في أولى حلقات برنامج «الدماغ» يسرد لنا «

چيب
كورليس

»، متخصص تسلق الجبال والقفر بالمظلات، عن تلك المرة التي أفلت فيها
أثناء دورة طيرانه وارتطم بكل سرعته البالغة 120 ميلًا/الساعة بحجر جرانيت مسطح
صلب أعلى الجبل، وهوى في السماء، ثم ظل دقائق عدة يحاول معالجة حبل مظلته قبل أن
يتمكن من الوصول للحبل فعلًا وسحبه، لكن تأخيره هذا ساهم في ارتطامه بالأرض، فيحكي
أن عملية إنقاذه استغرقت أسابيع… أسابيع كاملة قام خلالها فريق الإنقاذ بحمل
كورليس ونقله إلى المستشفى.

قد يُشكِّك البعض في منطقية الأمر، نتيجة وجود بعض الفجوات في القصة، لذا بالرجوع إلى دليل مادي ملموس مثل تسجيل الكاميرات، نجد أن اللحظة المنقضية ما بين ارتطام كورليس وسحبه لحبل المظلة لم تستغرق دقائق كما حكى، وإنما مرت 6 ثوانٍ فقط، وأن تلك الأسابيع التي مرت عليه وفريق الإنقاذ يحاول تهيئته ونقله، لم تكن أسابيع، بل استهلك الأمر فقط ساعتين ونصف، لكن كورليس لا يُلام على شيء، لأنّ دماغه رأت الأمر كذلك فعلًا، وشعر بالزمن بتلك السرعة كما وصف ولم يكن يبالغ.

رجاءً لا تنتحر قفزًا من أعلى المبنى

في الحقيقة لم تكن تجربة «چيب
كورليس» غريبة من نوعها، فحتى مقدم برنامج «الدماغ»، عالم الأعصاب «ديفيد إيجلمان»،
الذي أجرى الحوار مع كورليس، ذكر أنّه مرّ بشيء مشابه كثيرًا.


يقول إيجلمان

إنّ في طفولته حدث أن سقط من أعلى مبنى منخفض الطوابق، وشعر بازدياد زمن سقوطه على نحو غريب، الأمر الذي جعله ينتظر بشوق فصل الفيزياء في المرحلة الثانوية حتى يحسب بدقة زمن سقوطه الطويل جدًا هذا، وفي درس الجاذبية حسب إيجلمان زمن السقوط، الذي اتضح وقتها أنّه ثمانية أعشار جزء من الثانية (0.8 ثانية) فقط.


يتباطأ إدراك دماغنا وقت الخطر. حين ينتحر بطل الفيلم قفزًا من أعلى المبنى، ثم يُعرَض المشهد بتقنية الحركة البطيئة، ويمر وقت طويل نسبيًا، يستعرض خلاله البطل كافة أحداث حياته التي على وشك الانتهاء، قبل أن يرتطم معلنًا نهايتها. كل هذا ليس خيالًا من كُتّاب السيناريو، بل هذا ما يحدث فعلًا لأي شخص من شأنه أن يسلك نفس السلوك.

ما الذي يحدث داخل الدماغ؟


يُفسّر بعض العلماء

سبب ما يحدث على
أنّه «خدعة نفسية/ عصبية»، طوّرها أجدادنا وقت الخطر والطوارئ، كآلية للبقاء، إذ
يُمكّن إبطاء الزمن الإنسان من إعداد نفسه وتغيير موضعه لانتقاء الإجراء المناسب
الذي يقوم به تاليًا لتجنب تلك الفاجعة، ويدعم فرضية التطور التكيفي تلك عدة
بلاغات قدمها الناس عن مرورهم بهذا الإبطاء قبيل كوارث مهددة لحياتهم، مثل الزلازل
وحوادث ارتطام الطائرات.

كان الوضعُ أشبه بفيلم بطيء الحركة. كانت الصفائح الخرسانية تتساقط ببطءٍ شديد.





إحدى الناجيات من زلزال أرمينيا عام 1988، واصفةً عملية الإبطاء الزمني وقت حدوث الزلزال.

حتى الآن لم يتأكد العلماء من
أسباب ذلك التفسير، وهل هو السبب فعلًا أم مجرد نتيجة؟ بمعنى هل حقًا يقوم المخ
وقت الخطر بجمع الكثير من المعلومات مما يعطي شعورًا مزيّفًا ببطء مرور الوقت؟ أم
بالمقام الأول يقوم المخ بإبطاء إدراك الزمن مما يساهم في استقبال قدر أكبر من
المعلومات؟

لسنا ندري بعد. لذا لا يعدّ ذلك
السبب لتفسير التباطؤ مفهومًا بالكامل.

