«سمير عبد الله» متأكد من أنه كان سيصبح رسّامًا، أو مُصمم ديكور أو مهندسًا معماريًا، لولا موت أبيه، الذي اضطره أن يتطوع في الجيش بالثانوية العامة عام 1968. ضاعت حياته مبكرًا، وهواية الرسم هجرته في جو المعسكرات، ومنذ ذلك الوقت يشعر بأنه تعرّض لخيانة ما.

منْ يتطوع في الجيش يُعاين الحياة من موقع الأسير. تلوح
الحياة المدنية بألوان صاخبة، وإن كان أصحابه يقولون إنه يبالغ، فلا يمر أسبوع دون
أن يأخذ إجازة، إلا أنه يرد بعصبية: «أنتم لا تعرفون شيئًا، أنا أكثر واحد يعرف
معنى الزوال، أيام الإجازات غمضة عين».

المشكلة –في ذلك الوقت- أن بهجة سنوات السبعينيات كانت
تتجول في الشوارع. الفتيات بفساتين قصيرة ملونة، يسرن متمهلات، تنسدل شعورهن على
الأكتاف والظهور. كان زمنا صاخبًا، أسفار إلى بورسعيد، وملابس جديدة زاهية،
وكريمات للشعر والجسم، ومكاسب سريعة من التجارة، وسفر خارج البلاد، كانت الحياة تتوهج
أمامه دون أن يتمكن من لمسها إلا في إجازات مثل غمضة عين، وزاده هذا حيرة وتأسّيًا
على نفسه.

في الإجازات يتخلص من البدلة الميري وينطلق إلى شارع
البورصة. يقف أمام القهوة المصرية، مُستمتعًا بلحظات قريبة من الحلم، كان يدرك
جمال تضاريس جسد الأنثى، ويفهم معنى الإشارات السائلة في الهواء، ومغزى الضحكات
الصغيرة الطائرة. كل ما يخص البنات يصيبه برعشة، فيختزن في ذاكرته تلك المتع، مُدركًا
فداحة الجرم الذي ارتكب في حقه عندما اضطر إلى التطوع في الجيش.

تعلّق في ذلك الوقت بـ «بيسة». التي كانت تسكن بالقرب من
شارع النحاس. مشى وراءها في شارع البورصة، وراقب حركاتها في مرايا الفاترينات،
ودخل وراءها محلات للسؤال وليس للشراء، وقضى ليلة أمام بيتها، مُنتظرًا -بلا يأس-
أن تنفتح البلكونة. ستكون «بيسة» في ظلال الليل أجمل مما كانت أثناء النهار.

جاء اليوم الفاصل: ابتسمت، فبدأ «التاريخ» الذي لم ينته
حتى الآن وهو يجلس في صالة مستشفى الدلتا مُتوترًا، ينتظر مولد أول أحفاده. أصبحت
تلك المنطقة التي تسكنها «بيسة»، مضيئة، ما إن تعن له فكرة مشوار حتى يكون مركزه،
ذلك الشارع.

وكعادة البنات في ذلك الوقت كانت «بيسة» تُبدي تبسمًا لا
يتحول إلى بسمة، وتلقى نظرة كما لو كانت عابرة، لكن بها من القصد ما يبعث الأمل.
فتحت بحركاتها مجالًا لتأويل نشر الغسيل وطرح الضفيرة الكبيرة على ظهرها،
والانتظار أمام باب الشرفة قبل إغلاقه وترك إيماءة في الفضاء تحمل دلالات مفتوحة.
كل تلك الثروة من الرموز يكتشف «سمير» معانيها الخفية في الصمت الليلي لغرفته، وفي
ليلة السفر إلى المعسكر، يمثل أمام ناظريه، جمال «بيسة» بارقًا لا يمكن احتماله.

في الإجازة التالية بحث عن شخص يعرفه، يسكن في منطقة «بيسة»،
واستقر طول أيام الإجازة أمام بيتها بعد أن عصف الحب بعادات التجول في المدينة،
حتى بدأ القلق.

صاحب محل البقالة بدأ ينتبه، وصبي محل الزجاج سخر من
وقفته، وكلما رأته «بيسة» تدير رأسها إلى اتجاه آخر. في تلك اللحظة أدرك، لأول
مرة، فائدة البدلة الميري. كان قد رُقِّي حديثًا إلى درجة «صول»، غير أنه غامر
واشترى نجمة وعلقها على كتفه، ووقف أمام المكتبة المواجهة للبيت، حتى خرجت «بيسة».
سار وراءها إلى شارع البورصة، وهناك اشتعلت الخيالات واقتربت منه بهجة تلك الأيام.
راقبها منتقلة من محل الساعات على ناصية درب الأثر إلى محل ملابس في نهاية الشارع،
ثم وقف مُنتظرًا أمام محل عطارة، وعندما خرجت اقترب وسألها: «كلمة واحدة».

