شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 56 أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة؟ من منا لم يطرأ على ذهنه ذلك السؤال الذي حيّر الإنسانية على مر التاريخ، لننتقل منه إلى سؤال آخر لا يقل حيرة، وهو أيهما يسبق الآخر في التأثير السينما أم المجتمع؟ وهل السينما هي من تشكل الذوق العام أم ما هي إلا انعكاس له؟ وهكذا ظل السؤال يشغل الأذهان دون إجابة نموذجية ليطوف الباحثون سواء في الفن أو الاجتماع في دائرة الشك غير متيقنين إلا من شيء واحد وهو انحدار السينما والذوق العام معا! لم يكن الوضع مستقرا في السينما المصرية حتى يظهر لنا مصطلح السينما النظيفة في بداية الألفية الجديدة ليزداد أمر الصناعة صخبا، وقد ظهر المصطلح بقوة متزامنا مع علو موجة الأفلام الكوميدية وانسحاب سينما المقاولات أو القبلات لتشهد قاعات السينما عودة الأسرة المصرية من جديد. وبالتالي تشكّل انطباعا عاما عن هذا المصطلح ظل مرتبطا بالأسرة والأخلاق ارتباطا أشبه بالوثيق، ربما خرج عن هذا السرب محمود الغيطاني بوجهة نظر مختلفة فى كتابه عن السينما النظيفة، وهي أن المصطلح ظهر من الأساس في الخمسينيات غير مرتبط بمعناه الأخلاقي بقدر ما ارتبط بمعناه الإبداعي، أي أن الفيلم النظيف هو الفيلم المنتج جيدا. وسواء اتفقنا مع الكاتب أم لم نتفق معه فالسينما المصرية بوضعها الراهن لا تمت بصلة للسينما النظيفة من حيث الأخلاق أو الإبداع. السينما النظيفة .. رغم أنه مصطلح قد يعكس انطباعا محافظا عند سماعه فإنه دائما ما يثير الجدل بين استحسانه ورفضه بالقطعية. العجيب أن رفضه جاء من مدرستين مختلفتين فكريا تماما، المدرسة الأولى لم تحارب فكرة السينما النظيفة بقدر ما حاربت فكرة السينما من الأساس، بل حرمتها، والأصل في الدين ليس التحريم، فالسينما حالها كحال غيرها من المشتبهات حلالها حلال وحرامها حرام، وبالتالي ليس من المنطق تحريم أداة بأهمية وقوة تأثير السينما؛ حتى لا يتكرر ما فعل من قبل مع التصوير بالكاميرات قديما، ولو استمرت فتوى التحريم لفاتنا الكثير من الدروس الدينية. أما المدرسة الثانية فلم يحارب روادها السينما ولكن حاربوا فكرة النظيفة، وذلك دفاعا منهم عن حرية التعبير، ولأن الكوميديا وقودها التناقض كان من المضحك أن تجد الذين ينادون بحرية الفن هم أول من حاربوا فكرة السينما النظيفة وبضراوة لمجرد الاختلاف الفكري. بقي الحال كما هو، كل من المدرستين يغني على ليلاه، بينما ظل جمهور السينما النظيفة في حيرته بين حب السينما ومراعاة الدين والأصول، تخفق قلوبهم عند انطفاء أنوار قاعة السينما، كما يحلمون بفيلم راقٍ ليشاهدوه مع عائلاتهم في السينما أو في البيت وطبق الفشار في أيديهم بدلا من التشبث بريموت الكنترول خشية أن يقتحم عليهم مشهد خادش أو لفظ خارج فى أي لحظة. جمهور اعتاد قياس أموره بميزان العقل والقلب؛ ممنيا نفسه أن تتزن كفتيهما معا، وبالتالي فإذا أخذ بأقوى سبب لتحريم السينما كظهور النساء بشكل غير لائق لم يمنعه ذلك من مشاهدة فيلم بروعة «12 Angry Men» وهو فيلم أبيض وأسود عرض عام 1957 ورشح للأوسكار آنذاك، تدور أحداثه في غرفة واحدة وهي غرفة المحلفين بقاعة المحكمة. وقد استطاع بقيمة الفكرة وقوة الحبكة والحوار بين أبطاله -وهم اثنا عشر رجلا فقط دون عنصر نسائي واحد- أن يصبح رمزا للسينما ومتربعا على قائمة «IMDB» لأفضل الأفلام في تاريخ السينما حتى وقتنا الحالي. وإن كان يأخذ بفتوى تحريم الموسيقى فلن يعيقه ذلك من مشاهدة السينما، كذلك عدم استخدام الموسيقى التصويرية لم يكن عائقا أمام الأخوان جويل وإيثان كوين مخرجي فيلم «No Country for Old Men» بل كان إضافة إلى غموض ورعب شخصية الفيلم المعقدة «أنطون شيغور» ليفوز الفيلم بأربع جوائز أوسكار. وكذلك فعلها هذا العام المخرج العبقري المتجدد دائما مارتن سكورسيزي بالاستغناء عن الموسيقى التصويرية في فيلمه الأخير «Silence»K والسبب بديهي وواضح من عنوان الفيلم. ومن جهة أخرى يطرح المدافعون عن حرية السينما سؤالا مهما كيف تستطيع عرض مشكلة شائكة كظاهرة التحرش أو الاغتصاب دون مشهد عارٍ؟ فلابد أن تظهر الممثلة ممزقة الثياب وفي وضع المجني عليها. السؤال قد يبدو صعبا ولكن الإجابة كانت شديدة السهولة على يد المخرج الإيراني أصغر فرهادي في فيلمه الأخير «The Salesman»، وهو يحكي عن زوجة يتم التهجم عليها فى حمام بيتها، المدهش أنه عرض فكرته بعمق شديد دون مشهد واحد يخدش الحياء، بينما بطلة الفيلم -الضحية- تغطي رأسها طوال الفيلم، أدهى من ذلك أن جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية كانت من نصيب الفيلم هذا العام! مشهد من فيلم (The Salesman) قد تبدو فكرة السينما النظيفة فكرة حالمة أفلاطونية بينما هي في حقيقة الأمر الأكثر واقعية في سياق ما سبق، ومن المؤلم أن تشجعها هوليوود -من أقوى صناع الإباحية- بينما نحاربها نحن وهي بنت بيئتنا وثقافتنا. السينما النظيفة هي الورقة الرابحة، الأطول عمرا والأكثر تأثيرا، وتبقي النهاية السعيدة لكل هذا أن ينشأ من رحم هذا المجتمع صناع للسينما ذوي مواهب حقيقية، تلمع أعينهم وهم يتحدثون عن أفكارهم، متواضعون، واثقون من قدراتهم على اختراق كل حواجز تخوفاتهم، بل جعلها إطارا لإبداعاتهم، يؤمنون برسالتهم وحقها في العرض بصورة قوية غير ساذجة، يعرّون الحقيقة لا ممثليهم، يبدعون بأقل الإمكانيات. فشارلي شابلن أضحك العالم دون صوت، وحين تحدث في فيلمه «الديكتاتور العظيم» أبكاهم، هم يستطيعون بكل بساطة أن يرعبوا الناس بكاميرا هاتف محمول، فنهم رسالة إنسانية تجبر الجميع على احترامهم بما فيهم خصومهم كما حدث مع أصغر فرهادي عام 2012 ليفوز فيلمه الإيراني «انفصال نادر عن سيمين» -الذي أبكي المصورين وطاقم العمل من قبل المشاهدين- بجائزة الأوسكار متفوقا على نظرائه الكندي والإسرائيلي. يدركون جيدا أن سينما القصة أنجح وأبقى بكثير من سينما المناظر؛ فجمهور الفيلم الكارتوني «البحث عن نيمو» من الكبار قبل الصغار، صناع يستطيعون تحقيق معادلة المضمون والرسالة مع النجاح الجماهيري كما فعل كريستوفر نولان في سلسلة باتمان الشهيرة، ليعرض قصة بطل أسطوري بإسقاطات واقعية وسياسية، ليحقق نجاحا نقديا وجماهيريا في آن واحد. الجوكر وباتمان فى فيلم (The Dark Knight) لنكن واقعيين، المواطن المصري لن ينعزل عن السينما، وقد صبغت حياته الدراسية بإفيهات مدرسة المشاغبين، ليعيش من بعدها معاناة عبود على الحدود في مرحلة التجنيد، وعندما يوظف في القطاع العام أو الخاص فسيدرك الحقيقة المرة التي أدركها من قبله المحامي «مصطفى خلف» أو أحمد زكي في فيلم ضد الحكومة، وهي أن: كلنا فاسدون! ولكن يبقى لنا الحلم الذي إذا لم نعشه على أرض الواقع فلنره على شاشة السينما؛ لعل أبناءنا يعيشونه بعد ذلك. من البديهي أن يحرص الناس على حياة أستاذ أحمد لمنعه من الدواء، وبه سم قاتل، لا أن يموت كل من في الشارع من الكومبارس لكي يحيا البطل والبطلة ويتمكنا من قبلة مشهد النهاية، بينما السينما المصرية في أشد الحاجة إلى قبلة الحياة. من يحترم عقله فلن يرضى أن يصبح ضحية منتجين لا يحبون السينما بقدر حبهم لشباك التذاكر، أو أن يدفع ثمن استعجالهم للحاق بموسم الأعياد، وسينصرف عن الأفلام الكربون المأخوذة بالحرف دون حرفية من أفلام أجنبية ليتم تنفيذها في صورة نسخة رديئة ضعيفة الإمكانيات الفنية قبل المادية. وسينصرف عن أفلام المقاولات والمهرجانات ليجد سلوته في السينما الأجنبية بكل جنسياتها -لا الأمريكية فقط- حتى يفيق أصحاب الصناعة من غفلتهم، فلا شيء يمنعهم من صناعة عمل فني يحترم مشاهديه، نظيف فنيا وأدبيا سوى شيء واحد.. حجة البليد! مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً رواية «شجرة البؤس»: هذه الشخصيات حقيقية جدًا شرطة مكافحة النقاب، وأحزان هاني شاكر مستقبل مسلمي الروهينجا في ميانمار ما لم تنشره الجزيرة في وثائقيها شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram رامي الشيخ Follow Author المقالة السابقة الفقيه «العثماني» وقاعدة ارتكاب أخف الضررين المقالة التالية الأمر السار يا عزيزي أنه قد تحطم كل شيء قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك زفرة المستوحش! 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك بعث «فرويد» من سُباته: عن حلم «فرويد» القديم 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ضجيج «مقهى» بين الكلمات والنسيان 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الإشفاق على أوقاف «الأسطى محمد الحلاق» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رب فيلم خير من ألف كلمة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك جدلية النص والواقع عند نصر حامد أبو زيد 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تحمين طفلك من التحرشات الجنسية؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الطريق إلى الرِي 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك للمميزين والاستثنائيين: تبًا لكم! 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك حول المذابح الأرمينية: اعترافات «آرنولد توينبي» 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.