هل الاقتصاد علم؟

بهذا السؤال يفتتح الاقتصادي
اليوناني «يانيس فاروفاكيس» كتابه بعنوان «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي»، والذي يحاول
من خلاله تحطيم الجدران السميكة التي أقامها الاقتصاديون وخبراء المال طوال
القرنين الفائتين عبر إدخال الشعوب في متاهات من الإحصائيات والمعادلات والرسوم
البيانية، أو كما يقول في كتابه:

إن لم يكن بوسعنا شرح الاقتصاد بلغة يستطيع الشبان فهما، فنحن -ببساطة شديدة- جاهلون.

يناقش الكتاب الركائز الأساسية
لاقتصادنا المعاصر عبر مزيج بديع من السرد القصصي والأساطير الشعبية وأفلام الخيال
العلمي، بشكل يضفي معنى على تطور الأدوات المالية المعقدة واكتسابها تلك الأهمية
في اقتصادنا المعاصر.

ففي الفصل الأول، نجده يشرح الآلية التي تكتسب منها السلعة قيمتها عبر مقارنتها بأسطورة قديمة بطلها المحارب «آخيل» والملك «أجاممنون»، وفي الفصل الثاني، نجده يشرح مفهوم الائتمان والدَين البنكي ويذكر في ذلك السياق مسرحية «كريستوفر مارلو» عندما عرض الشيطان «مفيستوفيليس» علي الدكتور «فاوست» 24 عاماً من المتعة اللامحدودة في مقابل أن يتعهد «فاوست» بتسليم روحه بعد انقضاء المدة. أما في الفصل السادس، فيناقش استبدال الآلات للبشر في مجالات العمل عبر الإشارة لقصة الطبيب «فيكتور فرانكشتين» للروائية «ماري شيلي» وفيلم «المصفوفة» The Matrix.

«يانيس فاروفاكيس» هو اقتصادي يوناني،
شغل منصب وزير مالية اليونان، وكُلِف بإدارة أزمة الديون الحكومية اليونانية، ويقول
عنه الفيلسوف الاشتراكي المعاصر «سلافوي جيجك»:

إنه واحد من أبطالي القلائل، وما دام الناس يحبون فاروفاكيس، سيبقى هناك أمل.

لماذا كل هذا القدر من اللا مساواة بين الشعوب؟

يستهل الكاتب الفصل الأول بسؤال:
لماذا لم يغزْ سكان أستراليا الأصليون بريطانيا؟

قد تبدو الإجابة بديهية أن اقتصاد سكان أستراليا الأصليون لم يمكِّنهم من الإنفاق على جيش قوي قادر على غزو دول أخرى بدلاً من أن يحدث العكس.

يقول الكاتب إن اقتصاديات الدول المتقدمة -خلافاً لنظيراتها من الدول المتأخرة- مرت بوثبة هائلة عندما تمكنت لأول مرة من تحقيق فائض في الإنتاج بدلاً من الاكتفاء باستهلاك ما تقدمه الطبيعة. كذلك أتاح اكتشاف الكتابة تدوين السجلات الحسابية و إصدار الشكل الأول من العملات (والتي كانت عبارة عن أصداف نُقش عليها مقدار أرطال القمح التي يدين بها صاحب الحقل -على سبيل المثال- للعاملين لديه). واستناداً للمكتشفات الأثرية، نعلم أن هؤلاء العمال كانوا معتادين على مقايضة تلك الأصداف بسلع أخرى، بل والاقتراض بضمانها، وهنا تحققت الوثبة الثانية لاقتصاديات الدول المتقدمة، بإعادة تدوير تلك الأصداف لتخلق قيمة سوقية.

أسفر نشوء الاقتصاد الجديد على ظهور
الجيوش المنظمة وطبقة من البيروقراطيين تقوم بإدارة شئون الدولة، وقد قام رجال
الدين ببث الإيمان في نفوس الشعب حول الاقتصاد الناشئ والنظام الحاكم، مما أدى في
نهاية المطاف إلى ظهور إمبراطورية إنجليزية قادرة على غزو أستراليا.

