تقول حكمة أمريكية قديمة: «The one who tells the story, rules the world»، أي أن الشخص الذي يخبر الجميع بالقصة، يحكم العالم. قد تراها مبالغة إلى الآن، لكن القصص تمتلك تأثيرًا أكبر مما نتخيل جميعًا. خلق عوالم موازية، أشخاص، أحداث متلاحقة، يكفي أن تُكتَب بالأسلوب المناسب وتُكرر تفاصيلها على مسامعك لتندمج معها دون أن تشعر.

تصل المبالغة ذروتها عندما تخبرنا دكتورة علم النفس «زو والينجتون» عن ورقة بحثية تفيد بأن عددًا ممن قرأ قصصًا عن مصاصي الدماء، يهيأ لهم بأن أسنانهم أكبر من البقية؛ في

تأثير يعرف بالاستيعاب

أو الامتصاص «assimilation» والذي يشمل قصص الخيال العلمي وليست الواقعية فقط.

ستقول لنفسك إن هذا التأثير قد يطال الأطفال الذين يمتلكون خيالاً واسعًا، لكن علماء الأعصاب بجامعة كامبريدج وجدوا أن قراءة كلمات معينة يحفز الأماكن المسئولة عن الفعل نفسه في الدماغ. يبدو الأمر أكبر مما توقعنا، لذلك فإن القصص تملك القدرة على تغيير آرائنا في السياسة، الفن، وحتى الرياضة.

يمكننا أن نستنتج بكل بساطة أن كرة القدم المصرية هي قصة، من يخبرنا بها هو المتحكم في ردود أفعالنا تجاه بديهيات الحكم على الفوز والخسارة، وكذلك تجاه المنظومة وما فيها من لاعبين ومدربين، والجزء الأخير تحديدًا هو ما سنركز عليه.

دعنا نحاول سويًا في السطور القادمة استكشاف تلك القصة وكيف أثرت علينا جميعًا في الحكم على عناصر اللعبة في مصر.

الفصل الأول: عالم البساطة

بدأت قصة الكرة المصرية من خلال الإعلام الرياضي والإستديوهات التحليلية. قصة خالية من التعقيدات، لدرجة الإفراط في البساطة. ولضمان أن يصبح «زيتنا في دقيقنا»، سيشيدون ممرًا واصلاً بين الإستوديو والملعب. بإمكان المدرب التنقل من خلاله بين مقعد المدرب ومقعد المحلل بلا كلل أو ملل، ودون أن يحكم عليه أحد بالفشل أو النجاح.

ثم ننتقل إلى المرحلة التالية، وهي تثبيت كتالوج واحد لكل المباريات. يشمل الكتالوج عددًا من الكلمات والجمل التي يمكن استخدامها لتقييم أداء كل اللاعبين، والمدربين، وبإمكانك استخدامها أيضًا لتقييم شاب يتقدم للزواج. لتقييم اللاعبين بإمكانك الاستعانة بما يلي: فايق، مكافح، مركز، عنده رغبة، أكثر إصرارًا على الفوز، بيخلص من نص فرصة.

اقرأ أيضًا:

سيف زاهر: أن تحصد كل شيء دون أن تقدم أي شيء

أما بالنسبة للمدربين فالأمور أبسط بكثير لأنها تتلخص في وصف وحيد: المدرب الفائز هو مدرب محترم. ستسأل نفسك: ماذا عن الخاسر؟ لا تقلق، سيصفونه بالمحترم أيضًا، حتى الآن لم يفهم أحد علاقة الاحترام بأفكار المدرب وأداء فريقه.

بين هذا وذاك سترى كمًا هائلاً من التكلف، ليس تكلفًا في محاولة شرح ما يحدث فعليًا على أرض الميدان، ولكنه محاولة من الضيوف والمقدم في تلميع بعضهم البعض في وصلات متقطعة من خفة الدم، التي تنقلك من مدينة الإنتاج الإعلامي إلى المقاهي.

