مرّ وقت طويل منذ أن قررت أن القضايا الكبيرة لا تخصني، بخاصة وأن دائماً ما يكون رأيي موجوداً على الساحة، يحمله بعض من البشر، يكثرون أحياناً، ويظهرون كفئة مندسة في وقت آخر تعبر عما بداخلي من غضب عارم أو محبة غامرة، لكن هذه المرة لم يقل أحد ما عمُر عقلي من حزن ونور، والسبب بديهي هذه المرة وواضح. السبب أن «هذه الحكاية حكايتي».

قنبلة اليورانيوم الشافية

كنّا أكثر جهلاً من إدراك أي شيء غير أن الكارثة حلّت بنا، من وقتها إلى الآن حافظت على جهلي ومرارتي من السرطان. كان صوت أمي خافتاً وقوياً وهي تعلن الخبر، وغاب هو عن نظرنا. لا نذكر يوم علمنا إلا يقول: «توقعت أن أموت بمرضٍ آخر»، يومها وقبل سنتين من مغادرته أعددت نفسي للشيء المُسمى الموت.

المرض الوحش… لم تكن لدي فكرة كاملة عن الأمر: ما الذي تضرر؟ وكيف سيحدث الأمر؟ كيفية العلاج ومدى قدرتنا على تسكين الألم إذا حل؟ هذا ما جال بخاطري. لم يكن بيننا في العائلة أي طبيب، كنّا جماعة من العميان الذين لا يعرفون شكل النار، ولكن يرتعبون من حرارتها.

كان الأطباء لا يردون على أسئلتنا، ونحن لم نكن نعرف ما هي الأسئلة التي علينا تلاوتها. لذلك كان «محمد أبو الغيط» عيني على عالم لا أعرفه. منشوره الأول التفصيلي عن الإصابة بالمرض مفاجأة بالنسبة لي، غير أنه كان صدمة حزينة بطبيعة الحال.

تفاجأت أن بعض الناس يسألون عن أدق التفاصيل ويعلمون كل شيء عن عدوهم، هو طبيب، لذلك كان على علم بالمأساة، ولذلك فتحليه بالأمل والواقعية أمر مرير، هو يعرف تحديداً من أين تأتي الضربة. يسمع همس الصوت بسماعة طبيب، لا بقلب منكسر مثل «بابا».

إنه يُشرِك الناس في جسده وفي روحه وفي انتظاره لموته، يقول لهم إنه سيرحل قريباً ويُدوِّن رحيله، لا بالتراجيديا ولا بالرومانسية بل بالحقيقة. كان مُذهلِاً وصادماً، يحكي عمّا يأكل وفي ما يفكر وأهمية إسراء في حربه اليومية.

كل تدوينة له رسالة مهمة؛ أنا على قيد الحياة، كل ثانية، هناك ضيف ثقيل من حديد، وعلى الجانب الآخر هناك نحن ننتظر احتلاله لنا، ولكن هناك لحسن الحظ، نبلة بدائية، وهي بالتأكيد لن تردع العدو، ولكنها سلاحنا الوحيد، ونحن حتى الحجر الأخير سنظل متمسكين بها.

في الحقيقة لم يكن كذلك الأمر، لم يكن المجاز يغطي محمد، هناك نهار وليل وجوع وعطش ومشاعر وأماكن وهموم وعمل. هناك 24 ساعة تأتي كل يوم، وهذه فضيلة «أبو الغيط» لمرضى السرطان ومن حولهم. رسالة جاءت متأخرة، بعد سنوات طوال من سماعي بحلول الكارثة فوق رؤوسنا.

