شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 69 يعد كتاب «الكامل في التاريخ» لمؤلفه «عز الدين ابن الأثير» أحد أهم وأشهر الحوليات التاريخية الإسلامية، وذلك لشموليته ـ فهو يبدأ كتابه ببدء الخلق وينتهي بذكر حوادث 628هـ تتبع فيها أحداث العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه ـ وأيضًا لأن اللحظة التاريخية التي عاشها ابن الأثير (555 – 630هـ) وأرخها بنفسه كانت لحظة فارقة في تاريخ العالم الإسلامي، اجتمع فيها غزو الفرنج لبلاد الشام ومصر –فيما عرف بالحروب الصليبية- وخروج التتار من أقصى المشرق لغزو العالم، وظهرت فيها طائفة من ألمع شخصيات العصور الوسطى أمثال: نور الدين محمود بن زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وجنكيز خان وغيرهم . وبينما يؤرخ ابن الأثير لهذه الفترة والتي شارك في صنع بعض أحداثها ـ لا سيما وقد كان يعيش في الموصل التي اكتسبت أهمية خاصة تحت حكم الأسرة الزنكية انطبعت بين السطور وفي ثنايا الحوادث صورة لحياة ابن الأثير الشخصية، وآراؤه السياسية، وانطباعاته الذاتية عن أبناء عصره، والتي نستطيع من خلال تتبعها وجمع تفصيلاتها تكوين سيرة ذاتية كتبها ابن الأثير لنفسه في الكامل، وهذا المقال محاولة في هذا السياق. الأسرة والنشأة الأولى ولد ابن الأثير المؤرخ عام 555هـ بجزيرة ابن عمر شمال الموصل، لأسرة تشتغل بالعلم والسياسة. انتقل مع والده وإخوته إلى الموصل التي كانت مقر البيت الزنكي الذي قام بأدوار جهادية ضد الصليبين على يد مؤسس الأسرة عماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود، وسيرتبط تاريخ أسرة ابن الأثير ارتباطا وثيقا بهذه الأسرة، وهو ما سيلقي بظلاله على تأريخ ابن الأثير كما سنبين. عمل الأب موظفا لدى الزنكيين، فتولى ديوان جزيرة ابن عمر، كما ذكر في الكامل (حوادث 595هـ) وهو يترجم لجمال الدين الأصفهاني وزير ملوك الموصل: «حكى لي والدي عنه: …فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين وكنت أتولى ديوانها..». وفي ثنايا ترجمته لقطب الدين مودود بن زنكي (565هـ) يقول: «حدثني والدي رحمه الله: كنت أتولى جزيرة ابن عمر لقطب الدين ..» ويذكر في نفس الخبر أن والده كان له «ملك كثير» في بساتين (العقيمة) وهي «قرية تحاذي جزيرة ابن عمر» وهو ما يشير إلى ثراء أسرة ابن الأثير. أما الأخ الأكبر للمؤرخ فهو أبو السعادات مجد الدين بن الأثير صاحب كتاب «جامع الأصول» و«النهاية في غريب الحديث والأثر»، وقد أطنب المؤرخ في ترجمة أخيه عند ذكر وفاته (606هـ): وفي سلخ ذي الحجة، توفي أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الكاتب، مولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة وكان عالما في عدة علوم مبرزا فيها، منها: الفقه، والأصولان، والنحو، والحديث، واللغة، وله تصنيف مشهورة في التفسير والحديث والنحو والحساب وغريب الحديث ، وله رسائل مدونة، وكان كاتبا مفلقا يضرب به المثل، ذا دين متين، ولزوم طريق مستقيم، رحمه الله ورضي عنه، فلقد كان من محاسن الزمان. ولعل من يقف على ماذكرته يتهمني في قولي ، ومن عرفه من أهل عصرنا يعلم أني مقصر وبرغم اشتغال أبي السعادات بالعلوم الشرعية كما هو واضح في ترجمته، إلا أنه عمل أيضا في خدمة الأسرة الزنكية، فيذكر في الكامل (حوادث 589هـ) أن أبا السعادات كان من أصحاب شورى عز الدين مسعود صاحب الموصل، وصاحبه في تحركاته العسكرية هذا العام، ولما مرض عز الدين مسعود استدعى أبا السعادات ليكتب وصيته. وبعد أن توفي عز الدين مسعود التحق أبو السعادات بخدمة ولده نور الدين أرسلان شاه، فيقول في ترجمة أرسلان شاه (حوادث 607هـ): «وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات – رحمه الله – وكان من أكثر الناس اختصاصا به ..». أما الأخ الأصغر للمؤرخ فهو