«استيقظ يا بني إنها صلاة العيد» ما زلت أذكر ذلك الصباح البعيد، بعد الفجر عندما أيقظني أبي وأيقظ إخوتي الكبار، وترك الصغيرة مريمة لتوقظها أمي، أذكر وقتها؛ كان الجو باردًا، وقف الوالد متدثرًا بعباءته كمنذر جيش، يعطي كل واحد منا تمرة ويقول مبتسمًا: أفطروا فتلك سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، مشيْنا معًا حتى وجدنا الأخوة؛ كوكبة من الشباب يلبسون جلابيب بيض في معظمهم، تطوّحها الريح فتضفي على المشهد نفحة ملائكية، اكتمل الجمع وانطلقنا، مسيرة من صفّيْن يتقدمها الرجال، علي أخو صديقي يحمل عبد الرحمن الصغير على كتفه، يبدو إذن أننا سنسير مسافة طويلة على الصغار مثلي، بين ابتساماتهم ودعاباتهم التي كساها الصبح ندى رطبًا، انطلق التكبير مُنَغمًا سلسًا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر … لا اله إلا الله … الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وانطلقت القافلة تتهادى بهم كأنهم الملوك على الأسرّة يركبون ثبج البحر يحدوهم النغم الإلهي، إلى أن وصلنا ساحة الصلاة التي كانت ملعبًا لكرة القدم يكسوه العشب الأخضر الذي واراه جمع غفير أراه للمرة الأولى في حياتي، بشر هنا وهناك يرددون نفس الأنشودة، صلينا صلاة جديدة يكبر الإمام فها كثيرًا، ما جاء في بالي أن الإمام يخشى ألا يسمعه الناس فيعيد التكبير ليؤكد ما يقوله في نفوس المأمومين: الله أكبر.

سلّم الإمام وخطب خطبة العيد، تجمّع الشباب بعد الصلاة مرة أخرى، أوراق خضراء من فئة الخمسين قرشًا وأوراق زرقاء من فئة الخمسة والعشرين قرشًا توزع هنا وهناك، جديدة أيَضًا مثل ملابسي وصلاتي ذلك اليوم. عاد الموكب ثانيًا، صاح أبي: على الجانب الآخر يا شباب .. حتى تشهد لنا هذه الأرض وتلك أننا أقمنا شعائر الله.

كل عام نودع رمضان صاحب الصيام، ونستقبل شوال صاحب العيد وصاحب الفطر، أنهينا شهرًا كان بمثابة التدريب وإعداد الزاد للعام الجديد، ها قد صلينا فجددنا معاني العبودية في أنفسنا، ها قد قرأنا القرآن فتذكرنا أين ينبغي أني نكون، ها قد أقمنا الليل قلوبنا الآن قادرة على النبض وضخ الدم من جديد، ها قد أخرج الأغنياء والفقراء زكاة الفطر فكلنا الآن قادرون على الفعل الاجتماعي، حسنًا انقضى شهر سمته التدريب وابتدأ عام سمته العمل، نفتتحه بالتكبير والتهليل والتحميد، وكأنه بيان تأسيسي يطلقه المسلمون حول العالم بأكمله، دورة جديدة من السعي لتحقيق مراد الله تعالى في أرضه، فلنبدأ بالفرحة أولًا مبشرين بها الدنيا.

فها هنا معنى من معاني الثورة، فها هي ساحة، وهؤلاء بشر، وذلك إمام، يصلي خلفه الجميع، لا مجال هنا للانسحاب الاجتماعي، فهؤلاء أهل الدار، أصحاب المعضلة ومفاتيح الحل، قد يظن البعض أنه يجب أن تكون لنا احتفالاتنا الخاصة القاصرة على أشباهنا، فكما أغلقنا على أنفسنا المسجد، وكما أغلقنا على أنفسنا المكتبة، وكما أغلقنا على أنفسنا الكوكب الأزرق، سنغلق هذا العيد وفرحته علي أنفسنا.

ينبغي ألا ننسى أن لكل تدافع ساحة، وإن خسرت في واحدة لا تنسحب من الأخرى، العيد من مقاصده التجمّع، ينبغي أن يظل الناس على مرأى من تعظيم الشعائر، ينبغى أن يروا من يشعرهم أن في العيد من معاني تجديد القلوب والنفوس ما هو أكبر من تجديد الثياب، إن في العيد قوة الإثبات على أن أيامنا يمكن أن تكون أفضل، وأن دوام الحزن محال، فهو أيضًا ساحة لاحتمال آخر يتجاوز ما اعتاد على فهمه الناس.

عندما خرج عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) – وهو الشاب الفقير، الذي ليس له عائلة تمنعه – إلى الكعبة يجهر بالقرآن بعد ما تسائل الصحابة عن رجل يخرج فيُسمع قريشًا القرآن، فخرج ونال ما نال، أوصل لقريش رسالة مضمونها أننا هنا نبشر بفجر جديد، نعم.. تجمعنا دار ابن الأرقم ليلًا لكنها لا تسع دعوتنا، فقرآننا وديننا للناس.

لن نجهر بقرآن جديد، ولكن بقلوبنا فهم حي ينبغي أن نتمثله، يراه الناس في سلوكنا، فهو ليس تدينًا فكريًا باردًا نحفظه من الكتب، وليس رياضة روحية تعزلنا عن الأرض، بل شعور يفيض من كتاب الله ينعكس على سلوكنا، وما أبلغها من دعوة لو كنا كذلك. لا تتركوا ساحة العيد بل املؤوها بالحب الصادق، والدعوة البليغة، والسلوك القيم، ولا تكفوا عن ترديد النشيد:

الله أكبر الله أكبر الله أكبر من أحزاننا، ومن عزلتنا، ومن ضيقنا،ومن ضعفنا، ومن واقعنا، ومن قعودنا، ومن كيدهم، ومن جيوشهم، ومن سجونهم، ومن بأسهم، لا إله إلا الله، لا قوة إلا به، لا نصر إلا من عنده، لا تغيير إلا بإذنه،الله أكبر الله أكبر ولله الحمد على تجديد الفرح، على وعد لا يُخلًف، على زاد لا يُمنع، على عيد لا يتخلف أبدًا.

الله أكبر الله أكبر الله أكبر قد جائنا العيد.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.