شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 80 إعداد: أ. ساري عرابي بدأ الاحتلال الإسرائيلي في الاستعداد مبكرًا لاحتمالات التصعيد في شهر رمضان، وذلك جوهريًّا لتزامن الشهر الكريم مع الأعياد اليهودية، ولا سيما عيد الفصح اليهودي، والذي وافق الأيام من 15 إلى 22 أبريل/نيسان 2022، وهي الأيام التي توافق من 14 إلى 21 رمضان 1443هـ، وبالنظر إلى حرص الاحتلال على تكريس الوقائع الاستعمارية في القدس عمومًا، وعلى نحو أخص في البلدة القديمة وفي المسجد الأقصى، فإنه كان متوقعًا تنظيم اقتحامات يومية للمسجد الأقصى خلال هذه الفترة. وهو الأمر الذي جرى بالفعل، وعلى نحو متصاعد، طوال أسبوع العيد اليهودي المذكور. يمكن الحديث عن الوقائع الاستعمارية، المتعلقة بالمسجد الأقصى من حيثيتين؛ الأولى، تطبيع الاقتحامات اليومية، وهو الأمر الذي تكرَّس طوال السنوات العشر الماضية، والثانية تطبيع الاقتحامات في أثناء المناسبات الإسلامية، وهو الأمر الذي أخذ يتكرَّس منذ سنة 2019، وفي حين نجح المرابطون المعتكفون في صد اقتحام سنة 2021 الذي وافق 28 رمضان 1442هـ، في سياق سلسلة أحداث، تطوَّرت فيما عُرِف فلسطينيًّا بـ «معركة سيف القدس»، فإن الاحتلال، ضمن سياساته المدمجة متعددة الأدوات، والتي من ضمنها التحايل على إنجازات الفلسطينيين، والعودة لاستئناف السياسات الاستعمارية بعد امتصاص الصدمة أو استيعاب الهبة الفلسطينية، لم يكن ليتراجع عما أنجزه من قبل، وهو ما كان يعني عودته في رمضان هذه السنة للدفع نحو هذه الاقتحامات، وإن كان ذلك لأسباب قد تكون متباينة داخل الأوساط الصهيونية. إنه، وفي حين يفتقد الوسط الصهيوني إلى الإجماع على الدوافع الدينية لاقتسام المسجد الأقصى مع المسلمين، أو الانخراط في مشاريع بناء معبد يهودي داخله، أو مكانه، فإن المؤسسة الصهيونية، بمستوييها السياسي والأمني، تصر على فرض الهيمنة الإسرائيلية على المجال العام في القدس، حتى في أصغر تفاصيله، ومن ذلك فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى ومجاله الحيوي، بينما تتنامى قوى الصهيونية الدينية، والجماعات الكهانية، وتلك التي تقوم على مشروع بناء المعبد اليهودي، في المجتمع الإسرائيلي، وفي أوساطه السياسية، ليس فقط من حيث حضورها العددي الآخذ بالتزايد في الكنيست الإسرائيلي، منذ سنة 2003، ووجودها الدائم في الحكومات الإسرائيلية منذ سنة 2013 بالتزامن مع بلورة سياسات اقتحام المسجد الأقصى وتكثيفها، ولكن أيضًا من حيث أثرها البالغ في السياسات الرسمية، غير القادرة على تجاوزها، أو المضطرة لمراعاتها، في سياق التحالفات السياسية، مما يعني زيادة مؤكدة في نفوذها خلال المرحلة القادمة. عوامل التصعيد المرصودة لقد كان متوقعًا بالنظر إلى ذلك إنفاذ اقتحامات المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وفي فترة أسبوع العيد اليهودي، وهو ما دفع الأوساط الإسرائيلية للاستعداد المكثف لاحتمالات التصعيد الناجمة عن هذه الاقتحامات، وقد كانت عين المؤسسة الإسرائيلية على جملة عوامل أخرى، يمكن إجمالها فيما يلي: أولًا: قرب العهد من أحداث مايو/أيار 2021 (معركة سيف القدس)، والتي مثلت تحوُّلًا مهمًّا في السياق الكفاحي الفلسطيني، في حدود الضفة الغربية والقدس، وعلى المستوى الفلسطيني العام، فالمسافة الزمنية الفاصلة بين الحدث المتوقَّع وبين الحدث الماضي، هي أقل من عام، وللفاعلية الشديدة لتلك الأحداث في رفع التعبئة الفلسطينية، وتكثيف الإحساس الفلسطيني بإمكان الفعل وصناعة الفارق، كان بداهة أن تتوقع المؤسسة الإسرائيلية، استمرار المفاعيل التعبوية لتلك الأحداث في الوسط الفلسطيني. ثانيًا: ارتباط أحداث مايو/أيار 2021 بالقدس عمومًا، والمسجد الأقصى خصوصًا (أحداث باب العمود، وحي الشيخ جراح، واقتحام المسجد الأقصى في أثناء رمضان، ومسيرة الأعلام في القدس)، وارتباط الأحداث التي كانت متوقعة في رمضان 1443هـ – أبريل/نيسان 2022، بالمسجد الأقصى خصوصًا، ولا سيما توقعات اقتحامه في أثناء عيد الفصح المتزامن مع رمضان. ثالثًا: رصد التصاعد الفعلي في العمل المقاوم المنطلق من الضفة الغربية والقدس، على نحو متصل عضويًّا بأحداث مايو/أيار 2021، مما يعني أن تلك الأحداث لم تستمر في حدود المفاعيل التعبوية فحسب، بل أيضًا في أنماط المقاومة العملية المتصاعدة من جهتي الكم والنوع، وهو