وقتها لم نعرف ما يتوجب علينا فعله، ولكننا فعلنا كل شيء بمنتهى الحماسة والصدق. حتى الشعور باليأس كان حقيقياً. خضع أبي للعلاج فترة غير قصيرة، للأبد، وفي الحقيقة أن أمر مثوله للعلاج كله كان مفاجئاً بالنسبة لي، توقعنا أن يستسلم، لكنه قال إنه لن يترك النبلة على الأرض، كلاهما مَثُل العلاج، ولكن أبو الغيط كان أقوى، مد عمره بيده، فكّر في البقاء وقتاً أطول، كتب لنفسه موعد زيارة للخلود ونجح، وأنا أيضاً، منحت نفسي لمرة واحدة فقط زيارة للمركز الذي قصده أبي «عمرو عبد العزيز لعلاج الأورام». كنت طالباً في الجامعة، وأعلم أن الأبيض رداء الموت، لأن أمل دنقل أخبرني ذلك، تنبعث كثرة الأضواء والبياض. الأضواء التي فضحت خوار أبي، يبوس وجهه، توهان عيناه ما بين اليأس والأمل.

تُسلِّمنا الممرضات للطريق، ويُسلِّمنا الطريق لغرفة يعرف هو وأمي أنها نهاية الطريق. يجلس ويُجهِّزونه ويحقنوه ويوصلون عروقه بكرة مُغطاة بورقة قصدير. خرجت أنا وأمي للطبيب وتركناه. سألتُ أمي عن كرة القصدير، فأجابت يغطونها لأنها مادة مشعة؛ لا أعرف مدى صحة ادعاء أمي، لكني بيني وبين نفسي قلت يحقنونه بقنبلة يورانيوم، إنهم يقتلونه، ولكن حسناً من الجيد أن هناك طريقة لخلاصه. أخذنا الأشعة وسألت: «هل تحسّن؟»، رد الطبيب المساعد، الذي لم يرفع عينيه عن الأشعة: «الوضع صعب».

أقرأ حوارات أبو الغيط مع الأطباء، وأقول في النهاية ورغم التفاصيل وكثير المعرفة والمعلومات، لم يكن الاختزال مُضراً أو مُشوهاً للحقيقة، الحقيقة التي هي دائماً أن «الوضع صعب».

لم أسأل أو أبحث عن هذا المرض، أصدرت دار أوكسفورد مقدمة قصيرة جداً عن السرطان وجدتها في مكتبة الشروق في ميدان طلعت حرب، ووقفت أمامها ولم أمد يدي. من وقتها وأنا لم أسأل أو أبحث عن هذا المرض، اكتفيت فقط بتطوير خيالاتي عنه، أراه في حلمي على هيئة بقع ضوء سوداء تنتشر بداخلك وتحتل ممرات مهمة بجسدك ولا حل لها إلا أن نُدخِل قنبلة نووية إليك، لتنفجر في كل مكان في محاولة لتدمير الضوء الأسود، لكن القنبلة دائماً ما تقتلك أنت، تجعلك تخور وتشعر بفورة زلزال. دائماً ما تدفع أعضاء جسدك للصراخ تماماً كسُكان هيروشيما.

رأيت عبر الشهور قدرة العلاج المذهلة على قتل أبي. أفكر الآن في النبلة كخيار بشع!

عدنا من عند الطبيب وفي يدنا أشعة «الوضع الصعب»، ورجعنا له وأخذناه وخرجنا نحو البيت، بعين تائهة كما دخل، وجسد محطم كما دخل، ومعدة بها قنابل نووية تُدمِّر كل شيء، كان هذا هو الوضع، ثلاثتنا في التاكسي الذي يقصد بيتنا في محرم بك، كنا مغمورين بالألم. لكن في الوقت نفسه وبصورة غير منطقية، سيطر علينا ثلاثتنا شيء واحد شديد الحماقة: الأمل.

والأمل هُنا لم يكن نُبيلاً مثل محمد، بل كان شعوراً يفرضه الله علينا فرضاً، شعور غريب يجعلك تتخيل أمراً لا تُصدقه بأي شكل من الأشكال، ولكنك تتخيله، وهو أن ينتهي هذا كله نهاية سعيد. شعور ساذج ولكنه غريزة تُبقينا على قيد المحاولة، ولأن المحاولة والاستسلام يُصبحان سيانًا في عين المريض وأهله، فإن شيئاً ما يجعلنا ننظر للمحاولة كفرض أحمق ولكنه نبيل.

