شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 56 ظهرت السريالية في باريس في أوائل القرن العشرين، تقريبًا 1920، على يد مجموعة من الكُتَّاب والفنانين الذين ركزوا على اللاوعي كمصدر لأعمالهم الفنيّة والأدبية. تُعتبر السريالية من أكثر الحركات الفنية تأثيرًا في القرن العشرين، وقد انبثقت بشكل ما من حركة الدادا The Dada؛ الدادا نفسها كحركة فنية انطلقت إبان الحرب العالمية الأولى مُعلنة عن ازدرائها للحرب وللحياة والثقافة الأوربية التي اعتبرتها بلا معنى. قدم رسامو الدادا أعمالا فنية تحت شعار «ضد الفن أو بلا فن»، كتعبير منهم عن حجم الهراء الذي غرقت فيه أوربا في تلك الفترة. مِن هنا بدأت الحركات والأعمال الفنيّة اللاحقة للدادا تأخذ مواقف عنيفة ضد الحروب والقتال وتصاعد أزمة المعنى. سريعًا ما بهتت الدادا وتوارت عن الأنظار، ربما يرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى أن الدادا كانت مُحاكاة لمدى القبح الذي وصل له العالم، وقد رفض العالم أن يصدق أنه على هذا القدر مِن القبح. خلفت الدادا وراءها بذورًا لحركة أكثر جنونًا وأقل قبحًا هي السريالية. يقول الأب الروحي للسريالية الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1896- 1966) في أول مانفستو كتبه عن الحركة أنه أراد أن يمزج بين الوعي واللاوعي ليصل بهم لعالم «الحقيقة المُطلقة». يُكمل بريتون في تعريفه للسريالية على أنها: «تلقائية النفس في أكثر صورها نقاءً، فيُعبِر الفرد عن طريق الكتابة، أو أي صورة أخرى من صور التعبير، عمَّا يعتمِل في فكره». استخدم بريتون كلمة «فوق واقعي أو فواقعي Surreal» في وصف عمل فني اُستخدمت فيه صور خيالية وعناصر واقعية وقد تم الدمج بينهم لتظهر في النهاية الحقيقة المطلقة. مِن ثمَّ، أوعز بريتون للكُتَّاب والفنانين للاعتماد على اللاوعي كمصدر حقيقي للإلهام. اعتقد السرياليون أن العقل اللاواعي هو المصدر لمعرفة الحقيقة المطلقة والوصول لها، فمزجت أعمال السرياليين بين النظريات العلمية وتقنيات بصرية مثيرة لأشد الصور الذهنية غرابة والتي اعتبروها انعكاسا نقيا لعالم اللاوعي. فالعالم الواعي أثبت فشله في الوصول لمعنى أو حقيقة، ووحدها الصور اللاشعورية هي الممر المُتاح للوصول لفن نقيّ وحقيقة مُطلقة. لكن كيف وصل اعتقاد بعض الكُتَّاب والفنانيين إلى أن اللاوعي هو الممر للحقيقة المطلقة؟ أو كيف وصل الفن لهذا الحد من الجنون؟ الحقيقة أنَّ الفن كان انعكاسا لجنون أكبر عمَّ العالم بأسره في فترة كان ينفض فيها العالم عن نفسه غبار حرب كونية أودت بحياة ملايين الأبرياء. تحول هرع الجميع للبحث عن معنى إلى كابوس ألقى بظله على عالم الحداثة. ما معنى الأشياء؟ وما الغاية مِن وراء العالم؟ كيف وصلنا لهذه الحالة مِن الضمور الأخلاقي؟ كل تلك الأسئلة كان مِن الممكن أن يكون لها إجابة ميتافزيقية قديمًا يعوّل عليها الإنسان كغاية لكل فعل وعمل. بغياب تلك الإجابة وبروز نظريات أخرى في مركز الصدارة، انعكس بحث الإنسان عن المعنى، فبدلا مِن البحث في العالم مِن حوله، بدأ البحث فيه بداخله. رُبما لهذا السبب تعامل السرياليون مع اللاوعي وكأنَّه إله ميتافزيقي متجاوز له قدرة خارقة على إضفاء معنى على العالم والوصول بهم «للحقيقة المطلقة» على حد تعبير بريتون. كيف ومتى وصلنا لهذا الحد مِن الجنون؟ أو كيف تم تأليه اللاوعي؟ يعود تأليه اللاوعي واعتباره السبيل للحقيقة المُطلقة إلى الفلاسفة والمفكرين الآتي ذكرهم والذين -بقصد أو بدون قصد- فتحوا الباب ليس فقط على هذا العالم الفواقعي بل على أزمة المعنى ككُلّ. الأول هو: الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أهم فلاسفة عصر التنوير (1724- 1804). كرس كانط وفلاسفة عصر التنوير بشكل عام لفكرة دراسة الطبيعة طبقا لبحوث علمية تعتمد قوانين وقواعد ميكانيكية مجردة من أي نظرة ميتا فزيقية للعالم. انعكس هذا المنهج على الفن والأدب اللذين اعتمدا بدورهما نظرة معادية للرومانسية؛ ساهم هذا العداء بدوره في نشاط حركة الفن والأدب الرومانسي في تلك الفترة في وجه حالة تحديث وعقلنة الطبيعة؛ لكن استمر فلاسفة ما بعد كانط بأن دشنوا للتناول العقلاني للطبيعة والإنسان والكون. ما فتح بدوره نافذة لرؤية الإنسان من الداخل بشكل مختلف عن الماضي حيث بدأ يُنظر للروح والعالم الداخلي في ظل آلية من التطورات التاريخية الديناميكية حتى عفى الزمن على عالم الرومانسية تمامًا. الثاني هو: الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788- 1860) ذو الفلسفة التشاؤمية، وهو من قدم مفهوم «اللاوعي» وسلط الضوء على اللاوعي كعالم ما ورائي لعالم العقل الواعي – وأن اللاوعي له تأثير وقدرة على تشكيل أفكار وأفعال الإنسان، وأن اللا وعي قد يكون وسيلة لإدراك بعض الحقائق التي لا يدركها الوعي. الثالث