لا
يمكن للفنّ في ذهنيَّة هذا العصر أن يُختزَل في وظيفة واحدة، فهو أشبه بجسم هلاميّ
يغيِّر شكله من فترة لأخرى عند أيّة فرصة تخلقها الظروف، مُمتدًا بثقله إلى كلِّ
مكان وزمان، إنَّه حرباء يحوِّل جلده إلى جميع الألوان كما تشاء رغبته أو حسبما
تجبره الضرورة.

ومثلما
يحب البعض القول بأنَّ الإله يعمل في التاريخ، فالفنُّ فاعل في التاريخ يعمل فيه
وفينا من دون أن يتوقَّف حتى لأجل أن يسترجع أنفاسه. كما نجده يمارس ما نسميه «عنايته
الجماليَّة» باستمرار على حيوات العقلاء والفاقدين لعقولهم معًا، ذلك لأنَّ الفنّ
عاقل ومجنون، قدِّيس وداعر، وامرأة ورجل، فهو الكلِّي المطلق.

الفنّ والفضيلة، الفنّ والمقدَّس، الفنّ والحق، إنَّها ظواهر موجودة لكن موجود غيرها كذلك. وبهذا فقد طرح العديد من الفنانين والأدباء ما توصَّلوا إليه حوله بنظارات أكثر حداثة عن ذي قبل. فالمذهب البرناسي أو ما يعرف بـ «الفن لأجل الفن»، مع جيل الإيقاع؛ الأوَّل منه مذهب أمّا الثاني فحركة، بالإضافة إلى أنَّ الاثنين يختلفان في رؤيتهما للفنون والآداب. غير أنَّ كلّ طرف يقدِّم مفاهيم ثورية تستفز دوغمائيات الوسط الاجتماعي والنقدي.

أمّا
حركة «دوغما 95» فهي اتجاه سينمائيّ يستسلم للحقيقة البعيدة عن الكذب، ولا يحب
خداع الجمهور، لكنَّه يثور مُهاجمًا الواقع الفنِّي المعاصر، الذي يسبح في أوحال
التكنولوجيا والأكوان الافتراضيَّة.

الفن لأجل الفن

يقول الأديب الألماني «يوهان غوته» إن الفنّ الرفيع الخالد ليس ما يعلِّمنا ملتبسًا صورة المرشد الأخلاقي، بل هو ما يغيَّرنا [1]. أمّا الكاتب الفرنسي «بنجامين كونستانت» الذي يُنسب إليه أوَّل استعمال لعبارة «الفن للفن»، فيزعم أنَّ الغرض من اللوحة هو التأثير لا التعليم [2]. ويكتب كارلوني وفيلو في كتابيهما «النقد الأدبي»:

إنَّ الأثر ليس له في البدء أي عمل سوى أن يوجد، فإذا ما أدلى بشهادة، فإن هذا يكون إضافة عليه. [3]

بإمكاننا
من خلال هذه الأفكار والكلمات التي لا ينتسب أصحابها بالضرورة إلى هذا المذهب،
معرفة أهم مبادئ البرناسيَّة أو كما يُعرف «الفنّ لأجل الفنّ» Art
for art’s sake، إنَّه دفاعٌ عن أثر هو غاية في ذاته، فهو
مكتفٍ ولا يحتاج التشبُّث بالأهداف التي تريد المجتمعات والأنظمة الوصول إليها عن
طريق المرور عليه، يكون الفن هنا هو القمة التي لا تحتاج جبلًا آخر.

لقد نشر الشاعر الفرنسي «تيوفيل غوتيه» عام 1836، بيانًا ينادي به بانفصال الفن عن القيم البالية واستقلاله، كما نشر بعد سنوات قصيدته «الفن» التي يكشف فيها تصوُّراته وكان ذلك قبل كتبه النقديَّة التي تعمقت في المسألة [4]. وتبعه الكونت «دي ليسل» الذي انتقد الشعب الفرنسي بشراسة ورأى أنًه «لا خلاص خارجًا عن الجمال». [5]

لا يهتم البرناسيون بالذاتيَّة التي يغرق فيها الرومانسي، فكانوا يشعرون باستياء من الكتَّاب والشعراء الذين يزجون بمشاعرهم داخل العمل ويكتبون عن شخصياتهم التي تغرق في الحزن. كما يرفض البرناسيون أن يعبِّر الأدب عن الواقع أو يصبح مجرد مرآة لإظهار المشاكل الاجتماعية للعالم أو وسيلة لمحاولة حلِّها، فالكلمات ليست خادمةً للأشياء ولا حاجة للحرف أن يصف العالم، لأنَّ الفنّ جمال وترف ليس أكثر من هذا، وإذا حمل حقيقة كبرى فهي حقيقته هو، لا حقائق غيره من السرديات والشخوص.

