عندما يتحدث البعض عن أموال الأغنياء التي تفسد المثل الرياضية، فإنهم للأسف لا يعيشون في العالم الحقيقي. الرياضة، وبشكل خاص كرة القدم، أصبحت كأداة في يد رجال الأعمال والسياسة. قد يصعب على الفرد إيجاد تفسير واضح لتوجه الأشخاص الأغنياء لشراء أندية كرة القدم. من

أغنياء

الشرق الأوسط في الدول الخليجية، مرورًا بشرق آسيا في

الصين

، وصولًا إلى الروس القادمين من شرق أوروبا.

لكل قصة أهدافها وغاياتها، من الطموحات الكبيرة بترك بصمة في المجتمع العالمي كما في الاستثمارات الإماراتية، أو أداة لتقوية الموقف السياسي والجغرافي كما في الحالة القطرية، وأخيرًا لتحويل البلاد إلى قوة عظمى في العالم الكروي كما في المشروع الصيني.

والسؤال نفسه، لماذا تكلف «رومان أبراموفيتش» عناء دفع الملايين في السنوات الأخيرة باستثماره في نادي تشيلسي، وما الذي دفعه للاستثمار في إنجلترا بالمقام الأول؟ ولماذا تحول الملياردير الروسي لضحية الحرب الدبلوماسية بين روسيا والمملكة المتحدة بعد

محاولة

تسميم الجاسوس المزدوج «سيرجي سكريبال»، وهو ما أدى إلى

منعه

من دخول المملكة المتحدة. فلماذا تعاقب المملكة المتحدة أبراموفيتش؟


روسيا اليوم والأمس

عندما نتحدث عن روسيا، غالبًا ما نفكر في تاريخها، مدنها، قصورها المزخرفة، عصاباتها، وبالطبع النساء الجميلة. بالإضافة لكل ذلك، لا يمكن إغفال الثروة المالية الكبيرة القادمة من قطاع الطاقة وعلى وجه الخصوص النفط والغاز.

في الحقبة السوفيتية، كانت الرياضة هي الوسيلة الأبرز التي مكنت الشيوعية السوفيتية من إظهار تفوقها. كانت الرياضة بمثابة سلاح سياسي فعال في تلك الآونة. لذلك حاول «بوتين» استعادة الكبرياء والكرامة الروسية بعد سنوات الضياع التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي.

أفضل طريقة للقيام بذلك كانت من خلال كرة القدم واستغلال شعبيتها وقدرتها على تخطي الحواجز التي تعترض وصول الروس إلى مبتغاهم. كل القدرات الهائلة في قطاع الطاقة لم تفلح في دخول أوروبا، لكن كرة القدم قامت بتحريك عجلة الأموال الروسية والنفوذ في غرب القارة، لم يكن ذلك بهدف المتعة بالطبع، لكن كان هناك أهداف خفية لهذه الاستثمارات الكروية في أكبر الأندية الأوروبية.


الهروب إلى الأمام

عقب انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت روسيا تحت سيطرة «الأوليغارشيين» أو الطبقة الثرية التي تتحكم في القرار السياسي للدولة وتسير عمل البلد وفقًا لأهدافها. في عهد الرئيس الروسي السابق «بوريس يلتسين»، كان الأوليغارشية يتمتعون بقوة غير عادية بسبب تأثيرهم الكبير داخل الكرملين، مما سمح لهم بشراء أصول حكومية بأسعار متدنية جدًّا.

فلاديمير بوتين, روسيا, كأس العالم 2018, بوريس يلتسين

فلاديمير بوتين (يمين)، بوريس يلتسين

لكن بحلول نهاية التسعينيات كان يلتسين مريضًا ويعاني بسبب إدمان الكحول. وقد

أُجبر

على التنحي بعد تفشي الفساد والجريمة في البلاد، وتدهور الاقتصاد والعملة الروسية. لذلك أصبحت هذه الفئة المنتفعة من السلطة محتقرة في روسيا بسبب استغلالهم لقوت الشعب.

خلال سنوات حكم يلتسين كوّن أبراموفيتش إمبراطوريته التجارية في الصلب والطيران والتأمين والسيارات. ليس معروفًا بشكل دقيق كيف حصل رومان على هذه الثروة.

وفقًا

لتصريحات رجل الأعمال الروسي، فلقد قام ببناء ثروته من خلال العمل الجاد والمخاطر المرتبطة بممارسة الأعمال التجارية في روسيا، لكن ما هو معروف أنه سرعان ما انتقل إلى تجارة النفط، التي يمكن القول بأنها أعظم ثروات روسيا الطبيعية.

كونه واحدًا من أغنى الرجال وأكثرهم نفوذاً في البلاد، لم يكن هناك سوى القليل في طريق أبراموفيتش عندما بدأ حياته السياسية عام 1999. حيث تم انتخابه كعضو في مجلس الدوما الروسي كممثل عن مقاطعة تشوكوتكا المتمتعة بالحكم الذاتي.

مع تسلم بوتين زمام السلطة بدعم من يلتسين، أخذ وعدًا

بتحطيم

أصنام الأوليغارشية وإعادة ثرواتهم إلى كنف الدولة. واحدًا تلو الآخر تم إسقاط رجال الأعمال الطامعين في السلطة أيضًا بعد عدم اقتناعهم بقدرة بوتين بالسيطرة على البلاد وتشكيكهم في قوته المحلية.