ما رصدته الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية المتعددة، والتي لاحظت في الربع الأول من سنة 2022 تصاعدًا كميًّا في أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس، بما يزيد على ما كانت عليه في الربع الأخير من سنة 2021، بالرغم من كون سنة 2021 هي السنة المركزية في إيجاد هذه التحولات، وهو الأمر الذي يعني أن حالة التمرد الكفاحي الآخذة بالظهور، كانت في طور ملاحظ من الثبات، أو الاستعصاء على الرجوع إلى الخلف، مما يزيد من احتمالات تعاظمها في حال حصلت مواجهات متصلة باقتحام المسجد الأقصى. رابعًا: التطور الكمي في العمل المقاوم في الضفة الغربية والقدس؛ تصاعد إلى تطور نوعي، سواء في مستوى العمليات التي شهدها شهرا مارس/آذار وأبريل/نيسان، بين يدي رمضان، مما يشير إلى تحفز متبادل، فلسطيني إسرائيلي، أم في تنوع أنماط العمل المقاوم في الضفة الغربية، وبروز ظاهرة تنظيمية في منطقة جنين على وجه الخصوص، بدت قادرة على الثبات النسبي في وجه حملات التفكيك، بخلاف كل المحاولات التنظيمية طوال السنوات الماضية، التي بدت أشبه بالطارئة سريعة التلاشي. خامسًا: هذه التحولات بعد أحداث مايو/أيار 2021، هي بدورها مرتبطة بتحولات ما بعد حرب سنة 2014، والتي انعكست في الضفة الغربية والقدس في «هبة القدس» التي بدأت مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015، ثم أخذت تعيد إنتاج نفسها، في سلسلة هبات تالية، كلها مرتبطة بالمسجد الأقصى، أو بمجاله الحيوي (هبة باب الأسباط 2017، وهبة مصلى باب الرحمة 2019، وأخيرًا هبة مايو/أيار 2021)، وبين هذه الهبَّات، سلسلة من العمليات المتنوعة، وعودة ظاهرة المطاردين، بالإضافة لنقاط ثابتة من المقاومة الشعبية (جبل صبيح في قرية بيتا مثلًا)، وهو الأمر الذي يعني أن سياسات هندسة المجتمع الفلسطيني من بعد ما يسمى بالانقسام الفلسطيني (2007) آخذة بالتآكل. سادسًا: في سياق التآكل، يلاحظ كذلك تآكل شرعية السلطة الفلسطينية، لانتهاء مشروعها السياسي، وإغلاقها المجال أمام التداول السياسي والاحتكام الشعبي، ولا سيما بعد إلغائها الانتخابات العامة، وهو الأمر الذي انعكس في استعصاء ظاهرة المقاومة المسلحة في جنين على السلطة، وأقل من ذلك في بعض المظاهر العلنية لأنصار التنظيمات الفلسطينية، وهي مظاهر تلاحقها السلطة، كرفع أعلام حركة حماس. يمكن القول إن أهمية السلطة تكمن في موقعها المركزي لضبط المجتمع وهندسته وتحييد الجماهير، فبقدر ما تتراجع هيمنتها يتصاعد العمل المقاوم، وذلك بالإضافة إلى موقعها المركزي في تصورات الاحتلال المختلفة حول كيفيات المعالجة الشاملة لمستويات الاحتكاك بالفلسطينيين بالضفة الغربية. ولذلك تكثفت محاولات الاحتلال لتعزيز موقع السلطة بعد أحداث مايو/أيار 2021، وقد تجلى ذلك في سلسلة اللقاءات رفيعة المستوى بين الطرفين، بغرض إحراز ترتيبات اقتصادية وإدارية وأمنية، تعزز من موقع السلطة، وتكبح استمرار التصعيد. سابعًا: في المشهد العام، ستكون بنية المقاومة المسلحة في قطاع غزة، في قلب حسابات الاحتلال، فقد كان تدخلها في أحداث مايو/أيار الحدث الأبرز، الذي أعطى تلك الأحداث زخمها، وعمق من مفاعيلها في المشهد الفلسطيني، وبالرغم من حالة الهدوء التي طبعت الموقف بين الاحتلال والمقاومة في غزة من بعد انتهاء «معركة سيف القدس»، في مقابل يومية الفعل النضالي في الضفة الغربية، فإن التهدئة التي يستند إليها هذا الهدوء تبقى هشة في كل الأحوال. ثامنًا: كان يمكن أن يضاف إلى تلك العوامل، عوامل أخرى، مثل التوتر المتجدد داخل السجون، وقد كانت الحركة الأسيرة تتأهب للدخول في إضراب كبير عن الطعام لاسترجاع الإنجازات التي سحبتها منها إدارة السجون خلال السنوات الماضية، وخصوصًا بعد «عملية نفق الحرية» (الهروب الكبير من سجن جلبوع) في سبتمبر/أيلول 2021، كما أن الموقف في الداخل المحتل سنة 1948 يبقى قلقًا، لعمق حضور الداخل المحتل في أحداث مايو/أيار ، واستمرار سياسات الاحتلال في التشريد والتجريف، كما في النقب، وسوى ذلك من سياسات تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل، ويمكن على نحو ما إدراج عمليتَي بئر السبع والخضيرة (مارس/آذار 2022)، اللتين نفذهما فلسطينيون من الداخل المحتل، في المخاوف الإسرائيلية تجاه الداخل المحتل. كيفيات الاشتغال المُسبَق للاحتلال على