يقول
غوتيه:

ما إن يصبح شيءٌ ما مفيدًا حتى يبطل أن يكون جميلًا… لا يوجد الجمال الحق إلا فيما لا فائدة منه. [6]

أمّا
الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» الذي لبس هذا الرداء وهو الذي تنقَّل بين المذاهب
المختلفة فيقول:

الشعر ليس موضوعه الحقيقة، لا موضوع له إلا ذاته، لا صلة للحقيقة بالأغنيات. [7]

وهكذا فإنَّ البرناسيون لا يهتمون بغير الجمال وإتقان العمل الفنِّي من حيث الشكل، فيركِّزون على القوافي والنغمة والتقنيات الفاتنة، فلا يقبلون بأدب متواضعٍ سهل المضغ حتى لو رآه الجمهور يحمل معنىً ثقيلاً. وبإمكاننا التأكيد من خلال نافذة المقال على أنَّ هذا المذهب هو مذهب أدبيّ يسقط في فن الروكوكو لكن من خلال الكلمات والقصائد.

ورغم هذه القوَّة والثقة التي تمتلكها البرناسية، فإنَّها لم تنجُ من الهجوم عليها، وهي التي قد هاجمت العالم كلَّه، فقد تم انتقاد شعارها الذي أطلقه «أوسكار وايلد» حول أنَّ الحياة هي منْ تقلِّد الفن لا العكس، وصاروا يرونه مجرَّد أمانٍ فقط. حيث أصبح النقّاد يلاحظون أنَّ مذهبهم بعيد عن الواقع جدًا يشكل متطرِّف بل والحياة، وحتى كتابتهم قد صارت أكثر غموضًا بحيث لا أحد يستطيع فهمها بينما يهتم مؤلِّفوها بجمال السطح لا إضفاء العمق.

جيل الإيقاع

لقد
بدأ كل شيء عندما قرَّر الشاعر الأمريكي «ألن غينسبرغ» مع الكاتب والشاعر «جاك
كيرواك» و«وليام بوروز» في جامعة كولومبيا بدء رحلتهم في هذه الحياة الأدبية
الجديدة ليتبعهم «نيل كاسيدي» [8]. وبذلك فقد صار المقرّ الرئيسيّ لهذه الحركة في
سان فرانسيسكو مع «لورنس فرلنغيتي». هؤلاء الثوريون الذين يؤدُّون أشعارهم شفهيًا،
ويرون أنفسهم شعراء الكلمة المنطوقة التي يلقونها على وقع موسيقى الجاز.

يهتم جيل الإيقاع أو الجيل المطوَّب (Beat Generation) بالمعاني أكثر من الكلمات، كما أنَّهم يرفضون أن تكون القصيدة غاية نفسها، فهم يرونها وسيلة لإيصال مشاعرهم وأفكارهم الثوريَّة التي هي جوهر القصيدة، وبهذا فهم يفضِّلون البساطة في التعبير والعفوية على الغموض والتصنُّع [9].

يقول
ألن غينسبرغ:

لا يتعيَّن عليك أن تكون على صواب، كلّ ما عليك أن تفعله هو أن تكون صريحًا. [10]

يهتم جيل الإيقاع بثقافات وأديان وفنون الشرق خاصة البوذيَّة، ويمقتون الحروب منادين بوقفها -حرب الفيتنام مثلًا- ويكتبون عن الجنس والعلاقات المثليَّة بكل حريَّة ويدعون لها.

هذا
الشيء الذي جعل البعض ينتقدهم بشراسة من صدمة صراحتهم وانغماسهم في الحياة. يقول
ألن غينسبرغ عندما كان يرتدي بذلة رسمية أربكت الحضور:

يسألني الناس إذا كنت قد أصبحت محترمًا الآن، وأقول لهم لقد كنت دائمًا محترمًا. [11]

لقد اهتم هذا الجيل أيضًا بثقافة المخدرات وحبوب LSD وكل ما له علاقة بذلك، فحتى «جاك كيرواك» توفي بتأثير الكحول، أما كاسيدي فقد توفي بسبب جرعة زائدة من المخدِّرات [12]، ودخل ألن غينسبرغ مستشفى الأمراض العقلية لفترة من الوقت بعد أن استمدَّ العديد من تجاربه الشعرية فيه. [13]

ومن المثير للصدمة مما لاحظناه أنَّ لدى هذا الشاعر قصيدة مُعنونة بـ «الغريب المكفن» The Shrouded Stranger، وفيها يقول:

عندما تكون شوارعُ المدينةِ سوداءَ ميْتة… جسر السكّةِ الحديديةِ يكون فراشي.

