عاد من جديد من شحوب الطويل يقصص رؤيا الموت السحيق وعالم الانهيارات السحيقة إيابا إلى منبج الحرة ..


(أ)

محنة المتنبي أو لماذا تغير لون المتنبي في مصر

كل الطرق مسدودة أمام الوصول إلى القرار، حزم المتنبي أمتعته مُذ كان في الشام وهم إلى أرض القبط يلتمس تغير العالم.

وقف الخيل وتعثر كثيرا في عتبات العبور حتى وصل إلى كل المعالم الجميلة على البحر الأحمر، وكانت البداية مفرحة جدا لهذا الفارس، حتى وصل يوم الخميس إلى منطقة الجيزة أعرق أماكن مصر التاريخية، وهنالك ربما التقى الإخشيدي الذي مهد له كل الطرق النفسية للبقاء.

بينما ظلت رغبة المتنبي الملحة تلاحقه في التمرد والأذى حتى تغير لونه الأحمري بالحمى إلى شحوبٍ في سجن كبير.

ثوى على جبهة الشعر الرفيعة في قلب الملوك ولم تحزه سلطة الربط ولو ليوم.

طمح في حكم إحدى القرى الجميلة جنوبا، ولم يتح له الإخشيدي ولا رجاله أي شيء أحب.

تغير لون المتنبي إلى حد الكفر بمهمته الرئيسيّة في أرض مصر وخلع قبعة الشعر ورفع سيفه القديم الذي ورثه مُذ كان مع القرامطة..

واستخدم سن قلمه رصاصة قاتلة تؤدي المعنيين وتؤتي الفرحة والحزن معا في نفس الخليفة الذي فارت أزمته إلى حد الزعيق لما عرف الحقيقة. بالمَدح المعلن والقدح المبطن.

وسمع أمارات المتنبي تصيبه وكأنها لعنة تلاحق كل أروقة السلطة وأوراق الدولة الإخشيدية.

مر قرابة العامين عليه في مصر، ولا شيء يبشر بالخير وكل ما هنالك ينذر بالسوء، فقد نال الوشاة منه عند الإخشيدي على نحو كبير . وعلى ما يبدو أن الأمير قد تغير تجاهه ويمتنع مرارا عن مقابلته بحجة انشغاله في أمور مهمة.

صدر قرار من الإخشيدي بتحديد إقامة الأمير عشر ليالِِ…


(ب)

تيقظ أبو الطيب من نومه كعادته ظهرا، فهو نؤوم الضحى.

ينام ملء جفونه عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصم

ونزل بعد تناول إفطاره ليمتطي جواده ويمارس الفروسية رياضته المفضلة مذ كان يافعا، وعندما همّ بالخروج منعه حراس القصر من الخروج، وأخبروه بأن الإخشيدي قد حدد إقامته لعشر ليالِِ.

وعى المتنبي حجم المؤامرة وفهم أن الملك قد عزم على التخلص منه سرا.

تغير لونه الأحمري شحوبا باهتا، وظهرت عليه علامات الحمى والتعرق والهزال، دخل الطبيب إلى القصر: لا بد أنك تناولت شيئا!!

لابد أن شيئا ملوثا قد دخل في طعامك أو شرابك .. وأبو الطيب لا يكف عن التعرق

ذَرَاني وَالفَلاةَ بِلا دَليل .. وَوَجْهي وَالهَجِيرَ بِلا لِثَامِ

أقَمْتُ بأرْضِ مِصرَ فَلا وَرَائي تَخُبُّ بيَ الرّكابُ وَلا أمَامي

وَمَلّنيَ الفِرَاشُ وَكانَ جَنبي يَمَلُّ لِقَاءَهُ في كُلّ عامِ

يَقُولُ ليَ الطّبيبُ أكَلْتَ شَيئاً وَداؤكَ في شَرَابِكَ وَالطّعامِ

وَمَا في طِبّهِ أنّي جَوَادٌ أضَرَّ بجِسْمِهِ طُولُ الجَمَامِ

تَعَوّدَ أنْ يُغَبِّرَ في السّرَايَا وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ في قَتَامِ

فإنْ أمرَضْ فما مرِضَ اصْطِباري وَإنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعتزَامي

وَإنْ أسْلَمْ فَمَا أبْقَى وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الحِمامِ إلى الحِمامِ

زادت ضربات القلب بشدة والأمير مأزوم في بيته قطعوا جميع طرق التفاهم وعزموا على التخلص من وجوده. لا شك أن جزءا من السم تسرب إلى قوته، وأن أيامه القادمة معدودة مهما طالت ولو قرونا.