والمحاولة لا تتوقف فقط عند العلاج من هذا الموت المُحقق، ولكن الحياة نفسها.

حكى محمد أن ابنه يحيى عندما عرف أن كارثة حلت بهم -وأظن أن وقع الأمر على يحيى وإدراكه لم يتخط إدراكي وقت علمت عن مرض أبي- سأله «ألن تسبح معي من جديد؟». يقول محمد إنه خالف كل طب العالم وذهب معه إلى البحر وسبح ضد الموج. للمرة الأخيرة؟ لا أظن! فهي لم تكن سباحة عادية، كانت سباحة خالدة، تُبقيه مع يحيى للأبد في كل مرة تحتضن رجله المالح.

صديق قديم جداً

أعود من جديد لفكرة الكتابة نفسها، لست أعرفه لأكتب عنه، لم أر وجهه وليس بيننا رسائل، لم يرد أبداً على قليل تعليقاتي على حسابه على الفيسبوك، ولا أشاطره مسقط رأسه، أسيوط، فليست بيننا رابطة تسمح لي بحشر الأنف وغمس القلم وسكب الحبر.

لكني، أعرفه. إنه صديق قديم جداً. «الفقراء أولاً يا ولاد الكلب»، وصفحات الشروق، وقصة حبه لإسراء، وتركه للطب والتفرغ لمطاردة الأمل على ورق دشت.

شاركته في تجربتنا جميعاً التي تحولت إلى كارثة وهزيمة. ولكنه ظلّ يكتب ويُرسل كتائب من الفراشات مُمثّلة في حقائق يبحث عنها ويوثقها وينشرها وينثرها في الهواء، فراشات بمعاول لهدم معبد أسود.

أشعر أنه قُدر له دائماً أن يكون أضعف من عدوه، وألّا يتوقف أبداً عن إزعاجه. عندما قرأت إعلانه عن الإصابة كنت آخر غير الصبي الصغير، كنت أكبر سناً ورحل أبي منذ وقت طويل، ومن بعد السطر الأول حزنت جداً أن محمد ستنتهي قصته سريعاً.

تحوّل السرطان في عقلي إلى موت مُحقق، فقط سرطان الثدي المكتشف باكراً يمكن أن يسع داخلي الأمل، ولكن أي سرطان آخر لا يُبتر بات في روحي الموت بعينه، الموت بأكثر وجوهه مرارة، الموت المقدر. أعلم أنه لا شيء يبقيك آمناً من هذا المرض، هو قدر لا غير.

قرأت الرسالة الأولى من أولها لآخرها، ولكني لم أقوَ على قراءة ما جاء بعدها، كنت أقرأ شطراً وأترك البقية، حزناً ويأساً. اطّلع على رسالته الدورية فقط بهدف الاطمئنان عليه وأنه لا يزال على قيد الحياة والمحاولة، وأيضاً كان هذا الأمل الساذج اللعين أحياناً يأتي لي، ويقول لي ابحث عن كلمة «شُفيت» كما حدث مع ثلاثتنا في التاكسي. أبحث بالفعل عن الكلمة وأقول هل يهزم أبو غيط ما فيّا من قناعات عن هذا المرض؟

ولكن في كل مرة لم تكن كلمة «شُفيت» موجودة، وكان الملخص في كل مرة أن «الوضع صعب». عند قراءة منشوره، أجد نفسي أتجاوز الأجزاء التي يتحدث فيها عن المرض وأقفز إلى ما يفعل في يومه، قصة إلقائه للقمامة في مكان بعيد، وتقسيم المهام مع إسراء التي تعمل الآن، بحثت دائماً عن الحياة وسط سطور المرض، وأعتقد أن هذا ما منحنا إياه الصديق القديم جداً في هذه التدوينات.