تفكيك عوامل التصعيد يمكن اختزال عوامل التفجير، التي كانت تثير مخاوف الاحتلال الإسرائيلي، في تزامن عيد الفصح اليهودي مع رمضان وما سوف يتخلله من اقتحامات للمسجد الأقصى، وتصاعد حالة المقاومة في الضفة والقدس والتي تشير إلى تأهب فلسطيني، وهو ما بدا مؤكدًا تاليًا، في عمليتين انطلقتا من قرية يعبد في جنين، ومن مخيم جنين، إلى قلب تل أبيب في مارس/آذار وأبريل/نيسان على نحو متتالٍ. ومن ثم كان لا بد للاحتلال الاشتغال على تفكيك عوامل التصعيد، مبكرًا، لتحقيق هدف مزدوج، وهو تكريس وقائعه الاستعمارية ولكن دون أن تفضي إلى تصعيد تصعب السيطرة عليه. لأجل ذلك، انتهج الاحتلال مجموعة سياسات متداخلة، دبلوماسية وأمنية وإجرائية ودعائية، منذ مطلع سنة 2022، للسيطرة على المشهد حين دخول شهر رمضان، وذلك على النحو التالي: أولًا: حملة لقاءات سياسية مكثفة: وذلك في مستويات عالية (وزير الخارجية، وزير الدفاع، رئيس الدولة)، أبرزها مع الملك الأردني، والذي بدوره زار رام الله في السياق نفسه، ومع قيادات من السلطة الفلسطينية. هذه الأطراف (الأردن والسلطة) أكثر الأطراف الرسمية في الإقليم العربي قدرة على التأثير على الموقف في القدس، سواء من خلال إدارة الأوقاف الأردنية المسئولة عن المسجد الأقصى، أم من خلال الكوادر المرتبطين بالسلطة والذين يملكون قدرة على النفاذ إلى الجماهير للقيام بدور معاكس لخيار المواجهة. في السياق نفسه، يمكن القول إن لتركيا كذلك نفوذًا في القدس، مما يقتضي عدم الاستبعاد الكامل لدور محتمل على هذا الصعيد؛ ولذلك سعى الاحتلال للاستفادة منه من خلال اللقاءات الأخيرة مع الأتراك. وينبغي القول، والحالة هذه، إن هذه الحركة المحمومة متصلة بالحركة التي تلت معركة سيف القدس مباشرة، مما يعني أن الموقف أصلًا لم يهدأ بعد تلك المعركة. ثانيًا: ترتيبات أمنية في حقول متعددة: منها: اللقاءات الأمنية، كما في زيارة رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، رونين بار، للولايات المتحدة، ولقائه بمدير مكتب التحقيقات الفدرالية، كريستوفر راي، في مارس/آذار 2022، وكذلك اللقاءات ذات الطبع الأمني مع مستويات في السلطة الفلسطينية، وذلك في ضوء ما تكشَّف في الصحافة الإسرائيلية. التعزيزات الأمنية والعسكرية، وهو ما كشفت عنه رسالة قائد فرقة الضفة الغربية في الجيش الإسرائيلي، آفي بلوت، لقادته العسكريين في فبراير/شباط 2022، دعا فيها لتعزيز الجهوزية الأمنية والعسكرية استعدادًا لاحتمالات التصعيد في رمضان. وعلى أي حال، فقد أعلنت دولة الاحتلال عن حملة في الضفة الغربية، سمَّتها «كاسر الأمواج» بعد سلسلة العمليات في شهرَي مارس/آذار وأبريل/نيسان 2022. تكثيف الإجراءات الموضعية لإضعاف الفاعلين في التصعيد المحتمل. وقد تركزت هذه الإجراءات في القدس، بتوسيع دائرة الاعتقال الإداري للنشطاء المحتملين، وفرض الإقامة الجبرية على بعضهم، وإبعاد البعض من المدينة المقدسة. يمكن القول إن حملات الاعتقال والتصفية في الضفة الغربية، تجري في الدائرة نفسها. تُضبط الإجراءات الموضعية، بتقليص الدائرة الظاهرة من الفعل الأمني والعسكري، حتى لا يؤدي اتساع هذه الإجراءات إلى المزيد من الزخم للحالة الكفاحية الجارية في القدس والضفة الغربية، أو إلى إضعاف السلطة الفلسطينية أكثر، ولذلك فإن الاحتلال لم يكثِّف من حضوره على الحواجز، ولم يصعِّب من حركة الفلسطينيين الداخلية في الضفة الغربية فوق المعتاد منه، باستثناء عقوبات ذات طابع جماعي على جنين، أخذ سريعًا بالتراجع عنها. ويمكن القول إن هذه السياسة الموضعية التي تقصد إلى تحقيق الغرض الأمني دون إيجاد زخم معادٍ، تهدف فيما تهدف إليه إلى عزل المقاومين اجتماعيًّا، والحفاظ على سياسات «السلام الاقتصادي» و«تقليص الصراع». ثالثًا: ما يسميه الاحتلال «نزع فتيل التوتر»: ويمكن هنا الوقوف على سلسلة إجراءات دفع نحوها الاحتلال لتخفيف عوامل التفجير قدر الإمكان، وهي: تجميد المحكمة العليا الإسرائيلية قرار إجلاء أربع عائلات مقدسية عن حي الشيخ جراح، وامتناع الشرطة الإسرائيلية عن نصب الحواجز الحديدية في ساحة باب العمود، والاتفاق مع الحركة الأسيرة على اتفاق تستجيب فيه مصلحة سجون الاحتلال لمطالب الحركة الأسيرة مقابل الامتناع عن خوض الإضراب العام عن الطعام، والدفع نحو تسهيلات اقتصادية لقطاع غزة لزيادة حسابات المقاومة، وذلك