(جـ)

فات قرابة الشهر وأبو الطيب يرسف في أغلال حمته، لا وقد فقد ما يقرب من نصف وزنه وكأنه تهيأ للموت تقريبا. الجميع هنا لا يقوون على مساعدته ولا يجرؤون على مخالفة أوامر السلطان.

توسم أبو الطيب الخير في أحد خدام القصر، غلام طيب رق لحاله ومرضه كان يحضر له الماء وبعض الزاد ويعتني بتجفيف تعرقه. توسل إليه الأمير أن يحضر له – خلسة – وريقات وأقلاما، أحضر الغلام المطلوب وأملاه بعض الكلمات قام بتدوينها:

«من أبي الطيب أحمد المتنبي إلى الأمير سيف الدولة الحمداني؛ هذا خطابي إليكم من أرض مصر وأنا بين الحياة والموت إثر خيانة نكراء تعرضت لها من الإخشيدي. فإما تدخلتم لإنقاذي وإما فأنا والعدم سواء. والسلام…».

كلفه المتنبي بأن يخبأ هذه الوريقة في ثيابه بإحكام، ليذهب بها إلى البر الشرقي من مصر حيث يجد السيد أمين، وهو من أعيان مصر وأصدقاء أبي الطيب الذين كانوا في استقباله أول زيارته.

امتطى الغلام فرسه وانطلق مسرعا إلى الشرقية، وهنالك سلم الرسالة إلى السيد أمين الذي أفهمه بدوره أن يأخذها إلى سيف الدولة؛ وبالفعل وفي غضون ثلاثة أيام وصل أمين إلى الشام وطلب مقابلة سيف الدولة على وجه السرعة لأمرِِ شديد الحسَاسية يتعلق بالأمير أبي الطيب المتنبي شاعر البلاط الأول، بعد سويعات دخل الرجل على الملك ومعه الرسالة المقتضبة التي فَزع لها. وسرعان ما تبدلت ملامح وجهه إلى الامتعاض.

أمر الملك بإرسال وفد مكون من سفيرين ونخبة من القادة والعسكريين والأعيان مع السيد أمين، وكلفهم بمقابلة الإخشيدي وطلب الإفراج السريع عن المتنبي، وأرفق مع الوفد ثلاثة أطباء.

لم يفت الأسبوع حتى وصل وفد سيف الدولة، الذي طلب على وجه السرعة السماح بدخول فريق الأطباء لإسعاف المتنبي ووقف تدهور حالته الصحية، والتفاوض مع الإخشيدي للإفراج عنه تحت أي شروط.

دخل الأطباء إلى القصر واستطاعوا بعد ساعات تخفيض درجة حرارة الأمير المرتفعة، وبوصفة طبية متطورة استطاعوا أن يقفوا تمدد الحمى.

لم تفت أكثر من خمسة أيام حتى عاد المتنبي إلى الشام.

استرد المتنبي نفسيته كاملة وإيمانه الشديد بالله. وفِي حضرة الحمدانية لم يترك سيفا ولا رمحا ولا كلمة حتى ارتكن إليها.

وقد اطمأن قلبه تماما حيث مازال قلب الخليفة خاليا إلا من حب قصائده، ومازال ينساب في أن يجزل العطاء له، ولذلك فإن الأخشيدي لم يعد أكثر من ماضٍ ملوث.

يشدو بشعره في بلاط الحمداني:

أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما .. أنا الطائر المحكي والآخر الصدى


* القصة من وحي خيال الكاتب.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.