في الجانب المظلم من غرفة ملابس ريال مدريد بالعاصمة الإسبانية، يجلس رجل قصير أقرع، يمسك بيده اليمنى كرة من جلد فاخر وبيده اليسرى رباط حذائه باهظ الثمن. في تلك الأثناء، يتذكر «روبيرتو كارلوس» أيامًا خوالي، كان فيها الحذاء والكرة مجرد أحلام في مخيلة طفل فقير وُلد في البرازيل ضمن ملايين من نفس فئته المعدمة.

بعد سنوات ليست بالقليلة تبدل الحال، وبات ذلك الطفل الفقير أسطورة يتحاكى عنها القاصي والداني، في جيل تعلق به من رآه حق الرؤية ومن توقفت معرفته بهم حد السمع، لكن الطرفان تساوا في المعرفة الجزئية عن لاعبي هذه الأيام، وهو ما يجعل الحنين إليها ضرورة ملحة في كل عقل مُتدبر، ذلك لأن فيها من الأحداث ما لم يُحكى بعد وما يجعل بها العديد من الأراضي التي ما زالت تحتاج لغزو معرفي.


قصة برازيلية محببة مكررة

ذات مرة، حكى البرازيلي المعتزل «روبيرتو كارلوس» عن العادات التي اعتاد عليها منتخب بلاده في كل ليلة طوال رحلتهم داخل كوريا واليابان بكأس العالم نسخة عام 2002. أكد أنهم كانوا يقضون يوميًا ساعات من الليل يشاهدون فيها لقاءات سابقة تمكنوا فيها من الفوز، سواء في التصفيات أو من التاريخ، وبشكل متتابع، كان المدرب «سكولاري» يُصر على تذكيرهم بأيام من ذكريات طفولتهم كنوع من الحافز.

كان دائمًا ما يجذب «كارلوس» مشاهدة ذلك الطفل ذي الشعر الكثيف غير المتناسق، الذي لا يبدو طوله يفوق حجم الكرة بكثير، يتأرجح بها وتتأرجح به على أرض الميدان.

ذلك الطفل قد وُلد

من والدين هما: هو «أوسكار دا سيلفا» و«فيرا لوسيا دا سيلفا»، والدين فقيرين ينتميان كغيرهما من البرازيليين إلى الطبقة العاملة الكادحة. تلك هي التيمة الأساسية لأغلب مواطني البرازيل وخاصة اللاعبين منهم.

نما ولدهم

الوحيد بين أختيه في مزرعة من ريف مدينة «جرش» بساو باولو. وللظروف السيئة، اضطر لبداية العمل في سنٍ صغيرة «12 عامًا» من أجل مساعدة الأسرة على مواكبة ظروف الحياة.

الطبيعي مع تلك الظروف أن تكون ممارسة كرة القدم شيئًا ثانويًا عقب الأعمال المعتادة بكل نهار، وهو ما كان يقوم به الطفل القصير للغاية على أكمل وجه، حتى تسنى له الانضمام إلى فريق «يونياو ساو جواو» بنفس ولاية ساو باولو. كان ذلك في عام 1991. لم يستغرق الأمر أكثر من عام حتى صنع معجزة كبيرة

بالانضمام إلى منتخب

بلاده من فريق غير معروف نسبيًا وفي عمرٍ صغير للغاية، فقط 19 عامًا. كما لو أن موهبته كانت كالصاروخ الذي ينتظر فقط قاعدة من أجل الانطلاق منها نحو المجد وقد كان.

في عام 1995 كان لديه فرصة كبيرة

للانضمام إلى الدوري الإنجليزي

عن طريق بوابة نادي ميدلزبرا، لكن الأمور قد تعثرت لسببٍ أو لآخر، ومن ثم تمت بعدها إجراءات انتقاله إلى العملاق الإيطالي انتر ميلان، ولمدة موسم كامل، من بعدها بدأت رحلة ريال مدريد التي رسمت كل شيء في حياته الكروية والتي يعيش على إثرها حتى الآن.


سحر رمال الطفولة

كونك شخصًا برازيليًا يملك موهبة في كرة القدم، فإن ذلك شيء غير مميز للدرجة التي تجعلك تطفو على السطح، لكن كونك لاعبًا برازيليًا قصير القامة وتملك قوة بدنية جبارة بجانب قدراتك البدنية، فهنا يختلف الوضع.