نوعان من القيمة

يميل الاقتصاديون إلي اختصار كل أنواع القيمة في القيمة الشرائية، بمعنى أن كل السلع والخدمات التي لا تُولِّد قيمة مالية هي –بالنسبة للاقتصاديين- ليست بذات قيمة. هنا يتدخل الكاتب ويحاول هدم هذه الفرضية عبر ذكره لسلع وخدمات لا يحصل مؤديها على مقابل مادي ولكنه يؤديها عن طيب خاطر، مثل التبرع بالدم، حيث لاحظ أن المتبرعين يرفضون التبرع بدمهم في حالة عرض مقابل مادي. كذلك الحال في الأعمال المنزلية التي تقوم بها ربات البيوت، فهي لا تولِّد قيمة اقتصادية وفقاً للاقتصاديين ولكنها لا غنى عنها لكل أسرة.

يستدل الكاتب على بطلان تلك
الافتراضية عبر استعارته لموقف من أسطورة «هومريوس» عندما امتنع الملك «أجاممنون»
عن عرض مقابل مادي لمصالحة محاربه الذي لا يقهر «آخيل» واستمالته مرة أخرى
للمحاربة في صفه، لأنه كان يعرف أنه لا يستطيع شراء خدماته عبر أي مقدار من المال.

السحر الأسود للأعمال المصرفية

على غرار أي نظام بيئي، لا يستطيع أي اقتصاد الحفاظ على وجوده –كما أسلفنا- إلا عن طريق إعادة التدوير. فلكي تتحقق القيمة التي يضيفها الاقتصاد لا بد أن ينفق العمال أجورهم في المتاجر وينفق رجال الأعمال أموالهم في استثمارات جديدة. وإذا لم يحدث ذلك يُصاب الاقتصاد بالشلل وتمتلئ الشوارع بالغضبى الجائعين أو كما يقول الكاتب الأمريكي «جون شتاينبك» في روايته «عناقيد الغضب»:

الرجال الذين خلقوا فاكهة جديدة لا يمكنهم أن يخلقوا نظاماً يمكن فيه أكل فاكهتهم.

لكن هل يستطيع اقتصاد ما فجأة أن يفقد
قدرته على التدوير؟

الإجابة نعم. يحدث ذلك عندما يُفرِط المصرفيون في منح ديون مشكوك في تحصيلها، وهو ما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما توسعت المصارف في إقراض عملائها بضمان عقاراتهم دون الحصول على ضمانات أخرى أو استعلامات بنكية. فكانت النتيجة أن المصارف حاولت الحجز على هذه العقارات لتكتشف انهيار أسعارها، وهكذا تساقط المصرف واحداً تلو الآخر بعد ما تفشى الذعر وسط أوساط المودعين الذين طالبوا بأموالهم في وقت واحد.

منكرو البطالة

يميل الاقتصاديون إلى تحميل العاطلين نتيجة عدم تمكنهم من إيجاد عمل، ولكنهم يغفلون مدى قدرة الاقتصاد على خلق وظائف «جديدة»، تستطيع أن تتواكب مع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، وهذا ما يشير إليه الكاتب عندما شكا له صاحبه من عدم تمكنه من بيع منزله الصيفي الرائع، فقال له: «أنا سأشتريه منك مقابل عشرة يورو!». وهذا ما يلخص المسألة، فالمشكلة ليست في عدم توليد الاقتصاد لفرص العمل، إنما في قدرته على توليد فرص عمل «جيدة»، وهذا ما أصبح شبه مستحيل بعد ما دخل العمال في منافسة مع الآلات.

كثيراً ما يزعم الاقتصاديون ورجال الأعمال أنه إذا ما قبل العمال تخفيض أجورهم، فإن هذا سيساعد الاقتصاد لأنه في النهاية سيُمكِّن رجال الأعمال من تعيين عمال أكثر. يفند الكاتب هذه المزاعم عبر أسطورة قديمة شهيرة لملك اسمه «أوديب» أخبرته عرافة أنه سيقوم بقتل والده ويتزوج أمه، ففزع «أوديب» وقام بترك البلد، وفي الطريق يقوم فعلاً بقتل والده في حادث سير دون أن يتعرف عليه.

يقول الكاتب إن نبوءة تلك العرافة كانت ذاتية التحقيق، وكذلك عندما يطلب رجال الأعمال من عُمالهم تخفيض أجورهم، لن يجد رجال الأعمال في نهاية المطاف أحداً لشراء منتجاتهم، ويتحقق بالفعل المصير الذي كانوا يخشون منه.

