شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 57 محتوى مترجم المصدر التاريخ 2016/06/23 الكاتب لست ناقدًا أدبيًا أو عالم باللسانيات لأكتب عن رواية صديقي محمد عبد القهار «غارب» نقدًا أو مراجعة، ولكن ما سأكتبه لن يزيد عن مجرد قراءة للرواية، قراءتي أنا بالطبع، لذا سأكتب ما رأيته وافق ذلك المعنى الذي قصده المؤلف أم لم يقصده، ولكنني قبل البدء أود أن أعبر عن اعجابي الشديد بالرواية وبكل كلمة كتبت فيها حتى أخطاءها، فالرواية مثل مقطوعة موسيقية تسمعها مباشرة من دون أي وسائط بنشاز أوتارها وصرير آلاتها مما يمنحها جمال العمل الطبيعي الذي لم تدخل عليه الوسائط السمعية او المرشحات الصوتية فتكسوها بذلك الكمال النمطي البارد للكهرباء. وقبل الخوض في تفاصيل قراءتي للرواية فإنني أزعم ان هذا العمل من الأعمال القلائل التي يمكن أن تعد أدبًا حقيقيًا، قصة وإن نبتت أغلب أحداثها في خيال الكاتب إلا أنها أكثر صدقًا من التاريخ الذي يكتبه المؤرخون ويوثقونه بالأسانيد وشهادات الرجال، فالأديب الحقيقي يبذل روحه ونفسه فيما يكتب، وأشخاصه الخياليون يكونون انعكاسات حقيقية لشخصيته الثرية أو انعكاسًا لأشخاص عرفهم، يكشفهم الكاتب بلا إخفاء أو تصنع، شخصيات مثلنا نحن مملوءة بالعيوب والنواقص يتصارع في جنبات نفوسهم الخير والشر، ونلمسه في أنفسنا وبين دفات الكتب، فالعظماء والأخيار والخارقون ينتكسون كما ننتكس ويألمون كما نألم، يتوهون ويعودون كما نتوه ونعود، أما السير والتاريخ فيختار كابتها خطًا واحدًا ومنحنى بسيطًا يظهر فيه البطل بطلًا دائمًا كأنه ولد هكذا، والعظيم عظيمًا دائمًا، كيف لك أيها الصغير أن تبلغ ما بلغ، يختزل حياته أو حياة غيره في لحظات محددة كلها تتلون بنفس اللون الساطع كان أو القاتم، بدون مقدمات وبلا توابع، فيقتلون الروح الحقيقية للتاريخ أو للنفس ويصنعون آلهة خير وآلهة شر، فيقتلون بهذا معنى المكابدة، ويكبتون النفوس الحائرة الباحثة اللاهثة عن العروج لأنهم بكل بساطة لم يولدوا عظماء كهؤلاء. 1. أنت: رواية «غارب» هي رحلة من اثني عشر فصلًا كل فصل على اسم شهر من شهور السنة، من «ينير» إلى «دجنبر» ويأخذ كل فصل من فصول الرواية حظًا من اسمه كفصل «مايه» وبداية اكتساب الأحداث حرارة، و«نوفمبر» قلب ذروة الخريف والمؤذن بالأفول والموت، وفي كل فصل ثلاثة أجزاء «أنا» وهو خطاب «موسى بن أبي الغسان» بطل الرواية لابنه «عبد الملك» يحكي له فيه عن نفسه بعد أن فرقت بينهم الخطوب والحروب، و «هو» وهو حديث الراوي يصل ما انقطع من الأخبار في خطاب موسى ويحكي ما لم يحكِهِ بضمير الغائب فيعطيك منظورًا للرواية كمنظور عين الطائر، و «أنت» ذلك الجزء الذي يختم كل فصل من فصول الرواية الاثني عشر، هو فصل خصصه الكاتب لتدخل إلى نفس البطل وتراه بعين اليقين من دون حجب الصورة أو أستار اللسان، فتدخل من باب مدينة النفس وقد مررت على صفات النفس الإنسانية وشهواتها كأحياء المدينة أو أرباضها كما سماها المؤلف مستعيرًا مصطلحات ذلك العصر وألفاظه، تخطو إلى برج الملك «قلب الدين» الذي يتربع عرش النفس، يجلس عن يمينه القاضي «أبو الضمير» وعن يساره الوزير أو العقل «ابن لبابة»، فترى انفعال نفسك في انفعال نفس البطل بما يصل إليه من العالم الخارجي، وتسمع كل الأصوات حيث لا صوت هنا يخرس في برج «قمارش» الذي يطل منه الملك/القلب على أحياء مدينة النفس، فالأجزاء الثلاثة لكل فصل كالبذر والري والحصاد. وتشبيه النفس بالمدينة ليس جديدًا فقد استوحى الكاتب فكرته من كتاب كيمياء السعادة للإمام الغزّالي وطور عليها، وقد أخذها الامام الغزالي من جمهورية أفلاطون، الذي ينقلها عن أستاذه سقراط الذي شبّه النفس بالمدينة في محاولته للوصول إلى معنى العدالة في النفس الإنسانية من تخيله للمدينة الفاضلة التي يسودها العدل، من أين يأتي وكيف تكون صورته. ترى نفس موسى أمامك قد انكشفت وتعرى كل ما تخفيه النفوس، تحدّثك أجزاء نفسه بكل صدق عن مصادر أفعال صاحبها ومواردها، فترى في نفسه مرآة لنفسك أنت، وتسبر غوره أكثر، وأكثر تعرف نفسه الحقيقية ومن خلال هذه العملية تعرف نفسك أنت، ومن هنا يتملكك البطل فأنت تحب مقاصده النبيلة والسيئة معًا لأنه يريدك أن تعرف حقيقة نفسه وترى فيها نفسك «فعلى المرءِ ألا يخدع حيث يريد أن يملك» كما قال نيتشه. 