المشهد الأول

بخطوات بطيئة وهادئة، وعيون تحاول أن ترسم صورة للمكان، دخل الشاب الثلاثيني إلى القاعة المنشودة في فندق ماريوت بـ مانهاتن، واختار مقعدًا ليجلس عليه رفقة صديقيه. انتظر عدة دقائق قبل أن ينظر إلى أحدهما

قائلاً بثقة

: «إنها اللحظة المناسبة». لكن صديقه بدا متوترًا فأجابه هامسًا: «كن صبورًا، لنأخذ وقتنا».

لم تلقَ تلك الكلمات أذنًا صاغية.

خلع معطفه

بهدوء، رغم تردده، ووضعه على يده اليمنى ليُخفي المسدس الذي بحوزته وتوجه بثبات نحو الحاخام الإسرائيلي المتشدد، الذي كان في نهاية خطاب مُلهِم لأنصاره عن ضرورة ترحيل الفلسطينيين من أرضهم لتوطين اليهود، ليُطلق صوبه عدة رصاصات أردته قتيلاً في الحال.

المشهد الثاني

بعد ما يزيد عن عقد من الزمان، يجلس الرجل ذاته في زنزانته رقم 108، في الدور الأول من الوحدة D من سجن فلورنس، شديد الحراسة في ولاية كولورادو وأمامه عدة ورقات بيضاء وقلم رصاص، أخذ الرجل يدوّن كلماته التي اعتبرها مشروعًا خاصًا، مثًل انقلابًا على أفكاره «الجهادية» التي وضعته خلف القضبان مدى الحياة. وفي صدر الصفحة الأولى كتب بعنوان عريض: «دولة إبراهيم الفيدرالية».

أرسل تلك الرسائل إلى عدة مسئولين أمريكيين بالبيت الأبيض ومجلس الشيوخ عن تصوره لإحلال السلام الديني العالمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الشرق الأوسط، الذي سينقسم بدوره لولايات فيدرالية تربطها أساس هش، وهو الانتماء إلى أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

لم يأت الرد سريعًا، ولكن أحد الأيام حمل ردًا مُفاجئًا. كان الرد من «ديك تشيني»، نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وقتها،

مُجيبًا باقتضاب

: «قرأت رسالتك بنفسي»، دون أن يُلحقها بأي توضيح آخر.

المشهد الثالث

يُعلن رئيس جمهوري آخر بالبيت الأبيض، توصله لما وصفه «اتفاق سلام تاريخي» بين الإمارات وإسرائيل برعاية شخصية من جانبه، هو حلّال العُقد والرجل الذي لم يأت أحدٌ في نباهته، تحت اسم «معاهدة إبراهيم» أو «المعاهدة الإبراهيمية». حمل ذلك رمزية واضحة ومقصودة: اتفاق يجمع بين الإمارات «المسلمة» وإسرائيل «اليهودية» والولايات المتحدة «المسيحية».

إن هذه الأشياء التاريخية التي حدثت أضرت بالشعوب أكثر من الاتفاق الذي يحاول أن يقود للتفكير في المستقبل. سمّينا هذا الاتفاق بـ الاتفاق الإبراهيمي، لأن إبراهيم هو أبو الأنبياء وأبو الديانات السماوية الثلاث وهذا فيه رمزية كبيرة، إذ ننظر إلى المصالح المشتركة والأشياء التي يمكن أن نتفق عليها وليس نختلف حولها.

كانت تلك

كلمات «جاريد كوشنر»

، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومهندس الاتفاق،
والتي أعادت تكرار كلمة الإبراهيمية على مسامعنا من جديد.

وهنا لا نتحدث عن نظرية مؤامرة جديدة، وإنما فكرة آخذة في التصاعد مؤخرًا داخل عدة أوساط ومؤسسات ومنابر إعلامية، حاملة شعار التسامح الديني كغطاء سياسي للتطبيع، وجملتها البراقة: الإبراهيمية. وربما تلاقت أفكار صاحب قصتنا مع إدارات الدول المتحالفة أو المطبّعة، سمّها ما شئت.

