة العشرة، قال:

أيها ﺍﻹﺧﻮﺍﻥ، ﺳﻴﻘﻒ ﺟﻬﻞ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻋﻘﺒﺔ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻜﻢ، ﻭﺳﺘﺠﺪﻭﻥ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺘﺪﻳﻦ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻐﺮﺏ ﻓﻬﻤﻜﻢ ﻟﻺﺳﻼﻡ ﻭﻳﻨﻜﺮ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺟﻬﺎﺩﻛﻢ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻪ، وﺳﻴﺤﻘﺪ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ ﻭﺍﻟﺰﻋﻤﺎﺀ ﻭﺫوﻭ اﻟﺠﺎﻩ ﻭﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، وﺳﺘﻘﻒ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﻫﻜﻢ ﻛﻞ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻮﺍﺀ، وﺳﺘﺤﺎﻭﻝ ﻛﻞ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺃﻥ ﺗﺤﺪ ﻣﻦ ﻧﺸﺎﻃﻜﻢ وﺃﻥ ﺗﻀﻊ ﺍﻟﻌﺮﺍﻗﻴﻞ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻜﻢ، وﺳﻴﺘﺬﺭﻉ ﺍﻟﻐﺎﺻﺒﻮﻥ ﺑﻜﻢ ﻟﻤﻨﺎﻫﻀﺘﻜﻢ وﺇﻃﻔﺎﺀ ﻧﻮﺭ ﺩﻋﻮﺗﻜﻢ، وﺳﻴﺴﺘﻌﻴﻨﻮﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺑﺎﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﻭﺍﻷﺧﻼﻕ ﺍﻟﻀﻌﻴﻔﺔ وﺍﻷﻳﺎﺩﻱ ﺍﻟﻤﻤﺘﺪﺓ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺑﺎﻟﺴﺆﺍﻝ ﻭﺇﻟﻴﻜﻢ ﺑﺎﻹﺳﺎﺀﺓ ﻭﺍﻟﻌﺪﻭﺍﻥ، وﺳﻴﺜﻴﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﺣﻮﻝ ﺩﻋﻮﺗﻜﻢ ﻏﺒﺎﺭ ﺍﻟﺸﺒﻬﺎﺕ ﻭﻇﻠﻢ ﺍلاﺗﻬﺎﻣﺎﺕ، وﺳﻴﺤﺎﻭﻟﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﻠﺼﻘﻮﺍ ﺑﺪﻋﻮﺗﻜﻢ ﻛﻞ ﻧﻘﻴﺼﺔ وﺃﻥ ﻳﻈﻬﺮﻭﻫﺎ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺑﺄﺑﺸﻊ ﺻﻮﺭﺓ، معتمدﻳﻦ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﺗﻬﻢ ﻭﺳﻠﻄﺎﻧﻬﻢ وأﻣﻮﺍﻟﻬﻢ ﻭﻧﻔﻮﺫﻫﻢ ﻭﺇﻋﻼﻣﻬﻢ، وﺳﺘﺪﺧﻠﻮﻥ بذلك ﻻﺷﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ والامتحان؛ فتسجنون وتقتلون وتعتقلون وتشردون وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وﻗﺪ ﻳﻄﻮﻝ ﺑﻜﻢ ﻣﺪﻯ ﻫﺬﺍ الامتحان، ﻓﻬﻞ ﺃﻧﺘﻢ ﻣﺴﺘﻌﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻧﻮﺍ ﻣﻦ ﺃﻧﺼﺎﺭ ﺍﻟﻠﻪ؟

