في القرن الثلاثين ربما سيقف البشر أمام لفظة الوعي وينظرون إليها من زاوية مختلفة، وربما أنهم سيكونون مثلنا متسمرين على ذات النطاق من التفكير حول هذه اللفظة التي ترتبط بشكل أو بآخر بمفهوم الإدراك والتفكير وإعمال العقل، وبشكل عام ينبغي أن نحاول أن نستفيد من فرصة الحياة في هذا القرن بشكل جيد بأن نحاول أن ننظر إلى هذا المفهوم من زاوية مختلفة.

أمام رفوف المكاتبة تصطف أسماء المفكرين والفلاسفة الذين حاولوا أن يشرحوا هذا اللفظ بشكل منهجي، وذهب كثير من أولئك الفلاسفة إلى أن الوعي هو قدرة المرء على إدراك واقعه من خلال عنصري المعرفة والشعور، بينما رجح بعض المفكرين ربط الوعي بجانب إعمال العقل بشكل رئيسي. وبشكل عام يعتبر الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي ذاته كما يرى هيغل، هذا الوعي الذي يشكل الإنسان يرتبط بجانب معرفته المتحصلة من التعليم بأنواعه ومن خلال التجربة والتراكم المعرفي الذي حدث عبر تعاقب الأجيال البشرية منذ فجر التاريخ.



ترتبط حدود الوعي البشري بعدة جوانب أهمها ربطها بالأحداث التاريخية والتحولات الحضارية التي شهدتها الحضارة البشرية

لكن من أجل فهم كيف يتم بناء هذا الوعي وما هي حقيقته، يُنظّر ديكارت إلى فلسفة الشك التي من شأنها أن تعيد الإنسان إلى نقطة الصفر ليعمل قدراته العقلية مجددًا وليستخلص النتيجة الأكثر صحة بما يتناسب مع التغيرات التي ظهرت في عصر ما، بحيث لا تتوقف مرحلة التفكير عند مسلمات يمكن اختبارها والتأكد منها من خلال التطور العلمي الذي تشهده الحضارة البشرية بشكل مستمر، وعن طريق الشك يمكن أن نصل لليقين الذي يساعد الذات على أن تفهم واقعها بشكل أفضل كما يرى ديكارت.

ويميز كانط بين المعرفة والوعي بالذات، إذ أنه يرى أن وعي الذات لنفسها كوجود أخلاقي لا يعني بالضرورة وعيها المطلق بالأشياء التي تحيط بها؛ لأن الإنسان حتى الآن لا يزال يجهل (النومينات)؛ أي حقيقة الأشياء في ذاتها، وبالتالي فإن إدراكه لها يظل إدراكًا نسبيًا.

وترتبط حدود الوعي البشري بعدة جوانب أهمها ربطها بالأحداث التاريخية والتحولات الحضارية التي شهدتها الحضارة البشرية، ففي حين نلاحظ أن بعض المفكرين والفلاسفة ركزوا بشكل كبير على تأثير الجانب الأخلاقي والفني في بناء الوعي بشكل عام، ركز البعض الآخر على الجانب الاقتصادي والاجتماعي. ومن هؤلاء المفكرين كارل ماركس الذي يرى أن وعي الناس ليس بالضرورة أن يشكل وجودهم الاجتماعي وإنما العكس، بمعنى أن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم، فالناس الذين ينتمون إلى طبقة الفلاحين سيتحدد وعيهم بالمستوى الاجتماعي الذي ينتمون إليه، على عكس طبقة النبلاء التي سيتشكل وعيها بشكل مختلف كونها تنتمي إلى طبقة أخرى.

غير أن ماركس لا يرى أن تاثير هذا الوعي بحدوده المتباينة ليس بالضرورة أن يكون سلبيًا لوجود علاقة جدلية بين الوعي والواقع، إذ أن (الوعي الصحيح) بإمكانه أن يساهم في تغير الواقع. هذا الوعي لا يقتصر على طبقة النبلاء وإنما يرتبط بقدرة بعض الأفراد على استشعار مشاكل الواقع والسعي لحلها من خلال التأثير على الآخرين، بينما يكون دور الوعي سلبيًا تجاه الواقع في حال كان هذا الوعي مزيفًا؛ إذ أنه يعمل على تكريس الواقع بأخطائه.

وعلى النقيض تمامًا يأتي رأي نيتشه الذي يرى أن الإنسان يستطيع أن يعيش بمعزل عن الوعي؛ لأن الإنسان هو من يشكل هذا الوعي من خلال تشكيله للغة وذلك ليحمي نفسه من طبيعة الصراع التي تغلف الحياة؛ ومن ثم يكون نمو اللغة والوعي متلازمين، وهكذا يخلق الإنسان لنفسه أوصافًا تؤطر الحياة كمفهوم المسؤولية والواجب ،..إلخ، لكنها في حقيقة الأمر ليست سوى من صنع الإنسان والتي ستتغير بتغير الظروف والمراحل التاريخية.

من جهته يرى عالم النفس فرويد أن الوعي منفردًا لا يكفي لفهم هذا الواقع والتفاعل معه؛ إذ أننا إذا اعتمدنا عليه في فهم طبيعة هذه الحياة لن نتمكن من فهمها بشكل صحيح وذلك لوجود تأثير المشاعر التي هي مستقلة تمامًا عن الوعي، لكنها تساهم إلى حد ما في تشكيله من خلال الخبرات التراكمية التي تشكل الوعي.

وبشكل عام يعتبر مفهوم الوعي أحد المفاهيم الجدلية حتى الآن، لكن ينبغي أن ننظر إليه بشكل عميق حتى نتمكن من فهم طريقة بنائه وتشكيله لواقعنا، وبالتالي نصبح قادرين على تجاوز محنة التأخر الحضاري الذي نعيشه حاليًا كشعوب عربية وإسلامية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.