بالرغم من أن ابن خلدون قد اكتسب شهرته لدينا كمؤرخ واسع الاطلاع وعالم اجتماع ثاقب النظر في حركة المجتمعات، بل وحتى كسياسي شديد الطموح قادر على التلاعب بالأمراء وتأليب العصبيات، إلا أن جانب التصوف في حياته لم ينل القدر الواجب من الاهتمام، كما تخبرنا بذلك أحدث الدراسات عن الرجل.

فلقد خلف لنا ابن خلدون رسالة في التصوف لم تشغل بال الكثيرين؛ فرواد الدراسات الخلدونية أهملوها لأنها تُخلخِل الإطار العقلاني الوضعي الذي حبسوا فيه صاحبنا ومقدمته، وكذلك الحال بالنسبة لدارسي التصوف، الذين اكتفوا بصفحات معدودة في مقدمة كتاب «العبر» عن علم التصوف، إذ اعتبروا ما كتبه الرجل عن التصوف محض تأريخ لا يرقى لأمهات كتب التصوف ولا لكتب طبقات الصوفية الشهيرة. وقصة تأليف رسالة ابن خلدون في التصوف، تلك المسماة «شفاء السائل وتهذيب المسائل»، أن صاحبنا بعد خطوب وشدائد مر بها كان قد ملَّ السياسة وزهد في شئون الحكم والرياسة، بل وحاول عن جد الانقطاع عنهما –كما تُصرِّح بذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه لسان الدين بن الخطيب– للتفرغ للعبادة والذكر والتسبيح في مقام سيدي أبي مدين الغوث، ومن هنا أراد أن يُدلي بدلوه في خلاف شديد الأهمية نشب بين علماء الأندلس في أخريات القرن الثامن الهجري، الذي يجوز لنا تسميته قرن ابن خلدون.

وقد صاغ صاحبنا في مستهل رسالته تلك ذلك الخلاف على هيئة السؤال التالي:

هل يصح سلوك [طريق المتصوفة] والوصول به إلى المعرفة الذوقية… تعلمًا من الكتب الموضوعة لأهله واقتداء بأقوالهم الشارحة لكيفيته؟ أم لا بد من شيخ يُبيِّن دلائله [أي الطريق] ويحذر غوائله… فيتنزل منزلة الطبيب للمرضى والإمام العدل للأمة الفوضى؟

إنها إذن نفس مشكلتنا التي نكابدها الآن تحملق فينا من وراء اللغة الكلاسيكية لابن خلدون، وستكشف لنا النقاب عن محياها، لو وضعنا بين قوسين تلك القضية محل التساؤل في الرسالة، (أي التصوف)، وركزنا على المشكلة ذاتها، وذلكم هو النهج الذي سأسير عليه في قراءة الخبرة الخلدونية تلك.

بعبارة أخرى، فالسؤال الذي صاغه ابن خلدون وقدم الإجابة عليه في الرسالة هو: هل يصح السير في طريق العلم بالاعتماد على الكتب المؤلفة في موضوعات العلم وكذلك الشروح والتعليقات عليها (أي التعليم عن بعد) أم لا مفر من وجود أستاذ أو معلم يبين معالم طريق العلم ويحذر من يسلكه من مخاطره، بحيث تكون علاقته بطالب العلم كعلاقة الطبيب بالمريض (أي التعليم المباشر)؟

إذن تدور الرسالة حول المفاضلة بين التعليم عن بعد (ووسيلته الكتب والشروح والتعليقات، كوسائط تعليمية سائدة في عصر ابن خلدون، تمامًا مثل المحاضرات المسجلة والملفات الإلكترونية وحتى برامج التفاعل بالصوت والصورة في الفضاء الافتراضي في عصرنا) والتعليم المباشر (عن طريق الأستاذ المعلم أو الشيخ المعمم، سواء في عصر ابن خلدون أو عصرنا). وتلك بحق نفس إشكالية الوقت لدينا، رغم الاختلاف في طبيعة الظرف التاريخي بيننا وبين ابن خلدون، ذلك الظرف الذي تسبب في امتناع التواصل المباشر بين العالم والمتعلم. ففي حين تسببت جائحة الوباء وتعطيل الدراسة النظامية في انقطاع العلاقة التعليمية المباشرة في عصرنا، فقد شهد قرن ابن خلدون تناقص عدد شيوخ التصوف في الأندلس، بالموت أو الهجرة، جراء تتالي سقوط مدن المسلمين بالعدوى الأندلسية في يد الأسبان، فضلاً عن اضطراب أحوال ما بقي منها في يد أمراء، أخس وأحط من أن يوصفوا بأي وصف.