ضياء الدين ابن الأثير صاحب كتاب «المثل السائر» والذي اتجه للأدب والكتابة، وعمل في خدمة البيت الأيوبي ثم البيت الزنكي، لكن مع ذلك لم يذكره أخوه في الكامل، ويذكر الذهبي في السير أنه «كان بينه وبين أخيه عز الدين مقاطعة ومجانبة شديدة» [السير ج16/323] . ابن الأثير والحروب الصليبية كانت الحروب الصليبية أحد أهم الأحداث التي عاصرها ابن الأثير وأرخ لها، لا سيما وأنه كان يعيش في الموصل التي اضطلعت بدور كبير في الجهاد ضد الصليبيين، ولذلك عد كتاب الكامل أحد أهم المصادر التاريخية للحروب الصليبية، ليس فقط لمعاصرته لأحداثها بل لمشاركته بنفسه فيها. فهو قد خرج للغزاة في عام 583هـ، فيقول في ثنايا حوادث هذا العام : «وكنت حينئذ بالشام في عساكر صلاح الدين يريد الغزاة ..». وشارك في حصار حصن الأكراد في العام التالي 584هـ :«وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها، فاجتمعت عليه (يقصد صلاح الدين) وكثرت عنده، فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي وكنت معه حينئذ». وفي العام نفسه شارك في حصار قلعة برزية «ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق وهي التي بطلت منجنيق المسلمين». وكان من نتائج هذه الحروب انتشار السبي الفرنجي بين المسلمين، ومنهم ابن الأثير نفسه، فيذكر في حوادث 583هـ: وكان عندي جارية من أهلها (يقصد: يافا) ومعها طفل عمره نحو سنة، فسقط من يدها فانسلخ وجهه، فبكت عليه كثيرا فسكنتها، وأعلمتها أنه ليس بولدها ما يوجب البكاء، فقالت: ما له أبكي، إنما أبكي لما جرى علينا، كان لي ستة أخوة هلكوا جميعا، وزوج وأختان لا أعلم ما كان منهم. ابن الأثير بين البيت الزنكي والبيت الأيوبي كان ابن الأثير يحمل ولاء كبيرًا للأسرة الزنكية كسائر أهل بيته، فألف للملك القاهر عز الدين مسعود كتاب (الباهر) الذي يؤرخ لدولتهم، بل يذكر في مقدمة (الكامل) فتوره عن تصحيح مسودة الكتاب رغم إلحاح أصحابه عليه في إتمامه «فبينما الأمر على ذلك إذ برز أمر من طاعته فرض واجب، واتباع أمره حكم لازب … مولانا الملك الرحيم، العالم المؤيد المنصور المظفر بدر الدين ركن الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، خلد الله دولته». ولعل هذا الولاء للبيت الزكي هو ما جعل صلاح الدين لا يسلم من نقد ابن الأثير، فصلاح الدين هو الذي استولى على ممتلكات الأسرة الزنكية في الشام والبلاد الجزرية. فيعلق في حوادث 582هـ على تقسيم صلاح الدين لمملكته على أولاده «فلم ينفعه الله بما فعل لما أراد الله نقل الملك عن أولاده». ولما استولى العادل ـ الأخ الأصغر لصلاح الدين- على ممتلكات الأفضل ابن أخيه، يعلق ابن الأثير بما يشبه الشماتة (حوادث 595هـ)؛ ولقد عوتب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي، فإنه قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة، فأرسل صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الدين إليه يسألانه أن يعود، فلم يشفعهما، فجرى لأولاده هذا، وردت زوجته خائبة كما فعل. ولم يكن هذا هو المأخذ الوحيد لابن الأثير على صلاح الدين، فهو يحمله مسئولية سقوط عكا في أيدي الصليبيين لتفريطه في الاستيلاء على صور، فيعلق على رفع الحصار عن صور في 583هـ «ولم يكن لأحد ذنب في أمرها غير صلاح الدين… وسنذكر – إن شاء الله – ما صار إليه الأمر بعد ذلك ليعلم أن الملِك لا ينبغي أن يترك الحزم وإن ساعدته الأقدار». ولكن هذا كله لم يمنع ابن الأثير من الإشادة بصلاح الدين في مواطن كثيرة، وترجم له ترجمة ضافية عند ذكر وفاته (589هـ) وختمها بقوله : «وبالجملة كان نادرا في عصره، كثير المحاسن، والأفعال الجميلة، عظيم الجهاد في الكفار، وفتوحه تدل على ذلك». ابن الأثير والغزو التتري كان خروج التتار من أقصى المشرق أحد أهم الأحداث التي عاصرها وأرخ لها ابن