يبهرني كثيرًا كتَّاب الروايات حين يكتبون روايات نفسيَّة، روايات يكون أبطالها أناسًا يعانون من صراعات وحروب داخلية طاحنة، تلك المشاكل النفسيَّة تظل طول الرحلة عثرة أمامهم، عائقًا ليس من السهل إزاحته ولا حتى التعايش معه، وفي

رواية «لأنني أحبُّك»

نرى ذلك واضحًا، فلا نكاد نرى شخصية من شخصيات الرواية إلا ونرى معها عقدها ومشاكلها النفسيَّة الدفينة، ولم يخلُ من الأمراض النفسية حتى الطبيبين النفسيين اللذين تدور معظم أحداث الرواية حولهما، فهما أيضًا بالرغم من نجاحهما في عملهما وقدرتهما على مساعدة الكثيرين من المرضى، فإنهما يواجهان صعوبة في حل مشاكلهما العميقة.

ليس الجانب النفسي هو الجانب الوحيد المُبهر في هذه الرواية، وإنَّما الجانب الإنساني كان حضوره قويًّا للغاية، حضور يزرع في قلب القارئ بذرة حب الخير ومساعدة الآخرين وعدم استحقارهم مهما كانت فيهم من عيوب ونواقص.

قد يظن القارئ من العنوان أنَّ الرواية رومانسية لكنَّها ليست كذلك.

عن الكاتب

«غيوم ميسو» هو كاتب فرنسي ولد عام 1974، درس الأدب الاجتماعي، عمِل في التدريس، أحبَّ الأدب منذ أن كان صغيرًا؛ حيث كان في صغره يقضي وقت فراغه في قراءة الكتب في المكتبة العامة التي كانت والدته تعمل فيها، اكتشف حبه للكتابة بعد مسابقة للقصة القصيرة أقامها مُدرِّسه، ولم يتوقَّف من بعدها عن الكتابة.

نشر أوَّل رواية له عام 2001 وتحمل عنوان Skidamarink، ولا أعتقد أنَّه قد تمَّ ترجمتها إلى العربية، أمَّا روايته الثانية فقد حظيت بانتشار واسع وهي تحمل عنوان: «وبعد» Et après، وقد تمَّ ترجمتها إلى أربعين لغة.

الحبكة

في ظل ظروف غامضة تختفي «ليلى» – وهي فتاة تبلغ من العمر خمسَ سنوات – عن والديها، لم يتمكنا العثور على أيِّ دليل على اختفائها ولا أي أثر لجثة لها، ونتيجة لاختفائها يترك والدها «مارك» عمله في المستشفى كطبيب نفسي ويهيم في الشوارع باحثًا عنها فيعيش حياة التشرُّد وإدمان الكحول لسنتين متتاليتين مُعلنًا فشله في مساعدة نفسه بعد نجاحه في معالجة الكثير من النَّاس.

وفجأة بعد هاتين السنتين يتم العثور على ليلى في نفس المكان الذي اختفت فيه، سليمة سعيدة لا تعاني من أية مشاكل، كما أنَّها لم تتحدث عمَّا حدث لها، بل اكتفت ببعض المعلومات القليلة، الغامضة والصادمة في نفس الوقت، هُنا يسعى الأب لفهم حقيقة اختفاءئها، أين كانت؟ ومع منْ؟

الشخصيات

لم تتوقف أحداث الرواية وما فيها من تشويق على قصَّة «ليلى» فقط، بل تضمنت الرواية شخصيات عديدة فريدة من نوعها:

«كونور»

طبيب نفسي صديق قديم لوالد الفتاة، يعاني هو نفسه – بالرغم من نجاحه الباهر – من نقطة سوداء بداخل أعماق قلبه، وماضٍ صادم. صداقة كونور بوالد ليلى ليست صداقة عادية، بل صداقة عميقة تحمل في طيَّاتها مواقف من تلك التي غيَّرت حياة الصديقين تغييرًا جذريًّا وجعلت صلتهما عميقة، لذلك فكونور يبذل جهدًا غير بسيط لمساعدة صديقه لتغيير حياته للأفضل وترك حياة الشوارع والعودة للعمل معه في العيادة التي يملكانها.

«إيفي»

فتاة مراهقة تحاول سرقة شنطة كونور، وتفشل في ذلك، وبدلًا من أخذها إلى الشرطة أو على الأقل كرهها وزجرها، نرى كونور يشفق عليها ويسعى لمساعدتها ونصحها للتغيير نحو الأفضل، فقد استطاع فهمها بشكل عميق جدًّا.

تكشف لنا الرواية بعد ذلك ماضي إيفي الأليم، الذي صنع لها هدفًا غير أخلاقي تسعى لتحقيقه، فتجوب الشوارع باحثة عن الهدف. وبينما هي في إحدى هذه الجولات، تجد كتابًا مُلقًى على الأرض، يخص الطب النفسي ومؤلفه هو الطبيب كونور، قرأته وتأثرت به. ولكنها لم تتعرف على الطبيب حينما حاولت سرقة شنطته.

«أليسون»

وريثة غنية جدًّا، وتحاول التوقف عن تعاطي المخدرات والقيام بالفضائح، والدتها متوفاة، أمَّا والدها فقد كان يقوم بمحاولات يائسة لمساعدتها على التغيير، وكانت إحدى تلك المحاولات أن أهداها كتاب الطب النفسي نفسه الذي كان لدى إيفي، ونصحها بزيارة الطبيب الذي كتب الكتاب وهو كونور، فهو يعلم أنَّ في قلب ابنته جرحًا عميقًا جدًّا، سيستطيع ذلك الطبيب معالجته.

التشويق

لم يكن معرفة ماضي ليلى وما حدث لها في غيابها هو عنصر التشويق الوحيد في الرواية، بل معرفة إلى أين ستقود الحالات النفسية أصحابها؟ وما إن كان سيكون بإمكانهم التغير أم لا؟ وكيف سيحدث ذلك التغير؟ والأخيرة كانت نقطة التشويق الأكثر جذبًا وإثارةً للاهتمام في الرواية.

شيء واحد جعلني أشعر بالملل فيما قبل النهاية، وهو أنًّه عندما بدأت ليلى تتحدث عن الماضي وتعطي تلميحات، ترك الروائي قصتها واتجه للحديث عن كونور وإيفي وأليسون بإسهاب، وصحيح أنَّ قصتهما كانت مثيرة للاهتمام، لكنَّ حماسي لمعرفة ما أوشكت ليلى على الحديث عنه، قد جعل القصتين أقل جذبًا في ذلك الموضع.

في الأخير، رواية لأنني أحبُّك رواية متقنة من مختلف النواحي، لها نهاية صادمة غير متوقَّعة، تتحدث عن مواضع نفسيَّة مختلفة، لعلَّ أهمها: الرغبة في الثأر، وتأنيب الضمير لأحداث الماضي، وأجمل ما في الرواية أنَّها مُشبَّعة بالإنسانية، فعندما سرقت إيفي شنطة الطبيب لم يعاملها كسارقة وإنَّما عاملها كإنسان، وكذلك عندما قابل مارك أليسون، تلك الوريثة الثرية مدمنة المخدرات، لم يهتم بمالها، ولم ينفر منها لإدمانها وفضائحها الأخرى، وإنَّما تعامل معها أيضًا كإنسان يُعاني، فبذل جهدًا لمساعدتها.

لذلك، أنصح كثيرًا بقراءة الرواية، خاصة لمن لديهم اهتمام بالروايات النفسية والإنسانية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.