ويغدو السؤال بالنسبة لنا هو: أي مضمون يمكن لنا تجريده من إجابة ابن خلدون على السؤال السابق، بغية اتخاذه مبتدأ نعرض عليه خبر خبرتنا في التعليم عن بعد في اللحظة الحاضرة؟ وهذا بالأساس هو الهدف من القراءة الحالية لابن خلدون وأساس شرعيتها، ومن ذلك تبين أهمية الإفادة من تراث الأقدمين.

وقد وضع ابن خلدون في رسالته مقولة مفتاحية تفضي مباشرة إلى طرحه في التعليم عن بعد؛ «اختلاف المجاهدات باختلاف البواعث». ويتلخص رأيه في القضية كالتالي: «اعلم أن افتقار هذه المجاهدات إلى الشيخ المعلم والمربي الناصح ليس على سبيل واحدة، بل هو في بعضها أكمل وأولى، وفي بعضها أحق وآكد، وفي بعضها أوجب، حتى إنه لا يمكن بدونه».

وتفصيل ذلك وبيانه هو أن العلّامة ابن خلدون لم يجعل المجال المعرفي موضع المناقشة (أي علم التصوف) كتلة واحدة، بل إنه بعد أن أرخ لظهوره كخبرة وممارسة ثم كعلم ودراسة قسّمه إلى مستويات متباينة، من حيث درجة قربها إلى لب هذا العلم. كما أنه لم يجعل المفاضلة بين أسلوبي التعليم تأخذ شكلاً حديًا، صفرًا أو واحدًا، بل قدم حالات بينية متمازجة على المتصل القائم بين الحالتين الطرفيتين، الواجب وغير الواجب.

فلقد بيّن ابن خلدون طبيعة التصوف كعلم عملي يبدأ من المجاهدة، أي ممارسة الرياضات الروحية المتعلقة بالأمور السلوكية والأمور القلبية، ويهدف إلى الوصول لغاية، هي الكشف والمشاهدة، أي العلم بالله وصفاته وأفعاله وأسرار ملكه. وفي هذا الإطار، قسم المجاهدة إلى ثلاثة مستويات أو مراحل، يقوم الاختلاف بينها على اختلاف الباعث في كل منها، بحسب المقولة المفتاحية المذكورة سلفًا.

فهناك أولاً مجاهدة التقوى، وتتلخص في مجاهدة النفس للوقوف عند حدود الله، بالتوبة عن المخالفات وترك ما يفضي إليها من أعمال، وبمراقبة أفعال القلب لتصحيح النية والإخلاص في العمل لوجه الله. وباعث مجاهدة التقوى هو مجرد طلب النجاة من العقاب الإلهي، أي الفرار من نار الجحيم.

ثانيًا هناك مجاهدة الاستقامة، وتتمثل في تقويم النفس لتتحسن أخلاقها وتصدر عنها أفعال الخير من دون تكلف، ولا يتأتى ذلك بقمع الصفات البشرية أو بترها بالكلية، ولكن بعلاجها بموازنتها بما يضادها من صفات تخالف هوى النفس، مثل علاج البخل بالسخاء والغضب بالحلم والشره بالامتناع عن المشتهى. وباعث مجاهدة الاستقامة ليس النجاة ولكن الفوز بالدرجات العلى، وهي مراتب النبيين والصديقين في جنة الخلد.

وأخيرًا توجد مجاهدة الكشف والاطلاع، وهي عبارة عن محو الصفات البشرية وتعطيل القوى البدنية بالرياضات المفضية لصفاء القلب، تمامًا مثل صقل الأجسام العاكسة كالمرايا لتنطبع فيها صور الأشياء المقابلة لها. وباعث مجاهدة الكشف هو الاطلاع في هذه الحياة الدنيا على الأمور الغيبية التي ستحصل للروح بعد الممات، أي الوصول للعلم اللدني.

ولا شك أن بعد هذا التقسيم الثلاثي للمجال المعرفي موضع النظر سوف تختلف الإجابة على سؤال المفاضلة بين أسلوبي التعليم وجدوى التعليم عن بعد، بحسب طبيعة كل مستوى وباعثه وغايته.

يُتبع…

للإطلاع على الحلقة الأولى:

«ابن خلدون والتعليم عن بعد (1)»



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.