2. غارب: «موسى بن أبي الغسان» الذي رباه جده في مدينة «المرية» بعيدًا عن «غرناطة» ومسقط رأسه «الحمراء» فنشأ كابن فقيه لا كابن أمير، وأمه زوجة السلطان المخلوع تجالس النساء في الزنقات وتمشي في الأسواق، وخاله الذي تمرد على نهج أبيه فنزل يتكسب رزقه في السوق ويزاحم التجار، و«فاطمة» ابنة خاله حبيبته وزوجته وأم ولده الوحيد، ابنة تاجر وحفيدة فقيه، فلا هي إلى أبيها ولا هي إلى جدها، بين هؤلاء تربى «موسى» وقضى طفولته وأيام شبابه الأولى،لم يذكر الكاتب متى اشترى موسى جواده «غاربًا» ولكنني أزعم أن موسى اشترى «غاربًا» أثناء تعلمه صنعة الطب. فقد «غارب» بصره بعد أن نزلت بموسى محنة عظيمة، ولى ظهره للدنيا بعد أن أولته ظهرها وكان عزاءه الوحيد سياسة جوادٍ أعمًى فلا يعلم أيسري عنه حتى يوافيه الأجل أم يسري عن نفسه حتى يحين أجله، كانت علاقة موسى بغارب علاقة خليل بخليله، فقد صاحبه غارب وبقي معه إلى النهاية، وحده بقي معه والناس يصحبونه زمنًا ثم يذهبون، كان آخر علائقه بزمن «موسى القديم» الذي ولى ومات، وحمله على ظهره ليعبر به في رحلته التي صار فيها «موسى الجديد». فغارب ليس إلا إسقاطًا لنفس موسى بطل الرواية، فالعلاقة بينهما تخطت علاقة فارس بفرس، العلاقة علاقة نفس بانعكاسها أو نفس موزعة بين جسدين، فشراء موسى لغارب كان بداية استواء نفس موسى وأول رشده، وعمى غارب كان بداية تنور بصيرة موسى بالجهاد وذهوله عن الدنيا، ولما عمل موسى عند «العطار» والي «لوشة» ترك جواده غاربًا واستبدل به بغلة بيضاء يمشي بها أمام الناس وركوبه البغلة البيضاء كان تركه لنفسه واستبدالها بأخرى تقوم على حال الدنيا. «ولا تخجل الآن من هبة الله واجمح قضى الله بالخلل العبقري الذي يجعل المرء مُنكسرا. حين يَكمُل مُكتملا حين يُكسر. مُستقتلا حين يُجرح» الفرح – تميم البرغوثي. 3. يا موسى: «آشكوَنّ الفارس؟» هكذا سأله «الزغل» الذي كان يرفعه بذراعيه صغيرًا من فوق أسوار قصر الحمراء، ليريه جنان غرناطة الخضراء، ملك أبيه الذي ضاع منه، يسأله بعد وقعة شلوبانية حين رآه فارسًا أبلى بلاءً حسنًا في القتال، وكانت الصلة انقطعت بينهما منذ أن كان ما كان، سأل الزغل أخاه موسى الذي لم يره منذ سنين من يكون، فلا يستطيع جوابًا، يا موسى أأنت الأمير ابن الأحمر أم الناسخ أم صاحب القرارط، أأنت الطبيب الذي قتل صاحبه أم الفارس الشادي الذي خاض أولى معاركه للتو، أأنت الزوج المهجور أم الأب المقطوع؟ أأنت ابن شرف الدين من علمك حمل السلاح أم ابن شيخك السلجماسي أم ابن العطار قائدك؟ فيجيب «الله ربي .. الإسلام ديني .. محمد نبيي .. اسمي موسى .. سعد أبي .. لكن أبا الغسان من انتسب إليه». أهذا التعريف يكفي! كلا. إن موسى طوال حياته لم يعرّف نفسه فتارة يرفض تعريف نفسه كما حدث معه في النسخ والفلاحة، وتارة يُبتلى ويُنبذ كما حدث معه في الطب، وتارة يستعلى ويترفع في صحبته للعطار فكان عاملًا للأمير وهو في نفسه أمير، وهكذا فلم يقرَّ له قرار على شيء حتى النهاية، فمن عرف نفسه ثبتت نفسه على تعريفه لها وتوقفت حياته على حد هذا التعريف فلا يستطيع أن يتجاوزه أبدًا، وهكذا فتعريف الإنسان نفسه بشيء لم يولد عليه هو حبسها وثباتها على تعريفها لنفسها، هو موتها! 