أتذكر كتابته القديمة عن ضيق الحال قبل الفرج، والشقق المفروشة في القاهرة، لأني صاحب تجربة مشابهة في الاغتراب والصحافة، وهو واحد ممّن كنّا نذكر أسماءهم على سبيل الأمل والنجاح والممكن في جلساتنا، واحداً ممّن كان يقول بعض من الحالمين النبلاء على سلم كلية الإعلام بجامعة القاهرة: «أريد أن أصبح مثله».

احفظ وجه محمد، وإذا وجدته في الشارع كنت لأميزه، ويمكنني أن أكلمه عن حياتي وعن حياته أيضاً، عن أهلي وعن أهله، عن أبي وعن نفسه، عن آخر ما كتب وعن آخر ما كتبت. أظن أن إمكانية وجود حوار كهذا كفيل بأن يسمح لي بأن أقول عنه صديق قديم جداً. وإنه بإمكاني أن أحزن عليه كأنه «من بقية أهلي»، وأنا أعرف ألمه بشكل حقيقي، أعرفه أكثر مما عرفه وهو طالب طب، أعرفه لأنه هو الآخر كان صديقاً قديماً جداً، زارنا من قبل وخطف منّا محمد آخر.

«المنشية» أبعد من السما

إعداد «قائمة من الرغبات» هو شيء يقوم به الجميع، لكن بالتأكيد الشخص الذي يعرف موعد فرصته الأخيرة لتنفيذ هذه القائمة، يصبح أكثر واقعية وتضييقاً للقائمة قدر الإمكان.

عندما سألت أبي في أيامه الأخيرة: «نفسك في ايه؟»، لم يكن قد فكر في الأمر من قبل، وهذا ما فضحه استغراقه في التفكير قبل الإجابة. أبي سهل الرضا وقليل الكلام، وهو الأمر الذي غضبت منه، بخاصة بعد تجربة أبو الغيط.

علام تصمت يا حبيبي؟ الأيام قليلة لماذا لا تحكي وتتكلم حتى تقع من طولك. لماذا لا تكتب ما مر عليك وتُشيِّد تاريخاً نتداوله ونحفظه، لماذا لا تفضح كل ما مررت به وما مر بك مرة واحدة… مرة أخيرة.

رد أبي بعد سكتة: «نفسي أروح المنشية»، والمنشية هي كل شيء له. بيته القديم ومكان عمله الذي قضى فيه 12 ساعة يومياً لأكثر من ثلاثين عاماً، أصحابه، أوراقه، شركته التي عرفه الناس باسمها لا باسم أبيه. يوم جديد في المنشية بالنسبة له، هو يوم جديد على قيد الحياة. يوم جديد يشعر فيه أنه من لحم ودم، لا من عروق تُحقن ومعدة لا تقوى على شرب الماء حتى.

كانت حركته صعبة وخروجه من البيت مخاطرة. تمنيت أن يطلب أي شيء يأتي له، لكنه تمنى الخروج للضوء، والضوء كان غالياً والمنشية التي تبعد عن بيتنا 15 دقيقة صارت أبعد من السماء. كان محتملاً أن يسمو للسماء في أي لحظة ومستحيلاً أن يصل للمنشية.

لا أعرف أمنية أبو الغيط الأخيرة، قرأت عن خطيئته الأخيرة في زيارة المطاعم وأكل اللحم.

عندما أمرُ بالمنشية، تصدم رأسي قائمة أمنياتي التي لا تنتهِ، وأتذكر أنه في لحظة ما قد تهوى كل هذه القائمة، ولا يتبقَ منها إلا زيارة قريبة تستحيل.

حكايتي

تعلمت من أبو الغيط أن هُناك شكلاً آخر للبقاء على قيد الحياة: الحكاوي. وتعلمت من أبي أن المنشية ليست قريبة دائماً. إذا صادني القدر، لن أفجر قنبلة نووية في جسدي، سأتمشّى وأحكي حكايتي حتى أقع من صلبي. وسيجد النبيلان حيزاً في حكايتي.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.