أصبحت حياة الأوليغارشية الروسية محفوفة بالمخاطر، لكن أبراموفيتش أدرك مبكرًا تلك الجدية والقسوة في وجه بوتين، وبسرعة وقف بمحاذاة الرئيس الجديد للبلاد، وقدم الولاء المطلق للحفاظ على ثرواته ومكانته من خلال مساهمته بملايين الدولارات في مشاريع لخدمة البلاد.

استلم رومان منصب حاكم ولاية شوكوتكا كمكافأة على دعمه للرئيس. لكنه ترك منصبه بعد 7 أعوام ورفض طلبًا مشابهًا مسبقًا قبل عامين من قبل الكرملين. وفي 2006

اعترف

الملياردير الروسي بأن الخوف من تلقي مصير مشابه للذين رفضوا التعاون مع الرئيس قد لعب دورًا في قرار قبوله للمنصب مستشهدًا على ذلك بمثل روسي يقول:

لن تكون في مأمن أبدًا من السجن والفقر.


نحو المزيد من الاستقلالية

منذ بداية هذا القرن، يعد مالك نادي تشلسي «رومان أبراموفيتش»، أحد الرجال القلة المقربين لبوتين، واحدًا من أغنى الرجال في روسيا وفي العالم. نقيضًا لتلك الثروة والشهرة حاول البقاء في الظل وأن يكون في الخلفية وليس في موقع الضجة.

في عالم الأعمال التجارية يَعتبر أصحاب الثروات أن النجاح لا يجعلك معروفًا بالضرورة، بسبب افتقادهم للشهرة الاجتماعية والاهتمام الإعلامي بعيدًا عن الشك والريبة، لذلك قرر رومان خوض تجربة جديدة عام 2003 بشرائه لنادي تشيلسي الإنجليزي.

رومان أبراموفيتش

عن

امتلاكه للأموال.

أسباب شراء أبراموفيتش لنادي تشيلسي تبقى غامضة نظرًا لطبيعته السرية المتكتمة. هو بمعزل عن تلك الأموال، رجل خجول هادئ لا يتحدث للإعلام إلا فيما ندر. لكن شراء تشيلسي يبقى مرتبطًا بفكرة الحفاظ على ثروته خوفًا من انقلاب حاكم الكرملين عليه في يوم من الأيام كما فعل مع أقرانه الآخرين.

خطوة تعتبر منطقية وفقًا للعقلية التي انتهجها منذ بداية ظهوره. فكرة القدم أكسبته صورة نقية لا تشوبها التكهنات، وفي الوقت ذاته جعلته شخصية بارزة في جميع أنحاء العالم. كانت هذه الفكرة أفضل تأمين على الإطلاق يمكن أن يحصل عليه، فقراره بالعيش في المملكة المتحدة كان ذكيًا بما فيه الكفاية لفهم أنه لا يستطيع تهييج بوتين ضده، وكذلك من أجل الحفاظ على ثروته في الوقت ذاته.


الخوف دافع جيد للهروب

بعد عامين من شرائه للنادي الإنجليزي

قرر

الروسي بشكل أو بآخر بيع آخر أعماله التجارية المهمة في روسيا. ففي عام 2005 أعلنت جازبروم أكبر شركات الغاز العالمية والتابعة للحكومة الروسية، شراء حصة رومان أبراموفيتش في شركة سيبنفت النفطية مقابل 13 مليار دولار، وبهذا لم يبق الروسي على أي أصول تجارية كبيرة في بلاده.

رغم تخلي الروسي عن منصبه الحكومي في بلاده ومغادرته للبلاد، فإنه حافظ على علاقة جيدة مع رئيس البلاد. فكان قد استثمر في أكاديمية كونوبليوف لكرة القدم لتجهيز جيل كروي روسي قادر على المنافسة في المحافل العالمية. والأكاديمية نفسها كانت

مسئولة

عن دفع راتب المدرب الهولندي غوس هيدينك عندما كان مدربًا للمنتخب الروسي.


بالإضافة لذلك، كان أبراموفيتش ضمن الوفد الروسي المسافر إلى زيوريخ عشية التصويت على استضافة حقوق المونديال في عام 2010. وبعد نيل الروس شرف الاستضافة،

طالب

بوتين صديقه القديم بفتح محفظته من أجل مساعدة الحكومة الروسية في نفقات تجهيز الملاعب والبنى التحتية.


الجريمة والعقاب

هل يشتري المال السعادة؟ لا يمكن أن يشتري لك السعادة. يمكنه أن يمنحك بعض الاستقلال بالطبع.

في الكثير من الحالات المشابهة يعتقد البعض أن هذه الاستثمارات لا تتعدى نشاطًا إجراميًا لشبكات غسل الأموال. يبدو هذا الأمر غير وارد على الإطلاق. من المحتمل أن بعضهم يشتري صداقة بلد ما عن طريق شراء نادٍ، ويعتقد أنه يستطيع حماية مستقبله من خلال كرة القدم.

لكن يبدو أن مراجعة التأشيرات الممنوحة للأغنياء الروس من قبل السلطات البريطانية تعترف بالدور المزدوج الذي يلعبه الأوليغارشيين في المملكة المتحدة، والذين يكونون أقرب إلى مبعوثين حكوميين من أجل تحقيق طلبات من الإدارة الرئاسية الروسية في الخارج. البيئة الاستثمارية المفتوحة في الدوري الإنجليزي خير وجهة لهذه الغايات.