4. «ذروني أقتل موسى» إن ما حاول أن يقدمه المؤلف في هذه الرواية هي رؤية مناقضة لما حاول مؤرخو تقديس التاريخ الإسلامي أن يقدموه في سيرة «موسى بن أبي الغسان» وغيره ممن ذكرهم التاريخ بالبطولة، وإن هذا الفارس لو وجد آخرين مثله أو لو سبق ظهوره الزمني أوانه لكان للأندلس شأن آخر، إنهم مؤرخو لقطات يقتصونها من سياقها ليعيدوا رسم التاريخ وفق رؤية أبو كاليبسية خلاصية تذكرك بقصص نهاية العالم، فموسى في حكايات هؤلاء ولد فارسًا وقاد الجيوش منذ عرفناه ولم يكن كما قدمه المؤلف رجلًا دفعته نفسه وظروفه إلى هذا الموقف الأخير، لم يكن إذ ذلك البطل أحادي البعد الذي روّج له المؤرخون وتربينا على سيرته حتى يخرج من بيننا أمثاله من يقودون «جيل النصر المنشود»! موسى ذلك الأمير المنبوذ الذي لم ينلْ حد الكفاية من كل علم درسه وكل صنعة طرقها، موسى الذي ليس له تعريف يحده، عاش في عصر يعيش فيه أناس مثلنا وإن كان الخير في عصره أوفر، إلا أن شخوص القصة جميعًا شخوص أحياء بيننا، وحده موسى يناطحه القدر وهو ناطحه، فما يقر له قرار حتى يدفعه قدره نحو مصير جديد، حتى موقفه الأخير بعد تسليم غرناطة، سنحت له فرصة أخيرة، وكان بين خيارين؛ إكمال المسير إلى حتفه، أو أن يتصالح مع نفسه مرة أخيرة ويعود إلى زوجته التي يحبها وولده المقطوع عنه، أو أن يموت أميرًا كما وُلد، أكان بطلًا مخلصًا حقًا يبتغي إلى الله الوسيلة ويلتمس لنفسه العذر من الله بلقائه العدو وحده، أم شخص عشق صورته التي رسمها الناس له؟ فما القرار الذي اتخذه؟ تلك كانت عقدة الشهر الأخير من عام موسى. تنويه: الفقرة القادمة تكشف أحداث نهاية الرواية، ونرشح لمن لم يقرأ العمل عدم المتابعة وأزعم أنه لو لم تنتهِ الرواية التاريخية باستشهاد «موسى بن أبي الغسان» في معركته الأخيرة، لقتله المؤلف في روايته تلك كما قُتل على الحقيقة، وكما كان يغتال منه بعضه في كل فصل من فصول الرواية، فسيرة موسى هي سيرة بطل ولد ليموت. «ونرجس في ضفة النهر يجلس لا تحسبوه وحيـدًا ففي الماء نرجسُ أيضًا ولا تحسبوا بطل القصة الـولد المتكـبِّر يعجبه شكله إنمـَّا بطل القصة الولدُ الغـارق المـُشتهي أن يعود إلى نفسه ولدًا يتنـَفسُ نرجـسُ نرجـسُ آن لـِراوي الملاحم أن يعرف الحق من عكسـِهِ إن نرجـِسَ في النـَهرِ لا فوقه ُ إن نرجسَ طفلٌ غـريقٌ وقد خـلق الله من زِنده طوقهُ» مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير. قد يعجبك أيضاً الدين كما أفهمه – النقل المتنبي وبودلير: التعساء دائمًا الأسماء والمسميات ومنهجية الحركة الحيوية فيودور دوستويفسكي: حين يتوقف المصير على قراءة كتاب شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram عمرو أحمد Follow Author المقالة السابقة النبيُ محمّدٌ عندليبُ روضِ الأبد المقالة التالية الإسلام الموازي قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك رفعت إسماعيل، نجم شباك؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كم مرة سقطت الخلافة الإسلامية؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مقاصد الحرية في الرؤية الإسلامية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أنا سكران إذًا أنا موجود: سيرة الشاعر الطليعي جي ديبور 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك أوقاف «الشرايبي» على رواق المغاربة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مريم وأخواتها في مملكة الرجال الإسلامية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك من أسس أحزابنا: هيجل أم ماركس؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قراءة في رواية الجريمة والعقاب لـ«دوستويفسكي» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «جلال حرب»: الصوت المثقف الأقرب لـ «عبد الوهاب» 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك هل نحن حقًا أنفسنا؟: عن فيلم «شيخ جاكسون» 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.