الفصل الثاني: عالم المغالطات

بعد أن تعتاد على سماع تلك الكلمات في الفصل الأول، ستجد نفسك مندمجًا مع عالمهم، وستصبح أكثر تقبلاً لطريقتهم البدائية في التحليل والحكم على أداء المدرب. سينحصر التحضير للمباراة في الجانبين الذهني والبدني، أما الجانب التكتيكي فهو غير ملحوظ من الأساس.

ثم يبدأ الفصل التاني للقصة التي يرددونها كل يوم، فصل المغالطات. أولى تلك المغالطات هي قصر الحديث حول طريقة اللعب، والمقصود بها التوزيع الرقمي للاعبين على الورق. فما زالت 4-4-2 قادرة على الفتك ب3-5-2، أو 4-3-3 قادرة على هزيمة 3-4-3، وحسب كل طريقة يظهر تفوق مدرب على آخر.

إنها مسألة 5 أو 10 أمتار فقط لتفرق بين الـ 4-4-2 و4-3-2-1. أنت فقط تشاهد الفريقين بهذا التوزيع الرقمي عند ضربة البداية، وحوالي 8 مرات تقريبًا أثناء المباراة.






مدرب ريد بول لايبزج جوليان ناجلسمان في حوار سابق


ليست هذه التفاصيل التي تحدد فلسفة المدرب، وأفكاره هجوميًا ودفاعيًا، لكنك سريعًا ستحدث نفسك قائلاً: أي أفكار يتحدث عنها هذا المجنون في الدوري المصري؟ معك كل الحق، لكننا سنؤجل الإجابة مؤقتًا وسنكمل بقية المغالطات.


أما المغالطة الثانية ستجدها دائمًا في تحليل شخصية المدرب. هل تتذكر مشادة أجويرو وجوارديولا في مباراة توتنهام؟ أجويرو عاد أساسيًا مع الفريق وكأن شيئًا لم يكن. كيف ترى شخصية المدرب وفقًا للكتالوج المصري؟ مدرب ضعيف. ماذا لو كان جوارديولا وجه للاعبه السباب؟ شخصية قوية ومحترمة وما حدث كان مجرد «نرفزة» ملعب.

شخصية المدرب هي أحد أهم العوامل في الكرة المصرية، بل ويمكن قياسها أيضًا بكل سهولة. إذا رأيت اللاعبين يطبقون أفكار مدربهم على أرض الملعب والمدرب مكتفٍ بالجلوس دون حراك أو تلويح أو قفز فهو مدرب ذو شخصية ضعيفة؛ أما إذا رمق لاعبيه بنظرات حادة، وأتبعها بمثلها لحكم المباراة، أو انهال عليه بالسباب الذي قد يُسمع من خلال ميكروفونات الخط الجانبي – فهو مدرب قوي.

ظاهرة الامتصاص «assimilation»

وفقًا لما سبق من مقدمات، كان منطقيًا أن ندخل جميعًا في حالة الامتصاص. نحن سمعنا القصة التي أرادوها، وتكررت على مسامعنا مرات عديدة. فلنبدأ الآن بالتفكير حسب قواعد العالم الموازي الذي صنعوه لنا، تقييم عمل المدرب من خلال الفوز فقط، بغض النظر عن بقية التفاصيل، ويجب أن يكون الحكم سريعًا قدر الإمكان.

لنبدأ من حيث انتهينا، مباراة السوبر المصري والتي انتهت بفوز الأهلي بثلاثة أهداف مقابل هدفين. تباينت الآراء حول مدرب الأهلي الجديد «رينيه فايلر» ما بين شوطي المباراة. في الشوط الأول كان جيدًا، ثم تغيرت الأمور في الشوط الثاني، وكأن تلك المدة القصيرة كافية ليترك المدرب بصماته على الأداء، لكن هذه هي أحكام الكتالوج.

