يُعتبر الأسلوب هو الطريق الذي يعتمده الأدباء في توصيل رسالة شعرهم، وهناك من الشعراء من خلق أسلوبًا جديدًا ليكون فيه قدوة للأجيال من بعده أيضًا، فهناك العديد من الأساليب التي جعلها الشعراء من أساسيات الشعر، ومنهم اعتبرها ابتداعًا وإحداثًا على طبيعة الأمر.

وفي هذا العصر أيضًا، سلك الشعراء اتجاهات مختلفة وتيّارات مُتباينة في توصيل أفكارهم. ومن تلك الاتجاهات «الاتجاه البديعي» الذي غلب على أكثر شعراء هذا العصر، إذ كان الكتّاب يبنون شعرهم على الرسائل والتراسل الإخواني والشكاوى.

وقد لعب الشعراء في هذا الفراغ بضروب البديع المتنوعة من جناس وطباق وتورية، حيث أصبحت القصائد قطعًا موشاة بضروب الصنعة.

في
البداية، وقبل استعراض هذا الاتجاه، فإنه لابد من التذكير بعلم البديع والذي هو
أحد علوم البلاغة العربية الثلاثة (المعاني، البيان، البديع). وميدان البلاغة الذي
تعمل فيه علومها الثلاثة متضافرة هو نظم الكلام وتأليفه على نحو يخلع عليه نعوت
الجمال.

وفي
تعريف علم البديع، يقول «الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن» [1] في كتابه
«التلخيص» هو «علم يُعرَف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح
الدلالة».

ويُعرّفه
ابن خلدون بأنه «هو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إمّا بسجع
يفصله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه، أو ترصيع يقطع أوزانه، أو تورية عن المعنى
المقصود بإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما، أو طباق بالتقابل بين
الأضداد وأمثال ذلك». [2]

إن
دراسة البلاغة لا تقتصر ضرورتها لمن اختص باللغة وآدابها، بل هي أيضًا ضروريّة
للناقد والأديب على حد سواء.

وفي الحديث عن الاتجاه البديعي فهو ذاك الأسلوب الذي اعتمده الشعراء في عصر الدول المتتابعة الذي ظهر على يد القاضي الفاضل «عبد الرحيم البيساني» الذي كان ذا شأن رفيع في الدولة الأيوبيّة، وهذا ما جعل هذا الاتجاه كمذهب ديني في ذاك العصر.

فقد
احتوى هذا المذهب المحسنات البديعية واللفظية، وقد أخذ الشعراء ما جاء به القاضي
أسلوبًا وأعطوا الأمر المزيد من المبالغة. فكان عصر الدويلات هو عصر ازدهار
الاتجاه البديعي، وإثارة للشعراء، حيث اتّبعوه كمنافسة للوصل إلى مناصب رفيعة في
الدولة.

وقد
تناول الدكتور «زروقي عبد القادر» اهتمام شعراء هذا العصر بهذا المذهب في دراسته
فقال:

لقد شغف شعراء عصر الدويلات بالبديع أقوى مما كان عليه من قبل، حتى غدا في تصوّرهم الإبداعي أن لا بلاغة دون التفنن في قضاياه وأبوابه، وهو ما عزا روح المبادرة والمنافسة الإبداعية أن تشتد بين شعراء وأدباء العصر.

وهذا ما قادهم إلى التكلف والتعمل في إيجاد الصنعة البديعية، على خلاف ما كان عليه المتكلم قديمًا حيث لم يكن في حاجة إلى أن يقود المعنى نحو التجنيس والسجع، بل قاده المعنى إليهما، وعثر به عليهما، حتى إنه لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع لدخل من عقوق المعنى، وإدخال الوحشة عليه، وفي شبيه بما ينسب إليه المتكلف للتجنيس المستكره والسجع النافر لم تر. [3]

وتابع: «وإن كان الجرجاني قد غض الطرف عن المحسنات البديعية ورأى أنها لا ينبغي أن تقع محل اهتمام الناظم؛ لأن الأصل في ذلك للنظم، وما يفرضه من اهتمام بالبناء التركيبي للغة بما يخدم المعاني، إلا أنه يقر بما للبديع من أهمية في بعض الصيغ التعبيرية التي يفرض فيها البديع نفسه كحالة من أحوال التركيب، حيث يجوز فيها مرتبة الحسن، والسبب في ذلك أن المعنى هو الذي يطلب هذا اللون البديعي أو ذاك، وعندئذ لا يمكن الاستغناء عنه». [4]