توقف بيسة وقالت بنبرة توازن بين الجد والدلع: «شرطة ولا
حربية».

بعد دقائق كان يجلس معها في محل «دوريه». أخبرته أنها لم
تكمل تعليمها بعد الثانوية بسبب خوف أهلها من جمالها، وحتى الآن تقدم لها ثلاثة
عرسان. ثم نظرت في عينيه مباشرة وقالت إنها لازالت تنتظر النصيب. وقفت قبل أن تكمل
كوب عصير الليمون مُصرِّة أن تعود إلى البيت.

أصبحت النجمة المزيفة مشكلة بعد أن كانت مفتاحًا. تحولت
إلى نقاش صاخب في الليل بينه وبين أصحابه، فلن يوافق أهلها عليه وهو صول، عليه أن
يتحول إلى ضابط بنجمة حتى تتحول «بيسة» إلى خطيبة. قال له أحدهم إن البنت قد عرفت
أنك ضابطًا، فلا داعي للخوف، عليك أن تقابلها بعد ذلك بالملكي، وتلعب معها قليلًا
ثم تتركها. رد سمير بعصبية وبشكل مفاجئ: «بحبها يا بني آدم، بحبها. وعاوز اتجوزها».

حلّ الصمت؛ لأن الطريقة التي أعلن بها «سمير» الحب، كانت مفاجئة وأكثر جدية مما ظنوا. بعد ذلك تحول موضوع حبه إلى مزاح أثناء غيابه، فهذا التعلق المفرط كان غريبًا، خاصةً عندما عرفوا أنه ضرب صولًا من زملائه عندما قال له: «عش لك يومين، خد بوسة وحضن وبعدين قل لها إنك صول مش ضابط، إن وافقت… وافقت، وإن رفضت… يبقى طلعت بحاجة».

مناقشات صاخبة استغرقت إجازات تلك الفترة، حول الطريقة
التي يمكن لـ «سمير» أن يخطب بها «بيسة»، خاصةً بعد أن أخبرته بأنها سوف تُخطَب في
العيد.

يحكى «سمير» –بشاعرية- عن قلبه الذي تحطم بعد أن خُطبِت
الفتاة في الصيف. قضى في غرفته يومًا كاملًا لا يفتح الباب، وأوصى أخته أن تقول
لمن يسأل عنه من أصحابه إنه لم يرجع من الجيش. في اليوم المحدد للرجوع إلى المعسكر
لم يكن قادرًا على أن يخطو خطوة واحدة، كان الإحساس بالغدر نافذًا، والغضب يستبد
به على شكل دورات، حتى لم يعد قادرًا على تحمل نفسه.

في المساء، صعد سلم البيت وجلس على بسطة السلم الأخيرة.
تتناوبه موجات من أفكار جنونية، أن يخطف «بيسة»، أن يحرقها، أن يحرق بيتها، ورغم
الأفكار التي كانت تراوده فقد كان يحسب -بميقات داخلي- ميعاد الرجوع إلى المعسكر.

مثل البرق رأى الفكرة المنقذة: الحل ألّا يذهب إلى أي مكان. أن يتوقف عن الحياة نفسها. أن يتناول شريطًا من الحبوب أو يشرب «سم فيران» مع كوب شاي. كانت فكرة لذيذة خلّصته قليلًا من وطأة الحياة، ولكنه بعد قليل، عندما أظلمت السماء، استبدل البكاء بالانتحار.

نزل السلم تائهًا. ارتدي بدلته العسكرية الخالية من النجمة واتجه إلى المحطة.

***

في صالة مستشفى الدلتا يجلس خائفًا، مرتبكًا، يحاول أن يُخمِّن ملامح الطفل القادم، ويُفكِّر في الموت الذي كان ينتظره في نهاية ذلك الحب، ماذا لو تم؟ هل كان الرجل الجالس الآن سيكون موجودًا؟ المُنتحِر الذي أفلت من مصيره، يجلس الآن ساهمًا ينتظر ميلاد أول حفيد، ويفكر بأن هذا الشخص الخائف المرتبك أمام مولد كائن من نسله سيكون بعد سنوات –أيضًا- مجرد طيف مثل الرسّام والمهندس المعماري والمنتحر.