أما مدرب الزمالك «ميلوتان سريديوفيتش» الشهير بـ«ميتشو» فكان أذكى من نظيره السويسري لأنه كان مطلعًا على الكتالوج، فقد أخبر الجماهير أن

تدريب الزمالك كان حلمًا بالنسبة له

، وأشاد بعقلية الفوز التي يمتلكها رئيس النادي وبقية أعضاء مجلس الإدارة! وبالطبع لم ينسَ إخبارهم بأن الغريم الأحمر حاول إغراءه، لكنه رفض.

مجرد حشو لا طائل منه، لكنه سيكسبه أرضية قبل أن يبدأ العمل، وبمجرد الفوز بمباراتين سيبدأ الجميع بالإشادة. أضف إلى ذلك ما قاله المعلق حاتم بطيشة قبل بدء السوبر عن تسمية ميتشو لنفسه بذئب صربيا، في مشهد شبيه بمراكز الدروس الخصوصية وألقاب وحش الكيمياء وملك الأحياء. المهم أننا نفضل شراء هذه البضاعة، وميتشو مستعد لبيعنا إياها إلى أن يترك بصمته في الملعب.

أين المفر؟

بالطبع لست بحاجة لإخبارك بأن المدربين المصريين يخضعون لهذه القواعد أيضًا، وصار الجميع يوزع أحكامه عليهم بسرعة وحزم لإثبات وجهة نظر ما أو لأنه خاضع لتأثير تلك القصة التي يسمعها منذ سنوات طويلة. أحد المحللين الذي انضم فيما بعد لقناة الأهلي طالب من قبل بضرورة أن يتم الحكم على إيهاب جلال «مدرب المقاصة وقتها» بنفس معايير الحكم على مدرب الأهلي حسام البدري.

لأن حجة غياب الإمكانيات لا وجود لها من وجهة نظره بدليل أن الأهلي اشترى أكثر من لاعب من فريق المقاصة مثل: أحمد الشيخ، هشام محمد، جون أنطوي، ميدو جابر؛ وبالتالي هم لاعبون كبار، والفريق مؤهل بالتبعية لمنافسة الأهلي والزمالك! كما ترى، القصة التي يرويها القائمون على الكرة المصرية منذ سنوات أبعدتنا عن رؤية الصورة كاملة.

توقف وفكر قليلًا، ستدرك ببساطة أن طموح النادي يتحدد وفقًا لاسمه وميزانيته، وعليه يحدد المدرب أهدافه. فليس من المنطقي أن يكون المطلوب هو تحقيق الأهداف بأي شكل! هذا هو المنطق، لكن قصة الكرة المصرية التي نسمعها منذ طفولتنا هي التي أثرت على أحكامنا بهذا الشكل.

على المدرب إدارة الموارد البشرية المتاحة بالطريقة الأمثل، وأن تلمس الإدارة ثم الجماهير تطورًا في مستوى لاعبيهم؛ أما تقديم كرة رديئة والتواري خلف تحقيق الفوز على أندية لا تمتلك ربع الإمكانيات، فهو نجاح ناقص.

لذلك علينا أن نخرج عن المألوف ونحاول النظر إلى المدربين بأسلوب أكثر تطلبًا وتجردًا داخل أرضية الملعب فقط. حتى لو كان هناك مبالغة في التطور المطلوب في أفكاره على أرض الملعب، فإنها تظل مبالغة محمودة قد تجبر معشر المدربين على الخروج من كهف البدائيات، وتقديم ما يستحق المشاهدة. وهذا لا يتعارض بالطبع مع الإمكانيات المتاحة لكل مدرب، فالتطور لا يحتاج لإمكانيات ضخمة، البطولات هي من تحتاج ذلك.

هل تتذكر ذلك السؤال الذي لم نجب عليه، المتعلق بتواجد الأفكار والتكتيك في الدوري المصري من عدمها؟ لنفترض أنها موجودة بنسبة 1%، فهل سينصفها أحد من هؤلاء المتواجدين في الإستديوهات، أم أنها ستضيع وسط وهم الشخصية القوية؟ الحكم لك.