المصفوفة

يجادل الكاتب أن اقتصادنا الحديث أصبح
كالمصفوفة في فيلم The Matrix،
حيث قامت الآلات/الاقتصاد التي اخترعها الإنسان باستعباده وتحويله إلى مصدر رخيص
للطاقة. بهذه الطريقة خرج الاقتصاد عن طوع سيده وأصبح له شخصية مستقلة تفعل ما
يحلو لها.

المشكلة الرئيسية -التي أشرنا إليها آنفاً- هي أن الآلات تُخفِّض التكاليف على رجال الأعمال، لكنها لا تقوم بعملية تدويرية في الاقتصاد، فهي لا تنفق على المأكولات ولا تستأجر شُققاً سكنية. وتكون النتيجة أن يُصيِب الركود الاقتصاد آجلاً أم عاجلاً، ونصبح كـ«سيزيف» البطل الإغريقي الذي حكم عليه الإله «زيوس» بدفع صخرة إلي أعلي التل ويكون عقابه أن يشاهدها تتدحرج إلى السفح قبل أن تبلغ القمة، مراراً وتكراراً، إلى الأبد.

الحل العملي الوحيد: ديموقراطية أصيلة

يجادل الكاتب
أننا لا نستطيع إخراج السياسة -مهما حاولنا- من الكيفية التي تُدار بها أموال
الشعوب، والحل العملي الوحيد هو إضفاء طابع ديموقراطي (حقيقي وفعال) على عملية
اتخاذ القرارات الاقتصادية، فكما يقول الكاتب «الاقتصاد أهم من أن يُترك
للاقتصاديين». لكن في نفس الوقت يعترف الكاتب بأن الديمقراطية ليست خالية من
العيوب، فهي وفقاً للسياسي البريطاني «وينسون تشرشل» قد تكون نمطاً معيباً في
الحكم، غير معصومة وغير فعّالة وفاسدة، لكنها أنسب من أي بديل آخر.

حتى لا نصبح عبيداً لآلاتنا، يجب أن يصبح جميع البشر شركاء في ملكية الروبوتات. كما رأى «كارل ماركس» منذ أكثر من 150 عاماً، قائلاً:

إننا أمام مفرقي طرق، إما أن تنافسنا الآلات في أجورنا ونصبح ضحايا لها، وإما أن نصبح المالكين المشتركين للآلات ونعهد إليها بكل الأعمال الشاقة والمملة، ونتفرغ نحن للمناقشات الفلسفية وتحقيق سعادتنا المفقودة.

إننا نواجه -كفصيلة بشرية- العديد من المخاطر التي تُهدِد بقائنا نفسه، مثل الاحتباس الحراري الذي سيتسبب في ازدياد منسوب المياه كنتيجة لذوبان الغطاء الجليدي القطبي، وما يتبعه ذلك من غرق العديد من المدن ذات الكثافات المليونية. فكر في الأمر، دون ديمقراطية وملكية عامة لوسائل الإنتاج، ستحتفظ القلة الممتلكة للمال والسياسة بسلطتها في نفث دخان مصانعها وإطلاق العنان لانبعاثاتها الحرارية، التي ستؤذي في النهاية الكوكب بأكمله.

والآن… هل الاقتصاد علم؟

في الخاتمة، يستكمل الكاتب الإجابة على نفس السؤال الذي استهل به كتابه والذي حاول به الاقتصاديون وخبراء الأموال احتكار ملكية التحدث في الشئون الاقتصادية، بافتراض أن الآخرين لا يملكون ناصية هذا «العلم». يقول الكاتب إن الاقتصاديين بالطبع يستفيدون من النماذج الرياضية وجيش من الأدوات والبيانات والإحصائيات، ولكن هذا لا يجعل منهم علماء. الاقتصاد يختلف عن الفيزياء والكيمياء الذين يعتمد علماؤها على المشاهدة والتجربة، فالاقتصاد لا يمكن إخضاعه لاختبارات محايدة، لأنه سيكون صعباً، بل مستحيلاً، أن نجد مختبراً يمكن التحكم فيه بالظروف الاقتصادية وتجاوب الشعوب معها، وكذلك تكرارها بما يكفي لاستخلاص تجربة علمية صالحة للتطبيق.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.