شكّلت المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في الخامس عشر من يوليو/ تموز من العام الماضي فرصةً مهمةً لرؤية التحولات التي كان يُضمرها حزب العدالة والتنمية تجاه المؤسَسة الأهم، بالنسبة للأتراك على مدى تاريخهم الطويل.

وإذا كان لكل مجتمع عنصرٌ مؤسسٌ ومهيمنٌ على جميع أعرافه وتقاليده فيُمكن القول، إن الروح العسكرية للمجتمع التركي على مدى تاريخه كانت العنصر المهيمن على جميع الأعراف والتقاليد، بل والأديان التي اعتنقها الأتراك على مدى تاريخهم. وقد أوجز «فاسيلي فلاديميرفتش بارتولد» «Wasily WIadimirovich Bartold (1869– 1930)»، مؤسس المدرسة الروسية لعلم الاستشراق في الفترة السوفيتية وصاحب المجال البحثي الواسع في تاريخ شعوب ودول آسيا الوسطى الإسلامية، هذه الطبيعة العسكرية للأتراك عندما قال «إن الشعب التركي المحارب عندما اعتنق المسيحية فترةً من التاريخ استطاع أن يُحوِّل دين السلام إلى دين حرب».

وبالتالي وتأسيسًا على تاريخ الأتراك المديد، يُمكننا أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الأتراك طوال تاريخهم كانوا مجتمعًا عسكريًّا يعيش دائمًا في حالة التأهب للحرب والاستعداد للقتال، ولم ينظروا إلى الحرب على أنّها عملية وظيفيّة تقع على عاتق أفراد دون غيرهم، كما يرى الدكتور طارق عبدالجليل في دراسته العظيمة عن الجيش التركي.


«الإنكشارية – Janissaries- Yeniçeriler» والدور الرئيسي في الدولة العثمانيّة



الإنكشاريّة، وهي طائفة عسكرية من المشاة العثمانيين وكانوا أقوى فرق الجيش العثمانيّ وأكثرها نفوذًا، واعتبرهم المستشرق الألماني «كارل بروكلمان – Carl Brockelmann»،( قوام الجيش العثمانيّ وعماده).

ورغم الدور الكبير لهذه القوات في تثبيت دعائم الدولة العثمانيّة، فإن الهزائم التي تعرّض لها العثمانيّون في القرن السابع عشر كشفت عن وهن واضح في هذه القوات ذات الأهمية الكبرى، مما دفع سلاطين الدولة إلى التركيز على تحديث هذه القوات على النمط الغربي، فقد كانوا قلب الدولة العثمانية وبها تنهض أو تضعف وقد وصفهم المؤرخ الإنجليزي «جرانت» بقوله : «المشاة الإنكشاريّة كانوا أكثر أهمية من سلاح الفرسان، وكان مصير أو مستقبل الدولة العثمانيّة يعتمد إلى حد كبير على الإنكشاريّة»


الإنكشاريّة والجيش التركي: ما بعد قيام تركيا الحديثة

يظهر لقارئ التاريخ التركي التقارُب الكبير في وضعية الإنكشاريّة والجيش التركي ما بعد الجمهورية، فالإنكشاريّة كان لهم دور كبير في تثبيت دعائم الدولة العثمانيّة، بينما كان الجيش التركي هو مَن أسّس الجمهورية الحديثة ووضع دساتيرها. فالجيش التركي أسس الجمهورية بعد انقلاب 1908 على السلطان عبدالحميد الثاني، ووضع دستورًا في العام نفسه، وكانت عقيدة ضباط جيش الجمهورية الأتاتوركيّة أن الجيش هو الأب الشرعي للدستور، وهو ما نلاحظه في أنّ الجيش التركي هو من وضع دساتير تركيا كلها، فهو وضع دستور 1924 ودستور 1961 ودستور 1982.

كان جيش الجمهورية على مدار تأسيس تركيا الحديثة هو الفاعل الرئيسي في الحياة السياسيّة، فقد أسس البلاد بعد انقلاب على الدولة العثمانيّة، ثم قام بعدة انقلابات على الحكومات المنتخبة في الستينات والسبعينات والثمانينات، ثم قام بانقلاب وُصف بانقلاب ما بعد الحداثة عام 1997، واستندت هذه الانقلابات العسكرية إلى مادة قانونية، وهو القانون 2771 الصادر عام 1935،الذي تحول إلى مادة دستورية في دستور ما بعد انقلاب 1960، ونصّت على أنّ «وظيفة الجيش هي حماية الجمهورية التركية المعنية في الدستور».

وكان لجيش الجمهورية الحديث سلفٌ في التدخل في نظام الدولة وتغيير حكامها، فقد قام الإنكشاريّون بعزل السلطان عثمان الثاني من منصبه، وأقدموا على قتله سنة (1032هـ=1622م)، وفعلوا مثل ذلك مع السلطان إبراهيم الأول، حيث قاموا بخنقه عام 1648م، محتجين بأنه يعاديهم ويتناولهم بالنقد والتجريح.