ثمة نظرية أخرى تُفسّر الأمر
اعتمادًا على تزايد المستقبلات الحسية أو على ذاكرتنا الاسترجاعية للحدث. الجيّد
في الأمر أنّها تفسّر تباطؤ الزمن عمومًا وليس فقط وقت الخطر، فكيف يمكن أن يتشابه
الأمران؟

التجارب الحسية وتأثير الكرة الغريبة Oddball Effect

ماذا يحدث إذا أدخلت بيانات غير
متوقعة إلى

جهاز الحاسوب

؟

بالضبط سيتوقف عن العمل.

يعمل دماغ الإنسان بطريقة مغايرة
تمامًا لهذا الأمر، فحين يواجه العقل البشري مستقبلات غير متوقعة، فإن كفاءته
تزداد ويبدو أنّه يدرك تلك البيانات كشيء ذي أهمية قصوى.

عند اختبار تلك الظاهرة للمرة الأولى بحثيًّا، استخدم العلماء نموذجًا مُتعارفًا عليه في علم النفس، «نموذج الكرة الغريبة»، وهو نموذج يعتمد على تعريض الإنسان إلى محفزات دون أن تتم مقاطعته بمنبهات أخرى، وسجل العلماء وقتئذ استجابات كهربية سريعة للغاية كرد فعل لتعرض المشاركين في التجربة لحافز غير متوقع. وقد أطلق العلماء على ظاهرة نشاط الدماغ الزائد نتيجة تعرضه لحافز غير متوقع، اسم «ظاهرة الكرة الغريبة».

متلازمة العطلة Holiday Paradox

أتتذكر المثل القائل إن الوقت يمر
أسرع حين نكون سعداء؟


لا يعترف العلم

بذلك، بل يؤكد «تأثير
الكرة الغريبة»، أن الزمن يطول حين تدخل عقولنا في حلقات الاستمتاع وينكمش وقت
التوتر والروتين.

لاختبار تلك الظاهرة، أجرى العلماء تجربة عام 2004، حيث جلس المشاركون أمام شاشة عرضت عليهم صورة لـ «حذاء» عدة مرات، تلاها صورة «وردة»، ورغم أنّ الحذاء والوردة عُرضوا لنفس الفترة من الزمن، إلا أنّ أغلب المشاركين ذكروا أن الوردة عُرضت لفترة أطول، وذلك لأن الوردة أعطت دماغهم تجربة جديدة وشيئًا جميلًا يُعالجه دماغهم.

يختبر دماغنا الزمن بطريقتين:

  • الأولى: أثناء
    مرور الحدث نفسه، ويعرف باسم Prospective Time أو الزمن المرتقب.
  • الثانية: بعد
    انقضاء ذاك الحدث، وتُسمّى Retrospective Time أو الزمن الاسترجاعي.

حين يمر الإنسان بوقت سعيد، يختبر
الكثير من التجارب الممتعة التي تُلهيه عن إدراك الزمن، بمعنى أنّه كان مستمتعًا
للحد الذي جعله لا يأبه للشعور بالزمن، لذا فأثناء العطلات مثلًا يشعر الإنسان أن
الوقت -المرتقب- يمر سريعًا، بينما لدى العودة للدراسة واسترجاع ذكريات العطلة
بتفاصيلها المزدحمة، تتكاثر الذكريات داخل عقولنا وتوحي لنا أن تلك العطلة كانت
طويلة جدًا، وأن الوقت -الاسترجاعي- كان بطيئًا للغاية. تُعرَف تلك الظاهرة بـ «

مفارقة العطلة

»، وهي أن تشعر
أن العطلة كانت طويلة وقصيرة في الوقت ذاته.

لماذا يمضي الزمن سريعًا كلما تقدمنا في العمر؟

من منّا لم يلحظ سرعة مرور الوقت
حاليًا بالنسبة لبطء مروره في مرحلة الطفولة؟

لا شك أن كلنا فعلنا ذلك. يعتبر علماء النفس الأمر حقيقة حتمية، إلا أنهم لا يجدون لها تبريرًا، وكل محاولة من جانبهم لتفسير الأمر لا تعدو عن كونها مجرد فرضيات.

أحد تلك الفرضيات تقول إنّ لدى الأطفال ارتفاع في ضربات القلب ومعدل التنفس، ولا يُستبعَد كون معدل سريان الإشارات الكهربية في المخ مرتفعة هي الأخرى، ومع تقدّم الزمن وتباطؤ معدل ضربات القلب ونشاط المخ كذلك، يتباطئ إدراك الطفل للزمن كذلك، ويبدو شعوره أنّه يمر سريعا.