لقد تمت كتابة هذه القصيدة على يد غينسبرغ عام 1949، وبعدها بأعوام، وتحديدًا في عام 1960 وُجِد نيل كاسيدي ميتًا وهو ملقى على السكَّة الحديدية. ربّما واحدة من أسوأ الصدف في تاريخ الشعر. وهي تماثل القصة التي تروى عن لوركا حين

تنبأ بمصيره بعد الموت

. [14]

لقد انتقد النقّاد هؤلاء الشعراء، وأبصروهم على أنَّهم صاروا ثوارًا اجتماعيين أكثر من كونهم كُتّابًا، كما نعتوهم بالبوهيمية والجهل وكتابة السخافات، كما قالوا عنهم إنهم مطبِّلون، فكل واحد يثني ويمدح الآخر وهكذا. [15]

لا تُشبِع هذه الحركة قلوب المحافظين أو بعض الذين يجدون إحراجًا في رؤية العالم بنفس رؤية الشعراء المطوَّبين، وتقليد حياتهم المتحرِّرة، غير أنَّ جيل الإيقاع بدفاعه عن المعنى في الشعر، والحرية في المجتمع، وردّ الاحترام إلى أديان الشرق وحضارته والتصدِّي للسياسيين وثقافة الاستهلاك، قد نقشوا اسمًا خالدًا لهم لا يموت رغم محاولات مسحه.

«دوغما 95»

إنَّ شعار هذه الحركة يرتكز على الصدق ونقل الحقيقية للمشاهدين، إنَّه يعامل الجمهور كعقول وليس كائنات تُثار بالحواس والأفعال التي تنام على أرصفة الإثارة والحركات المتهوِّرة. فببساطة هي ضد الخداع والزيف والعدو الأولي للتكنولوجيا الفائقة في السينما.

لدى
هذه الحركة الدنماركية (Dogma 95) التي أسّسها «توماس
فِنتربرغ» مع «لارس فون ترايير» قواعد صارمة أشبه بالألواح العشر التي تشكِّل
السينما، هدفها الأوَّل هو الحقيقة، حيث تُدعى بعهد العفة

The Vow Of Chastity

،
وفيها يقسم المخرج بتنفيذ هذه المبادئ بعيدًا عن انطباعه ورغباته.

إنَّ هذه الوصايا العشر تحرِّم مثلًا الأصوات المضافة للعمل بعد تصويره وحتى الإضاءة المفتعلة، أو استخدام أماكن غير حقيقيَّة في التصوير. يجب كذلك الابتعاد عن المؤثرات والخدع البصريَّة، كما يجب على الكاميرا أن تكون محمولة باليد. على كل شيءٍ أن يكون واقعيًا وحقيقيًا إذن، كما لا تسمح «دوغما 95» بذكر اسم المخرج في بداية الفيلم كما هو المعتاد، أمّا تضمين الفيلم أفعالاً إجرامية فهو محرَّم.

هذه
بعض المقتطفات المتقطِّعة من بيان هذه الحركة (Manifesto Dogma 95) الذي
يستعرض أهم مبادئها:

في عام 1960 كان قد طفح الكيل، لقد وُجِدت السينما ميتة ودُعيت لأجل القيامة، الهدف كان صحيحًا لكن الوسائل لم تكن كذلك. شعارات الفردانية والحريَّة خلقت أعمالًا لفترة من الوقت لكن من دون وجود أي تغيير. السينما المناهضة للبرجوازية صارت هي نفسها برجوازية. بالنسبة إلى دوغما 95 السينما ليست فردية.