وقام الإنكشاريّون بقتل حسن باشا، الصدر الأعظم، على عهد السلطان مراد الرابع، سنة (1042هـ=1632م)، وبلغ من استهتارهم واستهانتهم بالسلطان سليم الثاني، أن طالبوه بقتل شيخ الإسلام والصدر الأعظم وقائد السلاح البحري، فلم يجرؤ على مخالفتهم، فسمح لهم بقتل اثنين منهم، واستثنى شيخ الإسلام من القتل؛ خوفًا من إثارة الرأي العام ضده.


مذبحة السلطان محمود الثاني للإنكشاريّين وترويض «أردوغان» لجيش «أتاتورك»

كان لكل من السلطان محمود الثاني والرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان مشروعٌ تحديثي، وفق نظرة كل منهما، وكان كلٌّ من المشروعين يتناقض مع القوى الرئيسية، سواء الإنكشاريّة أو قيادة الجيش التركي الحالي، فقد سعى السلطان محمود الثاني إلى تحديث الجيش التركي على النمط الغربي، لكن تعلم من سابقيه تجربة مريرة في التعامل مع جيش الإنكشاريّة.

فقد كانت بدايات تحديث الجيش العثمانيّ مع السلطان محمود الأول الذي سعى لعملية تحديث للجيش أساسها الإنكشاريّة، الذين رأوا في عملية التحديث مساسًا بـ«نظام الدولة» وأسسها الشرعية، مما دعاهم إلى عزل وقتل الصدر الأعظم خليل حامد باشا، ووضعوا على جثته شعارًا يصفه بأنه عدو للشريعة والدولة، ولنا أن نُقارن ما فعله الإنكشاريّة بالصدر الأعظم بما فعله الجيش التركي في عام 1960، عندما قام بالانقلاب على عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا وقتها، ثم إعدامه بتهمة اعتزام قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.

لكن السلطان محمود الثاني استلهم من تجربة محمد علي مع المماليك وتدبيره مذبحة القلعة، فعمل على مواجهة الإنكشاريّين، خوفًا من الانقلاب عليه وقتله كما فعلوا مع سابقيه، ومع قيامهم بأول تمرد ضده قرّر إلغاء جيش الإنكشاريّة وأمر بضرب ثكناتهم بالمدافع، فقتل 6 آلاف منهم وقبض على 20 ألف انكشاريّ ونفاهم في مواقع مختلفة من الدولة العثمانيّة.

الأمر نفسه تكرر مع الرئيس التركي أردوغان، إذ شعر بالخطر بعد المحاولة الانقلابية في يوليو/ تموز 2016، لذا كانت ضرباته ضد كل المتهمين بالمشاركة في العملية الانقلابية الفاشلة عنيفة للغاية، حيث حبس الآلاف، لدرجة حبس ثلث قيادات الجيش التركي.

ومن المفارقات التاريخية أن السلطان محمود الثاني أطلق على جيشه الجديد بعد القضاء على الإنكشاريّين «جيش العساكر المحمدية المنصورة»، فيما قال الرئيس التركي أردوغان عن الجيش التركي في أول تصريح له بعد المحاولة الانقلابية: إن عناصر الجيش التي لم تشارك في المحاولة الانقلابية هي «جيش محمد».


مشروع «تحديث الجيش» بين السلطان محمود الثاني و«أردوغان»

كان كل من مشروعي السلطان محمود الثاني والرئيس أردوغان يعتمدان على المعايير والأسس الغربية في التحديث، فقد أراد السلطان العثمانيّ تشكيل جيش حديث ومتطور تقنيًّا، وكان الإنكشاريّون يعارضون ذلك، ويتدّخلون في السلطة، فيما أراد «أردوغان» أن يكون الجيش التركي خاضعًا للسلطة المنتخبة، ويُنهي دوره في الحياة السياسيّة، وكانت هذه هي المعايير التي وضعها الاتحاد الأوروبي لضم تركيا إليه، حيث اشترط أن يتوقف الجيش عن التدخّل في الشأن السياسيّ، وأن يخضع للسلطة المنتخبة، وأن يتوقف عن الانقلابات العسكرية.

وفيما يرى الدكتور عبدالجليل أن إصلاحات السلطان محمود الثاني أدت إلى التحلُّل التدريجي من البيئة الوظيفية التقليدية للجيش العثمانيّ، المتمثلة في مفهوم «الجهاد الإسلامي»، إلى مفهوم «الجيش الوطني الوظيفي»، نجد أن إصلاحات «أردوغان» تقوم على تغيير عقيدة الجيش التركي من حامٍ للعلمانية وحامٍ لحدود الدولة، إلى دور الحامي لحدود الدولة فقط، دون أن يكون له ثمة دور في القرار السياسيّ.