عودة سريعة للوراء

لعلك تتساءل الآن منْ هذا السجين المتهم بالإرهاب؟ وكيف تلاقت
أفكاره مع الإدارة الأمريكية؟

حسنًا… ربما لا نستطيع الإجابة بدقة على السؤال الثاني، فنحن لا نعرف إن تلاقت أفكارهما بالأساس أم أن كلماته أتت في إطار صعود واضح للدعوة لتكون الإبراهيمية مدخلاً نحو السلام العالمي والوقوف على أرضية مشتركة لحل الخلافات بالشرق الأوسط، أو

ما يراه بعض الباحثين

غطاءً سياسيًا لتحقيق أهداف توسعية بالمنطقة.

ما نعرفه أن رسالته وجدت طريقها إلى ثاني أعلى رأس
بالإدارة الأمريكية الجمهورية آنذاك، والعقل المفكر لبوش الابن.

أما ما يخص السؤال الأول: منْ هو؟ فهو المصري «سيد نصير»، «أول جهادي إسلامي يرتكب جريمة قتل في الولايات المتحدة»،

بتعبير مكتب التحقيقات الفيدرالي

، والمتهم لاحقًا بالاشتراك في التآمر لتفجير مركز التجارة العالمي عام 1993.

حاملاً شهادته المتخصصة بـ النحت في كلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، وهو تخصص لا يحمله الكثير من الجهاديين، هاجر نصير إلى أمريكا عام 1981، ثم حصل على الجنسية الأمريكية بعدها بـ 8 أعوام، تلاها أشهر قليلة قبل أن يُطلق رصاصاته صوب الحاخام «مائير كاهانا» زعيم حركة كاخ الإسرائيلية المتطرفة، في 5 نوفمبر/تشربن الثاني 1990، وينطلق هاربًا إلى الشارع حيث تبادل إطلاق النار مع شرطي بريد، ما أسفر عن إصابته في الرقبة ولاحقًا القبض عليه.

اتُهم نصير بحيازة سلاح غير مُرخص في البدء ليُحكم عليه بالسجن 22 عامًا، وقد حاول نفي ارتكابه للواقعة التي اعترف بها لاحقًا (بعد 11 عامًا)، ثم مضت 3 سنوات قبل أن يُدان بالاشتراك في مؤامرة مركز التجارة بنيويورك والتي تسببت في وفاة 6 أشخاص وإصابة أكثر من 1000، وهي التهمة التي وضعته خلف القضبان مدى الحياة رغم إنكاره أيضًا لعب أي دور فيها، مؤكِدًا أن السبب الوحيد للحكم عليه هو أن اثنين من مرتكبيها زاراه قبلها في السجن.

كان ثلاثة من المتهمين السبعة في هذه القضية على علاقة وثيقة بنصير، فالأول كان

ابن عمه

«إبراهيم الجبروني»، أما الثنائي الآخر الأردني «إبراهيم القيسي» والفلسطيني «محمد سلامة»، فهما رفيقاه في تلك الليلة التي اغتال فيها كاهانا، ناهيك عن كون «عمر عبد الرحمن»، العقل المدبر، بمثابة قائد روحي لـ نصير، والذي حافظ على تردده على دروس الشيخ الكفيف في مسجده بـ نيوجيرسي، واجتمعا معًا في سجن فلورنس شديد الحراسة، دون أن يرى أحدهما الآخر.

وبحسب وثائق FBI، فإن نصير

فكّر في اغتيال

رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «آرييل شارون» حينما كان وزيرًا للإسكان والبناء، وزار الفندق الذي سينزل فيه بنيويورك قبل أن يتراجع عن الفكرة، و

تشير الوثائق

إلى وجود روابط مع تنظيم القاعدة، وأن مكتب التحقيقات الفيدرالي وجد أوراقًا مكتوبة بالعربية في منزل نصير ولكنه فشل في ترجمتها -لعدم وجود مُترجِم لغة عربية لديهم- واحتوت تلك الأوراق على خيوط مفيدة ربما كانت لتساعد FBI على منع تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993.