اليوم تشتد العاصفة التكنولوجية، نتيجة ما سوف يعرف بدمقرطة السينما. أي شخص بإمكانه صناعة الأفلام، لكن كلما أضحى الوصول إلى الأدوات أسهل كلما أصبحت «الطليعية» [16] مهمة أكثر، ليس من المصادفة إذن أنَّ لها

مضامين عسكريَّة

. الجواب هو الانضباط، يجب علينا أن نلبس أفلامنا ثوبًا رسميًا، لأن الفيلم الفردي سيكون تبعًا لتعريفه منحلًا.

كما نقرأ أيضًا في

نفس البيان

عتابًا على حالة السينما اليوم:

المهمة الأسمى لصنّاع الأفلام الهابطة هي خداع الجمهور: فهل هذا ما نفخر به؟ ما تراه «دوغما 95» هو أنَّ الفيلم ليس وهمًا.

بعد ثلاث سنوات من إعلان البيان

أنتجت «دوغما 95»

فيلم Festen أو

The Celebration

، الذي لاقى نجاحًا واسعًا كما فاز بالعديد من الجوائز، غير أنَّ أعضاءها قد اعترفوا بأَّنهم عجزوا أحيانًا عن الوفاء بكامل عهودهم لتنفيذ شروط قيام أفلام دوغما؛ ذلك لاحتياجهم العديد من المرات إلى تجاوزها والاستعانة بالخداع.

ورغم أنَّ أفلام دوغما 95 قد توقّفت بعد سنوات وعددها جميعًا 35 عملًا، فإنه بإمكاننا القول إنها كانت حركة سينمائيَّة مكافحة للواقع التجميليّ الذي يغرق في الخداع والوهم. كما أنَّها أثَّرت في صناعة الأفلام سواء من قريب أم بعيد. إلا أنه بإمكان الجميع معرفة صعوبة وضع أفلام من دون مؤثرات وخداع بصري، فالفنّ يعتمد على التحريف والزيف ولهذا هو فنّ وليس واقعًا.

لا يمكن الادعاء في النهاية بحفظ تقاليد الفنّ بكلّ يقينيَّة ومطلقيَّة وجعله تابعًا للأخلاق أو العقائدية، في نفس الوقت الذي لا يمكن فيه أيضًا الثورة على هذه التقاليد ومحاولة قطعها من الجذور.

فليس بمقدور الفنون أن تقنع الجميع حسب أسلوب واحد ومبادئ عقلية أو حدسية واحدة، لكنها قادرة على إقناع الجميع عندما يؤمن كلّ واحد منهم بتنوع طرق صناعتها وغاياتها، وليس توحيدها في طائفة فنيَّة واحدة كما يصلِّي البعض لأجله.


المراجع



  1. نبيل راغب، “المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص100.
  2. تزفيتان تودوروف، “الأدب في خطر”، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 1990، ص33.
  3. كارلوني وفيللو، “النقد الأدبي”، منشورات عويدات، الطبعة الثانية 1984، ص150.
  4. فيليب فان تيغيم، “المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا”، ترجمة: فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، الطبعة الثالثة، 1983، ص258.
  5. المرجع السابق، ص 261-262.
  6. المرجع السابق، ص262.
  7. الأدب في خطر، مرجع سابق، ص36.
  8. “الشعر الأمريكي المعاصر”، ترجمة وتقديم أحمد مرسي، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 1999، ص29.
  9. توفيق الصايغ، “50 قصيدة من الشعر الأمريكي”، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية، لندن، 1990، ص344.
  10. الشعر الأمريكي المعاصر، مرجع سابق، ص32.
  11. المرجع السابق، ص34.
  12. المرجع السابق، ص34.
  13. “50 قصيدة من الشعر الأمريكي”، مرجع سابق، ص366.
  14. يقال أن لوركا تنبأ بفقدان جثته بعد تنفيذ حكم الإعدام عليه من خلال هذه القصيدة، Fable and Round of the Three Friends، وتحديدًا هذا الجزء الهام منها: “بدا لي أني قتلت، بحثوا في المقابر والمقاهي والكنائس، فتحوا البراميل والخزانات، نهبوا ثلاثة هياكل عظمية لانتزاع أسنانها الذهبية، لكنهم لم يعثروا علي، لم يعثروا علي، لم يعثروا قط علي”.
  15. “50 قصيدة من الشعر الأمريكي”، مرجع سابق، ص345.
  16. الطليعية: تقوم هذه التسمية التي يخص مضمونها التجديد في الفن والأدب والثقافة على أساس عسكري مشتق من العبارة الفرنسية (Avant Garde) التي تعني الحرس المتقدم أو طلائع الجيش.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.