(1)

أعرف مجد كيال، كاتب ألبوم «أحلى من برلين» لفرج سليمان، منذ ثلاثة أعوام. قرأت إحدى مقالاته على موقع «

متراس

» الفلسطيني، ثم عثرت لاحقًا على حسابه على «فيسبوك» (أنا ممنون للسوشيال ميديا التي عرفتني على مجد وغيره كثيرين، وأرى أن نغمة الهجوم عليها رجعية في جوهرها رغم تحولها في الآونة الأخيرة إلى صيحة نقدية تتبناها أعمال فنية وكتابات نظرية). تابعت لاحقًا بعض كتاباته من دون أن تتطور صداقتنا الافتراضية إلى معرفة شخصية أو متابعة أدق. ربما لا يذكر مجد اسمي عندما يقرأ تلك المقالة، وأنا كذلك لم أستمع إلى الألبوم الذي كتبه وصدر في آخر 2020 إلا قبل ساعات من كتابتها.


كلانا، مجد وأنا، من جيل أحب أن أسميه «جيل ما بعد الثورات». عندما اندلعت الثورات العربية لم أكن قد أتممت العشرين بعد، لذلك فإن جيلي، حتى من شارك منهم في الثورات، لم يكن هو من صنعها. مع ذلك، الثورات التي لم نرسم ملامحها نحتت هي ملامحنا، فصرنا منسوبين إليها وإن على سبيل المابعدية. ربما جيل الثورة فعلًا هم من يكبرونني بنحو خمس إلى عشر سنوات. يكبرني مجد بعام واحد، وهو بالتالي من جيلي، حتى وإن كان ينتمي إلى مكان ربما يخضع لتحقيب مختلف إلى حد ما.

مجد فلسطيني من عرب الداخل (العرب الذين لم يغادروا الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948، ومن ثم تم منحهم لاحقًا الجنسية الإسرائيلية، وهم اليوم نحو مليوني فلسطيني). أحسد الفلسطينيين (وهذه عبارة متناقضة، فلا أحد يمكن أن يحسد الفلسطينيين على أي شيء) لأنني أعتقد أن الفلسطيني فنان بالفطرة (هكذا كان يقول صديق لي عن الإيطاليين). يعيش الفلسطيني تجربة كثيفة قادرة على إلهام المخيلة الشعرية على نحو قلما يتوفر لشعب آخر، لذلك لا عجب أن يكون أبرز شعراء العربية المعاصرة، محمود درويش، فلسطينيًا. مجد أيضًا شاعر بالفطرة، لا تشعر عندما تسمع ألبوم «أحلى من برلين» بأنه يبذل جهدًا كبيرًا لكي يصير كلامه شعرًا.

(2)

في الألبوم، يخاطب مجد (أستخدم هنا اسم الشاعر قاصدًا البطل الشعري في أغانيه لا شخصه بالطبع) حبيبته التي فارقها. أعتقد أن تلك هي التجربة الأساسية في حياة أي شاعر. ربما لا نجد الحبيبة التي نعيش معها عمرنا كله – الحياة ليست فردوسًا لتتحقق فيها تلك المتعة العدنية – لكننا بالتأكيد نصادف الحبيبة التي تترك خاتمها الناري في قلوبنا. من يفتش في أعمال أي كاتب كبير سيجد تلك الدمعة الحارقة مبثوثة فيها بدرجة ما. لكن «مجد» عاشق ما بعد رومانسي، لا يعيش قصة حب معزولة عن الناس، أو «العزّال» كما تكرسهم الأغاني القديمة، بل حب «مجد» مغموس تمامًا في حارته، وحبيبته متجسدة في كل تفاصيلها، بل يمكن القول بأن حبيبة مجد في الواقع ترادف مدينته، حيفا. يجري في الألبوم كله هذا الخيط الدقيق، الهم الفردي متجسدًا في هم المجموع.

يبدو مجد في أغنية الألبوم الأساسية، «في أسئلة براسي»، ضاحكًا، وهو ما يخدمه إيقاع سريع ومبهج. يخبر حبيبته أنه اتصل ليضحك معها ويحكي لها عن برلين، لكنك تكاد ترى الدمعة في كل عبارة في الأغنية. يحكي لها عن الحارة التي تتهمها بأنها تركته وتسببت في جنونه وهجرته، لكنه يعترف بكذب الرواية، ثم يعود ويقول، إن تلك الرواية تظل أطرف من «كذبة إنك صديقة». أكاد أسمع بكاء مجد حين يقولها (لي عتب على فرج سليمان هنا بوصفه الملحن، فالعبارة التراجيدية تلك كانت تستحق وقفة موسيقية أطول).

يذكر مجد مدينته كذكره حبيبته أو أشد. يسأل حبيبته في «في أسئلة براسي» هل انتقلت مع صديقها الجديد على «الألمانية» (المستعمرة الألمانية هي أحد أحياء حيفا التي يكثر فيها العرب)، يسألها عن مطعم ومقهى «فتوش» بالحي، هل ما زالت تجلس عليه. حيفا متمثلة في كلمات، لا يمكننا أن نحب خارج مدينتنا.

لكن في أغنية «قلبي بآخر الليل»، ينفجر العاشق الفردي داخل مجد، فتنسحب المدينة قليلًا، وتبقى منها أطلال ذكرياته مع حبيبته التي يفشل في إخفاء حنينه الجارف إليها وعجزه عن نسيانها.