وفي عام 2002،

أدعى «إلينور هيل»

، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي، في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أن نصير كانت تجمعه علاقات بتنظيم القاعدة في باكستان، وهي علاقات امتدت منذ مساهمته في دعم الجهاديين أثناء حرب الأفغان مع السوفييت، مُضيفًا أن بن لادن ساهم في دفع مبلغ لمحاميي الدفاع عن المصري (20 ألف دولار)، بعدما سافر أحد أقاربه إلى السعودية وطلب دعم الشيخ. وهو ما برّره نصير لاحقًا: «تبرع بالمال مثل أي مسلم آخر».

تحوّل فكري داخل السجن

قبل 4 أشهر من أحداث الحادي عشر من سبتمبر اعترف نصير أن الدافع الرئيس لقتله الحاخام المتطرف كاهانا هو تأثره بمذبحة الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 1990 التي ذهب ضحيتها 27 فلسطينًا على أيدي قوات شرطة الحدود الإسرائيلية، والتي كانت تحمي جماعة أمناء جبل الهيكل المتطرفة في محاولتها تدنيس حرم المسجد.

وفي عام 2003 أجرى نصير

مكالمة هاتفية

مع صحيفة «الشرق الأوسط»، قال فيها إن السلام في المنطقة مصطلح غير مفهوم، وذلك لأن كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ينظران إلى القضية بشكل مختلف ولن يصلا أبدًا إلى تسوية. وأشار إلى كتابته رسالتين بالقلم الرصاص عقب أحداث سبتمبر، أرسلهما إلى جورج بوش ووزير خارجيته آنذاك كولن باول، لأنه لم يكن مسموحًا له عقب وضعه في الحبس الانفرادي سوى استخدام أقلام الرصاص.

ويرى الرجل، الذي نزح من قريته في بورسعيد بسبب العدوان الإسرائيلي، وفقًا لحديثه، أن المفاوضين يدورون داخل دائرة مغلقة لا يمكن أن تقودهم إلى طريق الحل النهائي، مُشيرًا إلى أنه أرسل نسخة من مشروعه إلى السيدة الأولى السابقة هيلاري كلينتون قبل مغادرتها البيت الأبيض. وتطرَّق إلى أن محطة CBS طلبت إجراء مقابلة تلفزيونية معه داخل السجن حول مشروعه الخاص بالسلام، مُشيرًا إلى أنه عرضه في ثلاث رسائل متتالية من سجنه إلى البيت الأبيض، لكن إدارة السجون رفضت السماح له بإجراء المقابلة.

ويبدو أن السجن كان سبيله لإعادة التأمل والقراءة في مواضيع مختلفة مثل علم النفس والحرب العالمية وتاريخ أوروبا، حتى أنه توصّل لنظرية، أو بالأحرى شطحة، تقول إن الأهرامات التي بناها الفراعنة، بُنيت أساسًا بسبب حدوث زلزال في مصر في الزمن القديم. وأن وظيفتها هي تثبيت الأرض المسطحة الخالية من الجبال الطبيعية؛ لامتصاص أكبر كمية من الهزات الأرضية.

لاحقًا ذكر نصير أنه رفع دعوى قضائية ضد الحكومة الأمريكية، ركّز في إجراءاتها على أنه يقدم مشروع دولة إبراهيم الفيدرالية «خدمةً للأمن للأمن القومي الأمريكي»، وأن هذا المشروع هو «الوسيلة الوحيدة لوقف الإرهاب في المنطقة»، كما طالب بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين، الذين أُدينوا في الولايات المتحدة على خلفية الصراع العربي-الإسرائيلي.