يعيش هؤلاء اللاعبون طفولات أصعب من تخيلها بالنسبة لنا. تلك القصة لن نمل أبدًا من تكرارها، لكن فعليًا، الأمور تكون أكثر تعقيدًا حين تراها بأم عينيك لا أن تسمع أو تقرأ عنها في أحد المنابر. عن ذلك

يعود الظهير

الأيسر الأشهر عبر التاريخ ليحكي عن واحدة من أصعب ذكريات طفولته مع أصدقائه. كانوا لا يمكنهم الحصول على كرة جديدة في كل مرة يحدث شيء ما للقديمة، سواء أصيبت بقطع أو فقدت هواءها الذي يُكمل استدارتها. الحل الذي كانوا

يلجأون له

في هذه المواقف هو إكمال الفارغ من الكرة ببعض الرمال الذي يحافظ على بعض الوزن للكرة، حتى لو جعلها ذلك أكثر ثقلًا من المعتاد أو من المطلوب أصلًا، لكن لم يكن هنالك حل أفضل من ذلك.

بمرور الوقت، وحين بلغ «كارلوس» عامه الـ16، بدأت فوائد ذلك الحل تظهر على جسده. باتت عضلات أقدامه -خاصة اليسرى كونه أعسر- أكثر قوة، حتى أن بعض التقارير أفادت أنه في هذه الفترة كان يمكنه تحمل ما يستطيع تحمله عداء ماراثون 100 متر مُحترف. جعله ذلك يملك قوة عضلية جبارة بُنيت من خلالها سمعته في اللعبة، فبالرغم من كونه يتراوح بين 5:ـ6 أقدام طولًا؛ أي أنه يبدو أقصر من أي شخص ممكن مقارنته به، لكنه كان يملك قوة جسدية تمكنه من الدخول في أي صراع بدني بلا خوف.


سأركض، شئت أم أبيت

الحالة البدنية لـ«روبيبرتو» كانت

ظاهرة حقيقية

، وشيء نادر تواجده في أي لاعب عادي. زميله في ريال مدريد، الإنجليزي «ستيف ماكمانامان»

لم يكن فقط

رفيقًا عاديًا داخل الملعب، حيث أنه دائمًا ما كان متوسط الميدان القريب من كارلوس في أي وضع تكتيكي، لكنه كذلك كان قريبًا من البرازيلي خارج الملعب.

يؤكد «ستيف»

أنه كان يطمئن على أن صديقه يستطيع التحرك على الرواق الأيسر ذهابًا وعودة بشكل مستمر ودائم، في حركة يمكن تكرارها ولو 10 أو 20 مرة في المباراة الواحدة. الأمر تخطى وصف المذهل بالنسبة له.

ربيرتو كارلوس

عن أسباب رحيله

عن إنتر ميلان.

في الرحلة التي سبقت تواجد الظهير البرازيلي في مدريد، كانت الأمور غير مستقرة بينه وبين مدربه في إنتر ميلانو، «روي هودسون». الأمور في إيطاليا كانت مختلفة حسب وصف «دا سيلفا»، الدفاع كان دفاعًا حقًا والهجوم كان مطلقًا في حيز غير مطلق. بعد عام كامل من تواجده في إيطاليا، سجل خلاله كارلوس 7 أهداف في 34 مباراة، طُلب منه أن يترك موقعه في رباعي الدفاع والتقدم إلى مركز الجناح الصريح من أجل وضع إضافة هجومية للفريق. وهو ما لم يرُق إلى كارلوس، ولم يتوانَ في رفضه حتى وصل به هذا الرفض إلى ترك الفريق، بل والبلد بأكملها والرحيل إلى إسبانيا حيث نظام كروي مختلف تمامًا.


الظروف الصعبة لا تقتل الوطن

أفضّل أن أحصل على مساحة كبيرة قدامي تسمح لي بالركض عدة مترات، بمعنى أنني أفضل أن يفصل بيني وبين المرمى 80 مترًا عن أن يصبح الفارق 20 فقط! ولذلك لم أتفق مع النظام الذي طلبه مني «هودسون» وحاولت إثناءه عنه لكنه رفض. بلغني رئيس النادي وقتها أن الحل الوحيد لهذه المعضلة هو الرحيل.