ولكن شعراء هذا العصر وجدوا بصنعة البديع ما يُقرّبهم من المثالية الفنيّة، فراحوا يعملون بأساليب البديع المتنوعة، مُعتقدين أن ذلك هو عمل حسن، لهزيمة المنافسين وجعل شعرهم ذا مكانة مرموقة، وقد غاب عن نظرهم أن هذا يعود إلى المساس بالمعنى الشعري والخيال التصويري، ولنا على سبيل المثال، قصيدة «ابن عنين»، التي أكثر فيها من الجناس، فقال:

مـــرسى الـــسِّيادة ســدَّةٌ سيفيةٌ *** مـحــروسةُ مـسعودة الـتأسيسِ

سيـــفٌ يــسرُّك سلَّــه وسؤالــهُ *** لـمساءةٍ يـوسي وسلبِ نفوسي

سبقَ الـسَّراةَ بسيرةٍ وسـرسـرةٍ *** محسودتين وسـار سيـرَ رئيس

لقد
أدَّى اتساع دائرة استخدام البديع والمبالغة فيه عند شعراء الدول المتتابعة إلى
تفاقم الأمر، الذي لم يعد يتوقف عند الاستخدام المفرط للطباق والجناس والتورية
وغيرها من ألوان البديع، بل تعدّى ذلك ليصبح المجال مفتوحًا أمام الشعراء في هذا
العصر ليتلاعبوا بالحروف ويقوموا بهندسة الكلمات في الكثير من نتاجهم الشعري، ذلك
النتاج الذي يُفترض أن تسيطر عليه أصالة التجربة الشعرية وجمال الصور المتخيلة،
فهذا شاعر يُلزِم نفسه شيئًا ليس يُلزمها، فقد التزم بجعل كل الكلمات في قصيدته
مشتملة على حرف النون، وذلك في قوله: [5]

نـزّه لسانك عـن نفاق منافق *** وانـصح فإن الـدين نصح نصيح

وتجنب الـمنَّ المنكـد للــندى *** وأعن بنيلك من أعــــانك وامنن

إلى
هنا نخلص إلى القول إن البديعيات تعد بمثابة وثائق بلاغية يجب علينا دراستها دراسة
علمية ممنهجة، تكشف لنا عن تطور البلاغة العربية، وفي نفس الوقت تُعرِّفنا بنظرات
صائبة سبقت عصرها، وتستحق التأمل.

هذا
بالنظر إلى الشعر البديعي والقصائد البديعية في البداية، ثم لاختصار ما أوردناه
حول الاتجاه البديعي الذي اعتمده شعراء عصر الدويلات المتتابعة، هو واحد من
المناهج التي لجأ إليها الشعراء في ذاك الزمان وجعلوا منه غاية للوصول إلى المراتب
الرفيعة في الدولة تارة، ومنهم من جعله صنعة شعرية يعمل بها على شعره، حتى كان هذا
الاتجاه كسُنّة كُره فعل من تخطاها في ذاك العصر.

وكان دور النقّاد مُتقلبًا بين تأييد ومُعارضة، حيث استحسنه البعض ووجد فيه مهارة الشاعر، ومنهم منْ وجد فيه مُبالغة ووسيلة للوصول إلى مصالحه.

إن
الحديث عن الاتجاه البديعي، بات عنوان دراسات وأبحاث، تستحيط بهذا العلم في هذا
العصر من جميع الجوانب التي تكشف لنا عن أهمية هذا الاتجاه وما ترك من أثر في
بلاغة اللغة العربية.

وإنني
أعود لما ذكرت في البداية أن دراسة البلاغة بشكل عام لا تقتصر ضرورتها لمن اختص
باللغة وآدابها، بل هي أيضًا ضروريّة للناقد والأديب على حد سواء.


المراجع



  1. الخطيب القزويني هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق، ولد بالموصل لكن أصله من مدينة قزوين، هو كاتب ومؤلف عربي من مؤلفاته الإيضاح في علوم البلاغة، وهو يتحدث في هذا الكتاب عن نشأة علم البلاغة العربية. انظر: مقدمة ابن خلدون ص 1066.
  2. عبد العزيز عتيق، «علم البديع»، بيروت: دار النهضة العربية، ص7.
  3. زروقي عبد القادر (2021)، تأليف الشعر البديعي في عصر الدويلات بين تعليمية البلاغة وتربية الذوق. جامعة ابن خلدون؛ الجزائر.
  4. المرجع السابق.
  5. فيصل الزهراني، «الدول المتتابعة»، ص19.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.