يومًا بعد يوم يقترب العالم من حالة الفوضى الشاملة التي تنذر بحدوث حروب مدمرة بسبب الضغوط المتزايدة للأزمة الاقتصادية العالمية، وتبادل الاتهامات العلنية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بشأن المسئولية عن انتشار فيروس كورونا، فمنذ أواخر العام الماضي شهد العالم تغييرات كبيرة على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومعظم هذه التغييرات نتجت من تزايد المخاوف من الفيروس القاتل، والمخاطر المحدقة بطبيعة الأنظمة السياسية التي تلجأ إلى أساليب استبدادية وشمولية بما يؤثر على الحريات العامة والخاصة في إطار الحرب على فيروس الكورونا المستجد.

فشل الشمال والجنوب

«جائحة الفيروس التاجي ستغير إلى الأبد النظام العالمي»، هذا ما يراه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في مقالته بصحيفة وول ستريت جورنال، وتأتي هذه الرؤية في وقت ظهرت فيه عدم فاعلية التصدي والمواجهة مع الفيروس القاتل في أغلب دول العالم بما فيها الدول المتقدمة.

فتشير الإحصائيات إلى أن ثلاثة أرباع حالات كوفيد 19 موجودة في دول الناتو التي يفترض أنها كانت من بين الدول الأكثر قدرة على المواجهة، ورغم إغلاق دول الاتحاد الأوروبي لحدودها، وتخزينها للمعدات الطبية الحيوية، أصبحت مستشفياتها غير قادرة على إنقاذ المرضى المصابين بالفيروس أو الأمراض الخطيرة الأخرى، وعندما طلبت إيطاليا وإسبانيا المساعدة من جيرانها الشماليين الأكثر ثراءً والأكثر قدرة على المساعدة في مثل هذه الظروف لم تجد المساندة والدعم المتوقع.

وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، ألقى الرئيس دونالد ترامب وإدارته اللوم على الصين في الكارثة الاجتماعية والاقتصادية التي تكبدتها الولايات المتحدة بسبب الجائحة بعد وفاة أكثر من 63 ألف أمريكي في غضون شهرين، وإصابة أكثر من مليون شخص بما يمثل ثلث إجمالي المصابين في العالم، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى 30 مليون أمريكي تقدموا لطلب إعانة البطالة خلال الأسابيع الستة الأخيرة.

بينما أصبح الوضع كارثيًا في دول الجنوب النامية حيث تزايدت أعداد المصابين والوفيات بالفيروس رغم الإجراءات الاحترازية التي تتبعها الحكومات وعلى رأسها اتباع سياسة الإغلاق وحظر التجول لمدد متفرقة، وفرض الحجر المنزلي على قطاعات واسعة من المواطنين الذين ليس لديهم أي فرص عمل منتظمة ودائمة، وهذه الدول تعاني من تزايد معدلات الفقر والبطالة في الظروف العادية، فجاءت هذه الجائحة لتزيد من المعاناة الإنسانية لشعوبها التي تعاني من ضآلة الإمكانيات والخبرات وخاصة في المجال الصحي الذي يعجز عن تلبية الاحتياجات العلاجية في معظم البلدان.

عصر الإرهاب البيولوجي

منذ بداية انتشار الفيروس في الولايات المتحدة أظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عداءً صريحا للصين، وأطلق اسم «الفيروس الصيني» على كوفيد-19، وروج ترامب لمؤامرة أن الفيروس التاجي المميت تم إطلاقه من مختبر في مدينة ووهان حيث ظهر تفشي المرض لأول مرة في ديسمبر الماضي، وأكد ترامب لوسائل الإعلام الأمريكية أنه شاهد أدلة تدعم اتهاماته، لكنه رفض تقديم تفاصيل، وهناك تقارير تفيد بأن إدارته تضغط على وكالات المخابرات الأمريكية للعثور على صلة بين الفيروس ومعهد ووهان للفيروسات، الأمر الذي يذكرنا بأجواء كارثة الحرب على العراق بدعوى التخلص من أسلحة الدمار الشامل العراقية في عام 2003.