هو: الفيلسوف، الألماني أيضا فريدريك نيتشه (1844- 1900) والذي اعتبر شوبنهاور أستاذه الذي يدين له بالاحترام. طوَّر نيتشه من فلسفة شوبنهاور عن اللاوعي وأظهر توازنا ما بين العالم الواعي والعالم اللاواعي وأصبح نيتشه بفلسفته وأفكاره بذرة مؤسسة لفكر سيجموند فرويد. إلا أن نيتشه، والذي أعلن موت الإله؛ رسخ لأزمة المعنى بمقولته، وسواء قصد الموت حرفيًا أو مجازيًا، إلا أنه في جميع الأحوال سلط الضوء على أن الإنسان قتل في ذاته ونفسه أي بُعد ما ورائي متجاوز للحياة الدنيا. الرابع هو: سيجموند فرويد ( 1856- 1939) أشهر مؤسس لنظريات العقل واللاوعي – والذي أعطى مفهوم اللاوعي بُعدًا كونيًا. فسر فرويد الأحلام باعتبارها بوابة على اللاوعي ومفسرا لديناميكية النفس البشرية – أفكار فرويد عن اللاوعي والطب النفسي اُعتبرت أكبر محرك لظهور السريالية – فرويد نفسه نال قدرا شديدا من الاحترام والتقدير مِن قِبل السرياليين – لدرجة أن سلفادور دالي وهو أشهر رسام سريالي تقريبًا أهدى لوحته «مسخ نرسيس Metamorphosis of Narcissus» لفرويد باعتباره كاشف النقاب عن العالم الحاضن للسريالية؛ عالم اللاوعي. هذا الأرشيف الضخم الذي يُسجل كُلّ شيء مِن لحظة الولادة حتى الموت هو الطريق نحو الحقيقة المطلقة. أعلام السريالية أندريه بريتون: يُعتبر الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1896- 1966) هو الأب الروحي للسريالية وأحد مُنظري حركة الدادا، كما أنه مَن كتب أول مانفيستو تُعلن فيه الحركة السريالية عن نفسها. سلفادور دالي: يُعد الرسّام الفرنسي سلفادور دالي (1904- 1989) أحد أشهر الرسامين في القرن العشرين وأشهر سريالي على الإطلاق، على الرغم من أنه معروف بلوحاته المثيرة للجدل إلا أنه له مساهمات سينمائية مع المخرج العالمي لويس بونويل في فيلم كلب أندلسي حيث أسس كلاهما لظهور السينما السريالية. حملت لوْحات دالي طابعا شديد الرمزية ودرجة من اللاواقعية مُفرطة، على الرغم من أن المواضيع التي تناولتها لوحاته كانت معضلات الحياة الواقعية اليومية في عصره من أول الحرب العالمية الأولى وحتى بعد الحرب العالمية الثانية. ناقشت لوحاته الجنس والموت وتداعي الإنسان وكل هذا قدمه في إطار توليفة من النظريات النفسية لسيجموند فرويد. أحد أشهر لوحات دالي هي «إصرار الذاكرة The Persistence of memory» رسم فيها الزمن في صورة ساعات تذوب واحدة تلو الأخرى، حاول دالي أن يُقدم الخلل الذي أصاب مفهومنا للوقت بعد إعلان نظرية النسبية لأينشتاين؛ الوقت مائع ونسبي تمامًا. ختامًا قدم أعلام السريالية أمثال دالي ورينيه مارجريت وغيرهم أعمالا اختلطت فيها العبقرية بالجنون. احتضن السرياليون أفكار سيجموند فرويد عن اللاوعي، وهرولوا وراء هذا العالم الجديد في محاولة منهم لإضفاء المعنى على عالم اللامعنى. وصلوا هم بعالم الحداثة للجنون أم أن عالم الحداثة هو ما أوصلهم للجنون! الإجابة بسيطة نحن أمام تبادل أدوار، عالم يصفعنا فنصفعه، ونصفعه فيصفعنا. في كل الأحوال اتخذت السريالية من اللاوعي وطنا ومأوى في مواجهة عالم الحداثة الذي يمضي بعزم نحو الجحيم. قد يعجبك أيضاً لماذا نحب الموسيقى والأفلام الحزينة؟ «Darkest Hour»: في السينما فقط يتفق «ناصر» و«تشرشل» فيلم «Shame»: تحديقة فارغة لرجل ميت الموت بين المبتذل والمأساة: نماذج من فني القصة والرواية شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram هند مسعد محمد Follow Author المقالة السابقة مسلسل Doctor Who: هدية بريطانيا إلى العالم المقالة التالية مسلسل Outlander ؛ ملحمة الحب والحرب قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك رسائل برلين 2020: أسد إيران والحلم الألماني وذعر كورونا 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مهرجان كان 2022: أفلام عربية وأخرى تنظر إلى العالم العربي 05/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك كيف تقوم بإفشال عمل درامي في 5 خطوات؟ 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الواقعة البوشكارية 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك قصص لا تكتمل – الحلقة الأولى 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الجانب الآخر من «جيم كاري» 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم The Batman: النسخة الأكثر قتامة من فارس الظلام 05/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «كفر ناحوم»: ما بين الفن والدعاية السياسية 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ليس لهو أطفال – الحلقة الأولى 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك هل يحقق «Twin Peaks» طفرة مستقبلية في صناعة المسلسلات؟ 03/03/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.