من خلال الأيدي العاملة المستجدة من داخل القطاع إلى الداخل المحتل، وما يتصل بحركة الإعمار وإدخال الأموال من خلال الدول الإقليمية، وخصوصًا قطر ومصر، ويمكن أن تندرج في ذلك رسائل التهدئة التي أرسلتها حكومة الاحتلال لقيادة المقاومة في القطاع عبر الوسطاء الإقليميين. كيفيات اشتغال الاحتلال التنفيذي في أثناء الاقتحامات بعد ذلك الاشتغال متعدد الحقول، منذ مطلع سنة 2022، بدا الاحتلال وكأنه أكثر اطمئنانًا لإمكانياته في تحقيق هدفه المزدوج (إنفاذ الاقتحامات في رمضان دون تصعيد يتجاوز السيطرة)، بخلاف ما كان عليه الحال في معركة سيف القدس التي فاجأت حينها حكومة بنيامين نتنياهو، ومن ثم اعتمد الاحتلال الخطوات التالية لإنفاذ الاقتحام: أولًا: إرباك حركة الرباط والاعتكاف، في النصف الثاني من رمضان، مستغلًّا منع إدارة الأوقاف الاعتكاف في غير العشر الأواخر من رمضان، وإيجاد حالة استياء من مواجهة «تشوش على الصلاة وشد الرحال إلى المسجد» من خلال شخصيات تحسب على قوى نافذة في المشهد المقدسي، كالأردن والسلطة الفلسطينية. وهنا يجدر التذكير بكون الاقتحامات المتصلة بعيد الفصح ستنحصر في الفترة بين 15 و22 أبريل/نيسان 2022. في هذه الخطوة، ينبغي التذكير بسياسات الاحتلال طويلة الأمد في تفكيك حركة الرباط طوال السنوات الماضية (مثل حظر الحركة الإسلامية – الجناح الشمالي، وحظر مؤسساتها ذات الصلة، وحظر مصاطب العلم، والإبعاد المتجدد للمرابطين عن المسجد الأقصى، واستنزافهم بالمتابعة والاعتقال والإقامة الجبرية والتهديدات الاقتصادية)، وغير بعيد عن ذلك التحولات في سياسة إدارة الأوقاف للمسجد الأقصى، سواء في سياسات التوظيف لحراس المسجد الأقصى، أم مستويات تدخل الحراس حين حصول الاقتحام. ثانيًا: في السياق نفسه، ضَيَّق الاحتلال من قدرة الفلسطينيين، في الضفة الغربية، بل القدس، على الوصول إلى المسجد الأقصى، في تلك الفترة المذكورة، واستغل ضعف الحشد في الفترة الصباحية، لإخلاء المسجد الأقصى من المرابطين والمعتكفين، من أجل تسهيل عملية اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى خلال هذه الفترة، وهو الأمر الذي تم طوال فترة عيد الفصح، وعلى نحو متصاعد في أعداد المقتحمين، من 545 مستوطنًا في 16 رمضان، إلى 1,180 في 19 رمضان. ثالثًا: استخدم الاحتلال ما يمكن تسميته «خديعة الاستجابة للضغوط، وتكتيك الخطوط الحمراء»، فقد أعلن الاحتلال أنه سيتوقف عن السماح باقتحام المسجد الأقصى منذ يوم 22 أبريل/نيسان، كما أنه لن يسمح بذبح القرابين اليهودية داخل المسجد، ومنع مسيرة الأعلام التي نظمها مستوطنون محتجون على قذف الفلسطينيين بالحجارة لحافلاتهم التي تقلهم إلى حائط البراق أو لاقتحام المسجد الأقصى. في هذا الأسلوب تحديدًا، يجدر التنبيه إلى مجموعة من النقاط، لبيان وسائل الاحتلال الناعمة في التحايل على تحفز الفلسطينيين، وإعادة سلب إنجازاتهم منهم، وذلك بالتنبيه إلى ما يلي: كانت المخاوف التي يحذر منها الفلسطينيون، بل التي أبداها الإسرائيليون منذ مطلع سنة 2022، هي تلك المتعلقة باقتحام المسجد الأقصى (في 28 رمضان من السنة الماضية كان صد الاقتحام مركزيًّا في الحدث)، ولم يكن ذبح القرابين حاضرًا بقوة التحذير من الاقتحامات، الأمر الذي قد يكشف عن استغلال القرابين سلَّمًا لإنزال الفلسطينيين عن شجرة المواجهة، بادعاء أن الاحتلال استجاب لتهديداتهم، بمنع ذبح القرابين، وهو ما يشي على نحو ما بتسليم فلسطيني ضمني بصعوبة منع الاقتحامات، أو الذهاب نحو مواجهة موسعة، بقرار من المقاومة في غزة، لمنع الاقتحامات. ليس من عادة الاحتلال الدفع نحو الاقتحامات في العشر الأواخر من رمضان، إلا في حالات نادرة جدًّا، وقد كان معلومًا سلفًا أن الاقتحامات ستتركَّز في فترة عيد الفصح السابق على العشر الأواخر، مما يعني أن الإعلان عن وقف الاقتحامات في العشر الأواخر لم يكن أكثر من خديعة للادعاء بالاستجابة للضغوط الإقليمية والدولية، ولتنفيس تحفز الفلسطينيين، بإظهار الموقف وكأن الاحتلال خضع لهم في نهاية الأمر. إن مسيرة الأعلام التي تصدت لها الشرطة الإسرائيلية، مختلفة عن مسيرة الأعلام التي كانت جزءًا من أحداث سنة 2021، فتلك كانت مسيرة مركزية من ضمن فعاليات ما يُسمى بـ «عيد توحيد القدس»، بينما المسيرة التي تصدت لها الشرطة الإسرائيلية كانت مسيرة طارئة، مستعجلة