نظرية أخرى

تذكر أنّ فترة
الطفولة رغم كونها تشكّل 10% فقط من حياتنا، إلا أنها تمثل نحو 15-20% من حجم
ذكرياتنا الواعية، ويرجع ذلك إلى التنوع الهائل الذي يُصاحِب الطفل في كل سنة من
حياته؛ من أيام دراسية ودرجاته في الصف وعطله المدرسية. وذلك على عكس الإنسان صاحب
الـ 50 عامًا، تجاربه مُكررة في الحياة للحد الذي يجعلها لا تمثّل سوى
نحو1-2% فقط من المساهمة في ذاكرته.

يكمن السر في العيون: فرضية بيچان

عام 2019 قدّم بروفيسور «

أدريان بيچان

» مساهمته في الموضوع اعتمادًا على البيولوجيا والفيزياء معًا، فقد لجأ في تفسيره إلى عملية معالجة النواقل العصبية، فيفترض أنّه بمرور الزمن يتباطأ معدل معالجة المعلومات البصرية. كلما تقدمنا في العمر، يزيد حجم وتعقيد شبكات العصيبات في أدمغتنا، ما يعني أن الإشارات الكهربية ستضطر إلى قطع المزيد والمزيد من المسافات، مُسبِّبةً زيادة في الوقت المستغرق لمعالجة البيانات التي تحملها، كما أنه مع مرور العمر، يزيد حجم الضرر الذي يصيب الأعصاب، ما يُسبب مقاومة أعلى على سريان الإشارات الكهربية، فيؤول إلى نفس النتيجة.

يؤدي تباطؤ معالجة المعلومات
البصرية إلى قلة عدد المعلومات التي يمكن أن يعالجها المخ في الثانية، وبالتالي
قلة عدد المتغيرات التي تطرأ في الثانية الواحدة وبالرجوع لظاهرة الكرة الغريبة،
يعني هذا إدراكًا أسرع للوقت.

نسبية الزمن بين الفيزياء وعلم النفس

قد يتعجب البعض من نسبية إدراكنا
للزمن، إذ كيف يمكن أن يختلف معدل مرور الزمن اعتمادًا على تغيرات معينة؟ أو ليس
الزمن كيانًا مستقلًا

في الواقع لا هو ليس كذلك. أتت نظرية النسبية
لأينشتاين بصدمة فريدة من نوعها، حين ذكرت أن الزمن نسبي كأي شيء آخر، وأن حالة
المراقب تُغيّر من سرعة إدراكه لهذا الزمن،

فمرور
10 سنوات

على الأرض سيُعادل مرور 3.12 سنة فقط على
متن مركبة فضائية تتحرك بنحو 95% من سرعة الضوء، فزيادة سرعة تحرّك مراقب الزمن
تزيد من سرعة إدراكه للزمن والعكس بالعكس.

كذلك فإن وجودك بالقرب من

مصدر قوي للجاذبية

، كثقب أسود أو
على سطح كوكب جاذبيته أكبر من جاذبية الأرض، سيُسرّع من إدراكك لمرور الزمن لديك.
فعلى سبيل المثال مرور ساعتين عندك يعادل مرور سنين على الأرض. تُعرَف تلك العملية
باسم «تمدّد الزمن»، وهي تشرح –فيزيائيًا- تباطؤ الزمن لدى زيادة الحركة أو الجاذبية
بالنسبة للزمن على الأرض.

يبدو أنّ الزمن مفهوم معقد، وأن
محاولاتنا لسبر أغواره ستفتح آفاقًا أخرى على مصراعيها. ربما فيما يخص الزمن لن
نتفق سوى على اختلافه، فالزمن نسبيٌ تمامًا، سواء على المستوى الفيزيائي أو على
مستوى تجاربنا اليومية.

ربما تجلس مع صديقك في نفس المكان وتشعر بالزمن يمشي ببطء، بينما يمر لديه سريعًا، لكننا على الأقل الآن أصبحنا نمتلك بعض الأسرار، وبتنا نعلم أن تغيير الروتين يُبطِّئ من عملية سير الزمن لدى عقولنا، وأن تلك اللحظات السريعة التي نشعر خلالها أنّ الزمن يمر بسرعة سنتذكر طولها لاحقًا، لذا دعنا نُنحّي تركيزنا مع الزمن جانبًا، ونُركِّز فقط على لحظتنا الحالية، ونستمع جميعًا إلى النصيحة المكرّرة جدًا: «ركز فقط على اللحظة الراهنة»، فهي الحقيقة الوحيدة التي ستُمكِّننا من التخلص من تأثير تسارع الزمن في اللحظات الممتعة، وتباطؤه وقت الحزن، وقتها فقط يمكننا الإفلات من نسبية

أينشتاين حين قال

:

‏ضع يدك على صفيحٍ ساخن لمدة دقيقة وستشعر أنها ساعة. اجلس مع محبوبتك لمدة ساعة وستشعر بأنها دقيقة، تلك هي النسبية.