في المقابل نجد أن الصين على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها تلمح إلى احتمال إحضار الجيش الأمريكي الفيروس إلى ووهان خلال الألعاب العالمية العسكرية في أكتوبر الماضي، ومن المعروف أن كل القوى العسكرية الكبرى تنفق مبالغ هائلة لتطوير أسلحة بيولوجية من مختلف الأنواع، ويتم تنفيذ برامج الأسلحة البيولوجية هذه دائمًا بدعوى أنها لأغراض «دفاعية»، والحقيقة أن برامج الحرب البيولوجية يتم تنفيذها لأغراض هجومية أيضًا، وتخشى البشرية من حدوث تبادل لإطلاق الأسلحة البيولوجية بما يمثل خطرًا هائلاً ويدخل العالم في عصر الإرهاب البيولوجي المخيف والمدمر.

سطوة الأخ الأكبر

بالرغم من تزايد مخاطر انتشار الفيروس وتوقع موجات جديدة منه، ظهرت دعوات تشكك في خطورة الفيروس وعدم دقة البيانات التي تنشرها الحكومات، وترفض سياسة الحجر والإغلاق والمراقبة الإلكترونية، ومراقبة مناطق الحجر الصحي باستخدام الطائرات بدون طيار، وتتبع ومراقبة جميع البشر عبر الهواتف المحمولة، ويعتبرون هذه الإجراءات فرصة لفرض سطوة الدول على حريات الأفراد ويصفونها بالحرب على الحريات المدنية، بما يؤدي إلى زيادة القبضة البوليسية التي اجتاحت العالم بدعوى الحرب على الفيروس وعودة سطوة الأخ الأكبر على العقول والقلوب.

في هذا السياق انتشرت مؤخرًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، شركات مثل VSBLTY للترويج لشبكة مراقبة في كل مكان بكاميرات CCTV، مع القدرة على قياس ضربات القلب ورصد التباعد الاجتماعي دون أي قيود قانونية أو تشريعية.

فيما أغلقت الحكومات في جميع أنحاء العالم مجتمعاتها وتحلم بسن تشريع لوقف انتشار «التضليل الخاطئ الخطير» حول الوباء. ويدعو النائب البريطاني داميان كولينز إلى مثل هذه الإجراءات لإسكات حرية التعبير في المملكة المتحدة.

وفي كندا، تفكر الحكومة في تقديم تشريع لتجريم نشر المعلومات الخاطئة التي يمكن أن تضر الناس، كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس إلى إطلاق «مبادرة جديدة للأمم المتحدة للاستجابة للاتصالات لإغراق الإنترنت بالحقائق والعلم مع مواجهة آفة المعلومات الخاطئة المتزايدة».

نظام عالمي جديد

بعدما هيمن النظام العالمي الحالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات الدول والشعوب، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية عصر الحرب الباردة، وظهرت مساوئ هذا النظام وعدم قدرته على مواجهة كارثة إنسانية بسبب لجوء الدول إلى تطبيق سياسيات انعزالية وفرض إجراءات احترازية لمنع تفاقم الكارثة بعيدًا عن التعاون البنّاء والمشترك بين الدول لحماية مواطنيها.

لقد شاهدنا خلال الشهور القليلة الماضية حالات مؤسفة لدى بعض الدول مثلما حدث خلال سرقة شحنات من الأدوات والأجهزة الطبية كانت في طريقها لدول أخرى، لقد كشفت هذه السلوكيات عن فظاعة النظام العالمي الذي نعيش في ظله، ويفرض على الجميع العمل من أجل بناء وتأسيس نظام عالمي جديد يقوم على التعاون لا المنافسة الشرسة والتضامن لا النزاعات المدمرة. إن الأزمة الحالية تحتاج لتكاتف الجميع بدلاً من الانزواء خلف الشعارات الشعبوية الزائفة التي يطلقها الساسة خادمو مصالح الشركات الاحتكارية العالمية وتخدع بها الملايين الذين يهددهم الفقر والجوع والبطالة.

نحتاج إلى نظام دولي جديد يوقف توحش النظام الحالي الذي يحكم العالم لمصلحة الشركات الاحتكارية الكبرى التي تضع أرباحها قبل أرواح البشر، بما يؤدي لزيادة الفقراء فقرًا بينما تتراكم الثروات لدى حفنة قليلة من البشر، نظام جديد يضع الأرواح البشرية قبل الأرباح. اليوم، أصبح العالم بحاجة إلى نظام جديد يحترم بحق المساواة والعدالة بين الأمم والشعوب ويضمن حقوق الإنسان في كل مكان.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.