التنظيم، احتجاجًا على رشق حافلات المستوطنين بالحجارة. خلاصات إنفاذ اقتحام المسجد الأقصى في رمضان بتلك الاستعدادات المبكرة المكثفة، وبهذه السياسات التنفيذية المركبة من المبادرة الأمنية والخديعة الدعائية، يمكن القول إن الاحتلال فرض عملية الاقتحام للمسجد الأقصى، بأقل قدر ممكن من التصعيد، فالتصعيد الذي رافق عملية الاقتحام كان أقل من الأحداث التي شهدها شهر مارس/آذار ومطلع أبريل/نيسان 2022، وأقل بالتأكيد من معركة سيف القدس، بل من مجمل الهبَّات التي تجددت منذ سنة 2015. لقد استثمر الاحتلال سياساته طويلة الأمد في إضعاف حركة الرباط وتفكيكها وصولًا إلى تكريس اقتحام المسجد الأقصى في المناسبات الإسلامية، كما استثمر في عدم مواءمة الحالة الإقليمية للفلسطينيين، وثقل حسابات المقاومة في غزة بالنسبة للظرف الإقليمي والبنية التحتية في القطاع وضرورات الحاضنة الاجتماعية، مما دفع المقاومة في غزة للتمسك بخطوط حمراء (ذبح القرابين ومسيرة الأعلام) ليس منها اقتحام المسجد الأقصى. كما أن الاحتلال، الذي استعد جيدًا لهذه اللحظة، استفاد من ضعف الجهوزية التنظيمية في القدس والضفة الغربية، فالهبَّات الشعبية قصيرة النفس، والدوافع الذاتية في المواجهة يصعب أن تتضافر في جهد جماعي راسخ ومستمر، ومن ثم كان الاحتلال مطمئنًا إلى محدودية القدرة التنظيمية على تنظيم حالة رباط ثابتة في غير أوقات الذروة ومن المقدسيين تحديدًا (صد اعتكاف 28 رمضان 1442هـ، كان في أوقات الذروة، وبحضور كثيف لفلسطينيي الضفة)، والجهوزية التنظيمية في الضفة الغربية ليست أحسن حالًا مما هي عليه في القدس، باستثناء الظاهرة المحصورة حاليًّا في جنين، كما أن الاحتلال كان مطمئنًا إلى موقف السلطة الفلسطينية غير المرحب بفكرة المواجهة، والتي لم يتجاوز موقفها تصريحات مألوفة بلا انعكاس في الواقع، كما أن حركة فتح لم تنظم فعاليات شعبية واسعة في الضفة الغربية تنسجم ومستوى الاقتحام للمسجد الأقصى. تحليل السيناريوهات التي كانت متوقعة بالنظر إلى خلاصة الأحداث بعد انتهاء عيد الفصح اليهودي، وتمرير الاقتحام طوال فترة العيد، فإنه يمكن القول إن التوقعات بتصعيد كبير قد باتت خلف الحدث، مع كون احتمالات تجدد التصعيد قائمة ما دام الموقف قلقًا، لا سيما في الضفة الغربية. لقد كانت السيناريوهات المتوقعة، للاقتحام، منحصرة في ثلاثة. ستقدم هذه الورقة اقتراحًا آخر، يمكن عده سيناريو رابعًا، مختلفًا عن الدائرة التي تجري فيها السيناريوهات الثلاثة، والتي هي: أولًا: التصعيد الشامل والواسع: بالرغم من المخاوف التي أبداها الإسرائيليون وحالة التأهب المتصاعدة والمتبادلة منذ مطلع سنة 2022، فإن هذا السيناريو الأقل رجحانًا، لأسباب سبق ذكرها، ويمكن تكثيفها فيما يلي: موقف السلطة الفلسطينية المناوئ لفكرة المواجهة: فتآكل هيمنة السلطة، ما زال محدودًا، وموقف السلطة المحلية شرط موضوعي حاسم في تطور الهبَّات كما أثبتت التجربة التاريخية (انعدام السلطة المحلية في الانتفاضة الأولى، وموقفها الإيجابي نسبيًّا في الانتفاضة الثانية). ضعف البنى التنظيمية: فالهبَّات الشعبية قصيرة النفس بحاجة لاستثمار منظم، وهو ما فقدته الهبات الشعبية كلها منذ سنة 2014، كما أن العمليات ذاتية الدافع، وبقدر ما هي مقلقة للأمن الإسرائيلي من حيث صعوبة توقعها، فإنها لن تكون بالكثافة المؤثرة على المدى الكافي زمنيًّا لإيجاد الزخم المطلوب، وغير صالحة للتهديد بها، ما دامت غير متوقعة حتى بالنسبة للفلسطينيين، فالاحتلال يخشى الفعل المقصود المسيس القادر على طرح أجندة معلنة وتنفيذ تهديداته في التوقيتات التي يضعها، وهذا لا يتوفر إلا في غزة. ثقل حسابات المقاومة في غزة، من جهة قراءة الظرف الإقليمي والدولي، ومدى القدرة على الاستثمار السياسي لأي مواجهة واسعة، والظروف الداخلية في قطاع غزة من حيث البيئة الاجتماعية والبنية التحتية، واتصال ذلك بسياسات الاقتصاد مقابل الهدوء التي أخذت حكومة نفتالي بينيت بانتهاجها، في سياق مفهومه لـ «تقليص الصراع»، على خلاف سياسات «الهدوء مقابل الهدوء» التي كانت تتبناها حكومة بنيامين نتنياهو. ثانيًا: تصعيد محدود ولكنه متدحرج ومستمر: لا يتوقف عند أحداث المسجد الأقصى، بيد أن العوامل المؤثرة في هذا السيناريو، هي العوامل نفسها المؤثرة في السيناريو السابق، بالرغم من أن الهبات الشعبية، قد تمضي فترة