ابتعد الرجل، الذي حاول تخفيف شروط حبسه في عدة مناسبات، عن الأنظار لأعوام عديدة قبل أن يظهر من جديد في 2013 بعد

تواصله عبر البريد الإلكتروني

مع صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»، ولكن هذه المرة بدا حديثه مختلفًا، إذ أدان «الجهاد الذي يُمارس اليوم، حيث يُلقي صغار السن بأنفسهم إلى التهلكة ويقتلون الأبرياء، ويجعلون عائلاتهم تعاني لسنوات».

لكن الرجل الستيني ظل متمسكًا بعدم ندمه على قتل الحاخام الإسرائيلي، مؤكدًا أن الأخير دعا علانية للتطهير العرقي والإبادة الجماعية للمسلمين.

ولفت:

هناك اختلاف في العاطفة التي يطمح إليها الشباب الجهادي اليوم، وما كنت أحاول تحقيقه في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. لسوء الحظ، ستستمر هذه الأنواع من الأعمال طالما استمرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في السياسات والأفعال الظالمة المفروضة على العالم الإسلامي. إن كان هناك نصيحة للشباب فهي: استعينوا بالصبر والصلاة.

ووجه حديثه إلى الصحافي: «تواصلت معك على أمل أنه من خلال التحدث علانيةً، يمكنني استخدام
سمعتي السيئة للمساعدة في إنهاء الاضطرابات المستمرة منذ قرون في الشرق الأوسط، حيث
أؤمن بحل الدولتين للعرب واليهود حتى يعيشوا بسلام».

تظهر شخصية الرجل مختلفة للغاية عن السنوات الأولى لحبسه،
حين قالت السجلات إنه يُنظر إليه على أنه «نزيل خطير للغاية، وله تأثير كبير على المساجين
المسلمين في مختلف السجون». وأنه قاد تظاهرات في السجن صرخ فيها هو وزملاؤه وطرقوا
أبواب زنازينهم، بجانب مشاركته بشكل غير مباشر في جريمة قتل بالسجن نفذها مسلمون سُنّة،
إضافة لتهديده نزلاء آخرين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.

وتعليقًا على هجمات 11 سبتمبر، قال نصير: «ربما كان هناك شيء بإمكاني فعله في حياتي السابقة، لمنع حدوث مثل هذا». يأتي هذا رغم اشتباه سلطات السجن في البداية في لعبه دورًا في الهجمات، ليُحتجز في وحدة الحبس الإدارية الخاصة في سجن متوسط ​​الحراسة في ماريون بولاية إيلينوي.

وعلى الرغم من أنه لا يتفق اليوم مع ما أسماه «تكتيكات» الشيخ عمر عبد الرحمن، إلا أنه لا يزال متأثرًا بخطبه منذ أيامهما معًا في المسجد، حيث كان عبد الرحمن «يحث المسلمين على أن يكونوا أقوياء. لقد فهم دعوة المسلمين للوقوف والنضال من أجل حقوقهم. حتى أنه فعل ذلك في مصر رغم أنه يواجه السجن، ولهذا أنا معجب به».

حلم العائلة البعيد

كتب نصير أنه في حالة الإفراج، فإنه يريد أن يتصالح مع ولديه اللذين غيّرا اسميهما وانتقلا 19 مرة على الأقل على مدار عقدين لتجنب سمعة والدهما السيئة. وأضاف عن ابنه «زاك إبراهيم»: «هو ابني بالولادة، لكنه تبرّأ مني ومن طريق حياتي».

وزاك، يُعرف الآن بإلقائه

محاضرات لتعزيز السلام

من خلال الحديث عن ماضي والده. وقال إنه لا يستطيع أن ينسى المرة الأولى التي زار فيها هو ووالدته نصير في السجن، مرورًا بالجدران والأسوار الرمادية الطويلة والحراس المسلحين ليجد والده يرتدي بذلة برتقالية، ويجلس على كرسي بلاستيكي في عمق جزيرة رايكرز.

كنت في السابعة من عمري عندما ذهب والدي إلى السجن. لا يمر يوم لا أتمنى لو أنه اختار حياة هادئة مع أسرته.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.