تلك العبارات الأخيرة وحدها كفيلة بأن تنسف من الجذور أية دعوات لمراجعة مسار، فضلًا عن جدوى «وسيلة التنظيم» بالأساس أو مدى ملاءمة أفكاره ومقولاته الرئيسية لواقع اليوم.في موضع آخر من رسالته «إلى الشباب» أورد: «ليقل ﺍﻟﻘﺎﺻﺮﻭﻥ ﺍﻟﺠﺒﻨﺎﺀ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺧﻴﺎﻝ ﻋﺮﻳﻖ ﻭﻭﻫﻢ ﺍﺳﺘﻮﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﻮﺱ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻭﺫﻟﻚ ﻫﻮ ﺍﻟﻀﻌﻒ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻭﻻ ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺍﻹﺳﻼﻡ»، إذن فإن أية دعاوى سيطلقها أحدهم مراجعًا أحلام الإخوان وأهدافهم ومحاولًا تذليلها بلجام الواقع؛ فإنه لن يكون غير واحد من «القاصرين الجبناء». في اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد الذي عقد في سبتمبر/أيلول 1945 أورد البنا: «نحن الإسلام أيها الناس، فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه، فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون».لقد كان مؤسس الجماعة بارعًا في الحفاظ على فكرته فوق مستوى النقد، حين حصن اجتهاده ذلك بتلك العبارات التي سرت في دماء أتباعه وتوارثوها دينًا راسخًا جيلًا بعد جيل.في نقد الإخوان نُشرت أوراق مطولة عديدة من عشرات السنين، بين إبراز لممارسات وسلوك أشخاص وتقييم لأحداث، وبين أوراق بحثية موضوعية أخرى تناولت عمق الفكرة.من أبدع تلك الأوراق التي تناولت عمق الفكرة كتاب «أزمة التنظيمات الإسلامية – الإخوان نموذجًا» لكاتبه د.جاسم السلطان، الذي شغل حينًا منصب المراقب العام لإخوان دولة قطر، وسرد في كتابه ما توصل إليه من مراجعات استمرت قرابة الخمس عشرة سنة، يورد في كتابه: «جوهر الموضوع هو اختطاط طريق جديد للمستقبل عبر مراجعات كبرى وصريحة وفي الغالب مؤلمة، ولكنها الطريق الأسلم لجعل التضحيات تؤتي ثمارها، فلهذا المستقبل المأمول نكتب ونتحمل كل ما يترتب على هذه الصراحة من سوء الظن ومن التجريح، وقد عانيناه فيما هو أخف من هذا، ولكنه طريق المستقبل المأمول».



بعد قرابة القرن صدر تصريح من البابا بنديكت الرابع عشر بطباعة كل كتب جاليليو، بعدما كان الزمن كفيلًا بإثبات صحة ما اجتهد فيه العالم الجليل

بالطبع ستثور حفيظة كثير من الإخوان ضد مقالتي هذه، متهمين كاتبها بالخسة ومهاجمة الطرف الجريح وقت ضعفه. لا بأس، ولكن ربما سيغير أحدهم رأيه إذا علم أن المقالة مكتوبة من قلب زنازين سجون المحروسة، وأن كاتبها نزيل في إحداها بعد أن حمل الفكرة حينًا من عمره؛ وربما لن يتأثر آخر مبررًا الأخطاء ومهاجمًا بشراسة فكرة المراجعة أو وقت الدعوة لها، وربما سيتجاهلها آخر موقنًا في كفاءة قادته وصحة منهجه وطبيعة دعوته.لكن المؤكد أني أدركت أخيرًا بعد أن أصبح الإخوان على فريقين، الأول تذرع باستنفاد الوسائل وتسلح بدرع الصبر والصمود منتظرًا ظهور المخلص، والفريق الآخر لا يزال يعبّئ صفه لخوض معركة الخلاص ضمن مخطط تثوير الشعب، أن جوهر الخلل عند الفريقين المسكينين يكمن في الأفكار، وأنهما على خصام كبير مع واقع تجاوز خيالاتهم.غدا إخوان مصر اليوم قابعين بين صمود المتواكل واندفاع الثائر وفوبيا المراجعة، تلك الكلمة التي لا تزال تحمل في أذهانهم سمعة سيئة.المهم أنه بعد قرابة القرن، وتحديدًا في العام 1741، صدر تصريح من البابا بنديكت الرابع عشر بطباعة كل كتب جاليليو، بعدما كان الزمن كفيلًا بإثبات صحة ما اجتهد فيه العالم الجليل، وفي العام 1939 قام البابا بيوس الثاني عشر بعد أشهر قليلة من رسامته لمنصب البابوية بوصف جاليليو: «أكثر أبطال البحوث شجاعة؛ لم يخش من العقبات والمخاطر ولا حتى من الموت».والسؤال هو: هل ينتظر الإخوان مائة عام أخرى – كأعوام جاليليو- ليمارسوا حينها كربلائية أخيرة على أنقاض ذكرى جماعتهم؟ أم أن أحدهم سيدفع باتجاه التصحيح وجرأة مراجعة الفكرة والوسيلة؟



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.