إلى الأمام، كما في هبَّة القدس سنة 2015، إلا أن الحفاظ على وتيرة واحدة من الثبات، بما قد يقتضي أفعالًا مدروسة لمنع الزخم من الانحسار، تحتاج بدورها إلى قوى منظمة، أو معيقات محلية أقل. ثالثًا: تصعيد عابر ينحسر بانحسار الحدث: لافتقاده الشروط الموضوعية للتصاعد، وللاستعداد الجيد متعدد المستويات للاحتلال الذي سبق أحداث المسجد الأقصى كما سبق عرضه. والذي ظهر، حتى انتهاء الفترة الحرجة (15 أبريل/نيسان إلى 22 أبريل/نيسان)، إن الأحداث لم تبلغ درجة الهبات السابقة، لا موضعيًّا في القدس ولا على مستوى الضفة أو على مستويات أعم في فلسطين، كما أنَّها كانت دون الحالة التي شكَّلتها سلسلة العمليات التي تكثَّفت في شهر مارس/آذار، ومطلع أبريل/نيسان. وجهة نظر في سيناريوهات النمط الكفاحي في الضفة الغربية تعلقت السيناريوهات الثلاثة السابقة بسؤال واحد، يبحث في الأحداث ما بين التصعيد الذي يقارب الهبَّة الواسعة وما بين الانحسار، وهو السؤال الشائع، أو الذي تجري استعادة طرحه، كلما تجددت بعض أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس، كما أن الارتفاع بسقف السؤال إلى مستويات السؤال عن انتفاضة ثالثة، بما يستدعيه مفهوم «الانتفاضة» من تصورات، من حيث السعة والعمق والشمول والاستمرارية، دائم الحضور. غير أن هذه الأسئلة يغيب عنها الوعي الكافي بالشروط الموضوعية، والأثر الحاسم للبنية التحتية للمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس في مستوى النمط الكفاحي فيهما. تقدم وجهة النظر هذه، مقترحًا، يلحظ أن الأنماط الكفاحية التاريخية للفلسطينيين لا تقتصر على الانتفاضات الشاملة، أو الهبات الواسعة، أو الحروب الطاحنة (والتي هي نموذج جديد داخل الأرض المحتلة أخذ بالظهور مع تبلور بنية عسكرية شبه نظامية للمقاومة في غزة). إن التصور الذي يحصر الأنماط المقاومة في هذه الصور الضخمة، يتورط في مقارنات تقصر عن إدراك التكيفات التاريخية للنضال الفلسطيني مع الظروف المؤثرة فيه، وعن الشروط الموضوعية لاستحداث صورة من تلك الصور الضخمة، ويفضي إلى غفلة عن أنماط قد تكون جارية، ولكنها لا تحظى بالتقييم الدقيق والتقدير الكافي. الملاحظ بالمقارنة، كما سبقت الإشارة، بين مرحلتين زمنيتين، الأولى من 2007 وحتى 2014، والثانية من 2014 وحتى الآن، أن الضفة الغربية والقدس، في هذه المرحلة الثانية، أخذت تستعيد حضورها النضالي، وعلى نحو يجعلهما ساحة الاشتباك اليومي مع الاحتلال، بأدواته المتنوعة. تذكر إحصائية لجهاز الشاباك أن أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس في شهر مارس/آذار 2022 بلغت 190 عملًا مقاومًا؛ 161 عملًا منها في الضفة، و29 عملًا منها في القدس دون احتساب حوادث الرشق بالحجارة. وبحسب الإحصائية نفسها يمكن تصنيف هذه الأعمال إلى: 7 عمليات طعن، عملية دعس واحدة، 16 عملية إضرام نيران، 14 عملية إطلاق نار، 17 عبوة أنبوبية، 131 زجاجة حارقة. وذلك في حين كان عدد أعمال المقاومة، بحسب الإحصائية نفسها، 187 في فبراير/شباط 2022، و141 في يناير/كانون الثاني 2022، و137 في ديسمبر/كانون الأول 2021، وهو أمر يؤكد حالة التصاعد التي ظهرت مطلع سنة 2022، وبالصورة التي تجعل من الضفة الغربية والقدس ساحة مواجهة يومية، ما يعطيها قيمتها، هو تلك المقارنة مع حالة الساحة نفسها قبل سنة 2014. الفكرة المراد قولها، في هذا التصور، هي أن النضال لم ينحصر تاريخيًّا في الانتفاضات الشاملة والواسعة، فقد انحسر الفعل المقاوم مثلًا بعد استكمال السلطة الفلسطينية دخولها الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، واقتصر على عمليات لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، انحسرت لاحقًا في السنوات الأخيرة قبل انتفاضة الأقصى، وهبَّة النفق في سبتمبر/أيلول 1996، التي أسهمت السلطة الفلسطينية حينها في تحريكها. ما يحصل الآن في الضفة الغربية والقدس، يبدو متقدمًا من حيث الكم، على مراحل سابقة كانت تنحسر فيها الأنماط النضالية الواسعة، مما يعني أن ثمة تكيُّفًا في الشكل المقاوم مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية الراهنة في الضفة الغربية، هذا الشكل من التكيف تجلى في سلسلة هبات، تعيد إنتاج نفسها كل سنتين مرة في المعدل، مع تجدد العمليات النوعية، التنظيمية أم ذاتية الدافع، وثبات بعض الفعاليات، كما