في كل مرة كانت تشتد الحياة على البرازيلي، سواء بضغط في الشئون الكروية أو حتى العائلية، كان دائمًا يحن إلى بلاده وإلى موطنه وعائلته. هذا الشيء هو صنيعة الظروف الصعبة التي يحياها من مثله في سنٍ مبكرة، فلا يشرعون سريعًا إلى التخلص من أصولهم بقدر حنينهم لمساعدة من هم مثلهم من أجل المُضي بعيدًا عن مثل هذه الظروف.

كارلوس كان يشارك في الموسم بالكامل رفقة كل الفرق التي لعب لها، وكذلك كل اللقاءات الرسمية مع منتخب بلاده. في حواره مع «ذا صن داي تايمز»

سأله الصحفي

: «ألا تتعب؟ كل الفرق التي لعبت لها كانت ستفضل لو قررت الراحة وعدم المشاركة في المباريات الودية لمنتخب بلادك»، وهو ما نفاه اللاعب قاطعًا.

لا يمكن أن أقوم بهذا الشيء تجاه البرازيل. يمكن أن تصبح اللاعب الأغنى على مستوى العالم، لكن بمجرد أن يطلبك المنتخب عليك أن تُلبي النداء. إذا ما تحركت آلة الفاكس معلنة عن استدعاء موجه إليّ من الاتحاد البرازيلي، أفقز في الهواء من الفرحة حتى ولو كنت قد حققت كل شيء ممكن قبل ذلك الاستدعاء. انا أمثل 170 مليون فرد من بلادي، وهذا شرف لا يمكن الاستغناء عنه

روبيرتو كارلوس

ردًا على

محاولة إثنائه عن المشاركات الودية مع منتخب بلاده.

في منتصف عام 2017،

أُعلن عن وصول

الحفيد التاسع للجد «أوسكار دا سيلفا»، ذلك الرقم الكبير لم يأتِ صدفة أبدًا، فإن كارلوس من البداية كان يخطط لبناء أسرة كبيرة مكونة من أفراد يحب كل منهم الآخر، ويستطيع أن يزرع فيهم ما قد تم زرعه فيه عن طريق والده. يمكن إلحاق ذلك بحبه الشديد لوطنه، فهما شعوران لا يمكن فصلهما عن بعضهما.

قبل سنوات بعيدة وتحديدًا في ختام عام 2002،

أجرى موقع

«

The Sunday Times

» حوارًا مطولًا مع اللاعب الذي كان قد فاز لتوه بكأس العالم وقد سبقه بكأس دوري أبطال أوروبا الثالث في تاريخه رفقة العملاق الإسباني. في بداية الحوار كان البرازيلي مبتسمًا وبشوشًا وهادئًا، ومن ثم عند انتقالهم إلى منزل العائلة تحولت شخصيته بعض الشيء، مؤكدًا أن الجماهير لم تره في صورته كأب، التي هي في وصفه: الصورة الأصعب بالنسبة له.

بدأت حياة اللاعب الزوجية بشكلٍ مبكر بزواجه من مواطنته «ألكساندرا بينهيرو» لكنها لم تستمر طويلًا حيث قررا الانفصال عن بعضهما البعض، وفي عام 2003

وقعا عقد

نفقة بينهما ليتكفل اللاعب بمصاريف أبنائه الثلاثة الأُول من زوجته الأولى. وبجانب عدم تقصيره في هذا الصدد لكنه كان مصرًا على إكمال عائلته الكبيرة وقد تمكن فعلًا من الزواج عدة مرات حتى حصل على 9 أبناء يفخر بهم جدًا، وكذلك حينما وصل إلى عمر 44، كان قد أُعلن عن كونه جدًا للمرة الأولى، بعد أن حصلت ابنته الكبيرة «جيوفانا دا سيلفا» على مولودها الأول.

قصة ليست بالمستحدثة، لكن في تكرارها متعة لن يُمل منها أبدًا. كلما قررت أن تقتحم قصة أحد هؤلاء البرازيليين الذين طفوا على سطح الفقر وتخطوا مراحل الصعوبة في الطفولة، كلما وجدت قصصًا يعتبر منها القاصي والداني، وفي ذلك يدور فلك الحياة.