الأثير، وكتب مرثيته الشهيرة في حوادث 617هـ: ورغم أن أحداث الغزو التتري إنما بدأت مع تجاوز ابن الأثير الستين، إلا أنه أظهر جلدًا كبيرًا في تتبع حوادثها، عن طريق التجار والفقهاء الذين نزحوا من البلاد التي طالتها أيدي التتار، حتى نهاية تاريخه في 528هـ . الحياة الاجتماعية لابن الأثير لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلا وأؤخر أخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن ذا الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا»، فنقول: «هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها لا يمكن أن تخطئ العين شخصية ابن الأثير التواصلية وعلاقاته الاجتماعية الواسعة، وهو ما قد يفسر قدرته على جمع تلك المادة التاريخية الهائلة. فيشير في مقدمته إلى أصدقائه: «ثم إن نفرًا من إخواني وذوي المعارف من إخواني، ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري، وأعدهم من أماثل جلاسي وسماري، رغبوا إلى في أن يسمعوه مني، ليرووه عني..». وكثيرًا ما ينقل عن التجار والجنود والمسافرين، فيقول في حوادث 597هـ «ولقد حدثنا بعض أصدقائنا التجار وكان بنيسابور ..». وعند ذكره لأحداث الغزو التتري يقول «هكذا ذكر لي بعض الفقهاء ممن كان ببخارى، وأسروه معهما إلى سمرقند، ثم نجا منهم ووصل إلينا مع غيره من التجار». ولم يقنع ابن الأثير بمقامه في الموصل، بل يشير إلى أسفاره ورحلاته في مواطن عديدة من كتابه، فهو قد خرج للغزو في الشام في 583هـ كما قدمنا. وفي عام 590هـ يذكر وصول الملك العزيز بن صلاح الدين إلى دمشق ويقول «وكنت حينئذ بدمشق» وذهب إلى الحج برفقة أخيه أبي السعادات، فهو يذكر في ترجمة شيخه يعيش بن صدقة (593هـ) أنه سمع عليه سنن النسائي مع أخيه ببغداد وهما في طريق العودة من الحج. وهكذا لم يكن كتاب الكامل موسوعة تاريخية فحسب، وإنما كان أيضا صدى لحياة ابن الأثير الشخصية. المراجع ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن: الكامل في التاريخ، ت: عمر تدمري، دار الكتاب العربي. ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، ت: عبد القادر طليمات، دار الكتب الحديثة. الذهبي، شمس الدين: سير أعلام النبلاء، ت: أيمن الشبراوي، دار الحديث. قد يعجبك أيضاً دليل الكتابة (7-8): كيف تُكتب القصة في خصوصيات الدولة ومصائر حركة الثورة العربية حين يصبح الحُلم طريقًا للحكم! رواية «برجوازي صغير»: الحلقة الثالثة شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram محمود سمك Follow Author المقالة السابقة وجهًا لوجه «سيمون دوبفوار» و«سارتر»: ثنائية الحب والفكر المقالة التالية السياسة التعليمية والتنموية العربية وشعار ثورة «الميجي» قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك طفولة مُشوّهة – قصة قصيرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك احتلال… 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك التجسس وسيل التسريبات 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تشكلت ثقافة مالكوم إكس؟ 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك يحكى أن: قراءة نقدية لمسارات التأويلات الثقافية 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رسائل شوق.. إلى نتنياهو 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «الكتاب الأسود»: عندما تتفوق الكتابة على الحياة! 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الفهم العربي للمؤامرة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قضية الزواج المبكر كمنتَج لسياسات الدولة الحديثة 27/02/2023 احفظ الموضوع في قائمتك وليم شيبرد: خرافة التقدُّم في كتابات سيد قُطب (2-3) 27/02/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.