في بعض فعاليات مواجهة الاستيطان، وبروز ظاهرة تنظيمية أخيرًا في جنين، ويصاحب ذلك تحولات سياسية واجتماعية تتركز تحديدًا في انحسار شرعية السلطة الفلسطينية، وما ينبثق عنها من تراجع في هيمنتها العامة. سيناريو رابع يمكن القول إنه يمكن توقع سيناريو رابع، وهو استمرار الحالة الكفاحية الجارية، بأنماطها التي تعيد إنتاجها طوال السنوات الماضية، منذ سنة 2014، والتي بدت وكأنها تكرست مع معركة سيف القدس وبعدها، مع ملاحظة مشكلة جوهرية في هذه الحالة الكفاحية، وهي ضعف الفاعلية التنظيمية، مما يجعل تصاعد الحالة، مرهونًا بعوامل غير مرصودة، كظروف التثوير المتعلقة ببعض ملفات القدس والمسجد الأقصى، أو العمليات ذاتية الدافع، أو النجاحات المحدودة لبعض الظواهر التنظيمية، أو المفاجآت التي من شأنها أن تدفع الحالة الكفاحية نحو مرحلة جديدة. استدعاء المفاجآت بوصفها عنصرًا لا يمكن إغفاله، ضروري للتحوط حين تحليل هذه الحالة ومآلاتها، لكن لا يمكن للتحليل أن يتعلق بعناصر غير مرصودة، ومن ثم فرصد العناصر يشير، إلى نمط معقول، وإن لم يكن عالي الوتيرة، من الفعل النضالي، يتناسب مع الشروط الموضوعية في ساحة الضفة والقدس. لا يمكن والحالة هذه أيضًا، إغفال احتمالات تدحرج مواجهة قد تطرأ مع المقاومة في قطاع غزة، أو مع الجبهة الشمالية، وبما يمكن أن يتحول إلى رافعة لساحة الضفة والقدس، إلا أن التركيز ابتداءً على ساحة الضفة والقدس، بوصفها الساحة الأكثر قدرة وقابلية لاستيعاب مقاومة شعبية متعددة الأدوات وتنظيمها وتطويرها، قادرة على الاستمرار النسبي، دون استنزاف ضخم للبيئة الاجتماعية، بخلاف الحال في قطاع غزة الذي انحصرت مقاومته نسبيًّا بالمقاومة المسلحة شبه النظامية المرتبطة بسلطة محلية داخل القطاع، مما يحول مواجهتها مع الاحتلال إلى حروب لا تحتمل البيئة الاجتماعية والجغرافيا السياسية لقطاع غزة استمرارها لفترات طويلة، أو تجددها في فترات قريبة. توصيات أولًا: بالنسبة للسلطة الفلسطينية: لا يبدو أن قيادة السلطة الراهنة، في وارد الدفع نحو مواجهة جدية مع الاحتلال ولو كانت محسوبة للغاية، كما أن التجربة التاريخية القريبة، تؤكد هذا التصور، فمنذ توقف المفاوضات فعليًّا مع رحيل حكومة إيهود أولمرت ومجيء حكومة نتنياهو سنة 2009، لم تتخذ قيادة السلطة الفلسطينية خطوات فعلية وجدية للخروج من المسار أو للمناورة المؤثرة من داخله، وهو ما تأكد أكثر مع مجيء إدارة دونالد ترامب وسياساتها التي أعلنت فعليًّا عن نهاية مشروع التسوية، ثم سلسلة الهبات، التي كان يمكن لها أن توفر للسلطة الفلسطينية أدوات ضغط ومناورة سياسية، تُحسِّن من موقعها السياسي في سياق وطني مقبول. إن ما يُسمى بـ «الانقسام» الذي دفع قيادة السلطة نحو سياسات أكثر اندفاعًا للاستجابة للشروط الخارجية، والاستناد في المشروعية إلى الوظيفة السياسية والأمنية المشروطة خارجيًّا، ثم الانتهاء الفعلي لمشروع التسوية بما حول السلطة إلى هدف بلا وعد سياسي، وهو ما أنتج بالضرورة نخبة متضررة من فكرة المواجهة، يجعل من محاولة الدفع للتغيير من داخل السلطة غير مجدية، لكن ذلك لا يمنع من التأكيد على أن السلطة بسياساتها الراهنة عقبة كُبرى أمام تطور الهبات في الضفة الغربية، ليس فقط بسبب سياساتها الأمنية، بل بسبب مجمل بنيتها وما نتج عنها من سياسات اقتصادية واجتماعية تسهم في تحييد الجماهير عن القيام بواجبها النضالي. ثانيًا: الفصائل الفلسطينية: يتضح تمامًا، من مستوى الحضور التنظيمي في الهبات المتجددة في الضفة والقدس، ضعف الجهوزية التنظيمية، بالرغم من بعض المحاولات التي أسهمت في إذكاء الحالة، أو التي جرى ضربها وتفكيكها سريعًا. ترجع أزمة الفصائل في الضفة الغربية إلى جذور تاريخية بعيدة، من ضمنها طبيعة المجتمع في هذه الساحة، وعمليات الاستنزاف التي لم تتوقف منذ الانتفاضة الأولى، وعمليات التفكيك العميقة مع عملية السور الواقي سنة 2002، ثم عمليات التجريف من بعد ما يسمى بـ «الانقسام» سنة 2007، والتي كان للسلطة الفلسطينية دور مركزي فيها، وما تبع ذلك من سياسات هندسة اجتماعية عميقة، ومن بعد انتفاضة الأقصى طور الاحتلال قدرات أمنية هائلة في البنية التحتية ذات الصلة بأدوات الضبط والسيطرة والمراقبة، وتبدو كاسحة الأثر. لم تلتقط الفصائل، فصائل المقاومة تحديدًا، أنفاسها طوال هذه المراحل، بخلاف الحال في