تحتل المدينة دور البطولة محل الحبيبة في أغنيته «شارع يافا» التي يضع لها مجد عنوانًا شارحًا بالإنجليزية هو: «نشيد للجنترة» (Hymn to Gentrification). يغني مجد ضد الجنترة (Gentrification)، وهي كلمة مخترعة حديثة لوصف عملية تغيير هوية حي قديم عبر إحلال سكان أثرياء محل سكانه الأصليين القدامى. الجنترة لا تعني إلا ما يصفه مجد في أغنيته «شارع يافا»: يؤخذ السوق إلى المول، فتتحول «المجدرة» الشامي أو الكشري المصري إلى وجبة «جورميه» فاخرة بأسعار هائلة (أتذكر «توم آند بصل»)، تهدم البيوت القديمة لصالح «أبراج الزجاج»، تستبدل المساكن الفسيحة باستوديو «أضيق من تابوت»، تنتزع المحلات القديمة لتتحول إلى معاقل للبراندات. بالجملة، يزيف الطبيعي والشعبي لكن ليس باقتلاعهم الصريح، بل بتحويلهم إلى سلع.

يختلط الاجتماعي هنا بالوطني، وهذه حقيقة تنطبق على كل بلد، لكنها تجد في فلسطين تجليها الأبزغ. ذكريات المدينة التي يحن إليها مجد في «في أسئلة براسي» لا تنفصل عن ذكريات الشرطة الإسرائيلية «تتمنيك» على السكان العرب.

الجنترة كما يوضح مجد في الأغنية هي أثر القادم من تل أبيب، المركز الاجتماعي الذي يسيطر على الطرف، حيفا، ويسلّعه، قبل أن يستدرك على نفسه موضحا أن القادم جاء في الواقع من «بولندا»، في إشارة إلى بلدان أوروبا الشرقية التي جاء منها كثير من المستعمرين الصهاينة إلى فلسطين. هكذا يشرح مجد كيف يختلط التهميش الاجتماعي للأقاليم في فلسطين بالتهميش الوطني للعربي من قبل المستعمر الذي يحتل أرضه. ويبلغ الوطني التزامه المطلق في الألبوم في أغنية «مرثية الشهيد الوحيد» حيث يبقى الشهيد الوحيد المثل الأعلى للشاعر ولكل عربي في فلسطين.

يستخدم مجد لغة شعبية إلى النخاع لكنه استخدام لا يستهدف الإثارة بقدر ما يستهدف الاستفادة من بلاغة العامي في وصف المعيش وصفًا لا يمكن للفصيح الرصين أن يحل محله فيه بسهولة. أي كلمة يمكن أن تقوم مقام «المنيكة» في وصف تعامل الشرطة الإسرائيلية مع عرب الداخل؟ إن الإيحاء الجنسي للكملة هنا يتوارى لصالح دلالتها على شهوة الفاعل لارتكاب حماقته، كأنها تعادل شهوته الجنسية. يستخدم مجد أيضًا كلمة «مز» في «شو بدك بجوزك؟» ليصف ذلك النوع من الوسامة الممزوجة بجاذبية جنسية وفق المعايير الحديثة للجمال، هل يمكن أن يتوفر بديل فصيح هنا؟

(3)

يبقى السؤال الكامن في رأيي في الألبوم كله، هو هل يظل الحب ممكنًا في تلك المدينة؟ إن الهم الذي تولده الرسملة العميقة لحياتنا يقف حائلًا من دون شكل الحب القديم الذي نحلم به. لم تعد المدينة هي تلك المدينة التي يمكن قطعها «مشيًا» كما يقول مجد في «شارع يافا» لتختفي معها الصورة الرومانسية لعاشقين يقطعان شوارع المدينة مشيا بينما تتعانق أيديهما. ينطلق هجاء مجد للجنترة أصلًا من حواره مع حبيبته التي تطالبه بسكن أوسع وأفضل من السكن الذي أحضره لهما. إنه النقاش الذي لا تخلو منه قصة حب اليوم.

في أغنية «شو بدك بجوزك؟»، يسأل مجد حبيبته عن صفات الزوج المثالي التي تقتل بمثاليتها نفسها نزق الحب. فالزوج المطلوب، بالنسبة لها، لا بد أن يكون «معو مصاري»، ليس فقط من أجل حياة جيدة، ولكن أيضًا من أجل شكل اجتماعي جيد. فمن المهم أن يكون «مميزًا» وأن «يلعب أكثر من رياضة» ليمكنها أن تستخدمه كمصدر فخر مع صديقاتها. إن المسألة ليست أن «مجد» يفتقر إلى ذلك كله، وإنما أنه يرفض أن يتحول الحب إلى مسابقة من هذا النوع، وأن تتحول الحياة إلى ركض لا نهائي كمعاناة سيزييف، يقول مجد: «لو الله بده نركض، كان خلق العالم طريق».

تمثل «رقصة السكران» تمرد مجد على هذا القالب الاجتماعي المثالي كله ليقدم نفسه في «عاديتها» المتطرفة، فهو يعترف لحبيبته في الأغنية بأن رأسه «مش تشكيلي» ولا «سينمائي» ولا شعري. إنه شخص عادي وتكمن جمالياته في عاديته المتحررة من كل أشكال الافتعال التي يحاول بها شاب إثبات فرادته وجدارته بأسر قلوب الفتيات.

«أحلى من برلين» محاولة لتحرير الحب من الرسملة والاستعمار، لكنه ليس تحررًا رومانسيًا يتصور إمكانية التعايش معهما أو الهرب منهما، بل هو تحرير ينطلق من حتمية المواجهة معهما حتى يبقى الحب ممكنا. الألبوم ثورة في مضمونه نظريا بقدر ما هو ثورة في الشكل تأخذ المضمون الثوري فيه بعيدًا عن الخطابة والهتاف.

يبقى أن أقول أخيرًا إن تلك المقالة عزاء لي وللآخرين بأن الحب لم يعد اليوم ممكنًا أصلًا.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.