قطاع غزة، حيث استعادت فصائل المقاومة عافيتها فيه بعد انتفاضة الأقصى، وطورت جهوزيتها بعد الانسحاب الإسرائيلي في 2005، ثم بعد سنة 2007. لا يمنع ذلك من القول إن الفصائل بدورها لم تتمكن من تطوير أدوات وطرق عمل لهذه الساحة، التي هي أهم ساحات المقاومة لأسباب موضوعية وسياسية، وكذلك لأسباب عملياتية، فمع التعقيد الذي تعانيه المقاومة في غزة، تتأكد الحاجة لجبهات إسناد واستنزاف للعدو إضافية، وجبهات استنزاف ومشاغلة مفتوحة تتخفف من الحسابات التي تثقل المقاومة في القطاع المحاصر. إن طول الفترة، من بعد عملية السور الواقي ثم من بعد الانقسام دون التمكن من التعافي، والاحتفاظ بجهوزية معقولة يمكن الاعتماد عليها في إرباك حسابات الاحتلال أو إسناد مقاومة غزة أو تطوير الهبات الشعبية، قد يشير إلى إشكالية في الخيال العملي، والقدرة على ابتكار الحلول، للتحايل على إجراءات الاحتلال التي لا يمكن إغفال عمقها وقوتها وتفوقها، إلا أن النجاحات المحدودة، كما في الظاهرة المستجدة في جنين، تشير بدورها إلى أن تفوق الاحتلال ليس حتمي القدرة. لا يقتصر الأمر على الضفة، فتوسيع جبهات الإسناد قد يجد دائرة أخرى من الخيارات خارج الأرض المحتلة، ولكن بما يستوجب حيوية أكثر، وتخففًا أكبر من الحذر المفرط والفكر المحافظ. ثالثًا: المجتمع الفلسطيني: لا يمكن إنكار أثر سياسات الهندسة الاجتماعية التي مورست على الفلسطينيين خلال السنوات الماضية، وما نجم عن عمليات التجريف والتفكيك وتفريغ الساحة من منابر التعبئة والتأطير، وفي المقابل لا ينبغي إنكار ضعف مشاريع تعزيز صمود أهل الميدان، سواء من حيث الرؤية، أم الاستمرارية، أم الفاعلية، أم الكثافة، فقد ظلت قدرة الاحتلال، والسلطة كذلك، على استنزاف الفاعلين إنسانيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا عالية للغاية، مما يضعف الإرادة المتجددة للنضال، وهو أمر ظاهر في فصائل المقاومة التي تعاني في قدرتها على توسيع دائرة الاستقطاب التنظيمي بما يعوض عن عمليات استنزاف الكوادر التاريخية، كما أنها تفتقد البرامج الحيوية لتعزيز كوادرها الذين يتعرضون للاستنزاف. في السياق نفسه ينبغي القول إن عمليات الرباط في الأقصى، وخصوصًا في أوقات الاقتحام الصهيوني، وهي غالبًا أوقات الضحى، تحتاج تفريغًا، ورعاية، لضمان رباط دائم، غير متضرر من عمليات الاستنزاف، وغير مستهلك في البحث عن لقمة العيش، وهو ما يمكن قوله في مجمل عمليات تحصيل الجهوزية الدائمة لأي شكل من أشكال النضال المنظم الثابت. مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً ساندرو تونالي: رحلة على طريق مقعد الخلافة الوهمي حكايات عن «فن المقاومة» وأعلامه صيد الكواكب: كيف نكشف عن وجود كوكب حول نجم بعيد؟ المرتزقة الجدد: نشأة الشركات العسكرية الخاصة ومستقبلها شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram مركز الزيتونة للدراسات Follow Author المقالة السابقة العلم والفلسفة بين الميتافيزيقيا والمنهج الجدلي المقالة التالية مسرحية «أهل الكهف»: عن جدلية الزمن وعاطفة الحب قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك بين الكوميديا والأكشن والرعب: 22 فيلمًا ننتظرهم في 2021 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «The Dark Knight»: المشروع الأخلاقي لـ «كريستوفر نولان» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فلسفة التشيؤ: كيف حولت الرأسمالية الإنسان إلى سلعة؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ساحر الأدب الفرنسي «دوشاتوبريان» ورواية «آخر بني سراج» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «القولبة»: أخطر مما نتصور 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «ميسي» و«رونالدو»: فن صناعة الوهم 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك خلال الـ9 سنوات الأولى: كيف تبني عقلية بسيطة لأبنائك؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ماذا نعرف عن «متلازمة الطفل الوحيد»؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك دلالة ترتيب «إسرائيل» في نماذج القياس الدولية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الحب والسلطة، أو الحب كإعادة ولادة للعالم من جديد 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.