«ريني ماريتش»! هل سمعت بهذا الاسم من قبل؟ هو شاب نمساوي، عمره لا يزيد عن ال28، ويشغل منصب المدرب المساعد بنادي بوروسيا مونشنجلادباخ. لم يلعب كرة القدم بشكل احترافي أبدًا، لذلك لا يعلم قصته الفريدة إلا قليلون، من بينهم: «محمود سليم».

محمود أيضًا في أواخر العشرينيات، ولم يحترف كرة القدم لاعبًا، ونجح في الدخول لعالم التحليل والتدريب، يعمل حاليًا كمحلل أداء بنادي الوحدة السعودي، وكما ترى فإن قصته تتقاطع في خطوطها العريضة مع الشاب النمساوي.

هي قصة تستحق الالتفات، خصوصًا في وسط يتهم من لم يرتدِ القميص الرياضي بقلة الدراية، ها هو شاب مصري يثبت جدارته، وينال ثقة أندية ومدربين أجانب، دون أن يحمل لقب اللاعب السابق. وﻷن ذلك لا يحدث كل يوم، فقد أجرينا معه حوارًا حدثنا فيه عن بدايته واحترافه التحليل، وبالطبع حلمه بالعمل مع «جوارديولا».

البداية دائمًا من فيس بوك

الساعة الآن 11 مساءً، أرسل لمحمود رابط الاجتماع على موقع زووم حسب اتفاقنا، لأجده في الميعاد. يظهر مرتديًا قميص ناديه: الوحدة، وعلى وجهه ابتسامة لم تفارقه خلال الساعتين القادمتين.

في البداية طلبت منه التعريف بنفسه، فأجاب: «اسمي محمود سليم، عمري 28 سنة. درست الهندسة، ولم أعمل بها، وحاليًا محلل أداء بنادي الوحدة السعودي».

كيف كان هذا التحول من الهندسة؟

كنت أحب الهندسة، درست مجال الأنظمة المدمجة «Embedded systems»، لكني شعرت أن هذا ليس المجال الذي أود الاستمرار فيه. قبل ذلك كنت أدوّن على فيس بوك آرائي حول كرة القدم، حتى وجدت إعلان على تويتر لموقع «Cairostadium» الرياضي يطلب صحفيين متطوعين للعمل بدون مقابل، نظير تعليمهم المهنة، فتقدمت ومن هنا كانت البداية.

ومتى بدأت العمل كصحفي رياضي؟

في أغسطس 2014، واستمرت تجربة «Cairostadium» حتى فبراير 2015. حينها كنت في السنة الأخيرة بكلية الهندسة، ووجدت أنه ينبغي وضع تركيزي في مشروع التخرج، وترك الكتابة. طبعًا كان لدي أحلام وردية، كتحويل المشروع لشركة ناشئة، ومن ثم بيعها بملايين. يضحك سليم بشدة، وأضحك معه أيضًا.

لكن تجربتك مع الصحافة لم تتوقف هنا، أليس كذلك؟

صحيح. عملت بعدها لموقع سبورتانا ﻷسابيع فقط، وفي صيف 2015 بدأت النشر على موقع المصري اليوم، ومنه انتقلت لموقع فيلجول الرياضي. لا زلت اتذكر القطعة الأولى التي نشرتها هناك، كانت تحليلًا لمنتخب نيجيريا خلال التصفيات المؤهلة لكأس الأمم الإفريقية 2017.

في الملعب لأول مرة

فجأة انقطع الإنترنت. اعتذرت لسليم عبر تطبيق واتساب، ولحسن الحظ عادت الإشارة سريعًا، ومعها عاد صوت محمود: «سامعني يا أحمد؟!». خفت من انقطاع الإشارة مجددًا، فسألته:

كيف حصل التحول من الصحافة للتدريب إذن؟

مع فيلجول نشرت تقارير تحليلية عن الفرق والمباريات، وصلتني رسالة من أستاذ يحمل شهادة في التربية الرياضية أٌعجِب بما أكتب، ونصحني بالسعي نحو الحصول على دورات تدريبية. تحمست للأمر، وفي فبراير 2017 انتظمت في الدورة التدريبية الأولى.

أين كانت هذه الدورة التدريبية؟

يأخذ محمود نفسًا عميقًا ويرد: «في نقابة المهن الرياضية. أنا لست خريج كلية التربية الرياضية، وبالتالي كان ينبغي الحصول على معادلة، تدعى الدورة الأساسية للمدربين، لها شقان: الأول نظري لكل الرياضات، والثاني عملي مخصص لرياضة بعينها. هناك كونت علاقات مع مدربين يعملون في الأكاديميات، ومن هنا جاءت لي الفرصة الأولى للتدريب بشكل عملي».

أين جاءت الفرصة؟

في أكاديمية Foxes، وأكاديمية Fame. الأولى تتبع لكابتن حازم إمام، والثانية لكابتن وائل جمعة. كان ذلك بعد حصولي على الدورة مباشرة. استمر الحال حتى نوفمبر 2017، حين انتظمت في دبلومة كلية التربية الرياضية، وحصلت على شهادتها في مايو 2018. كنت أنوي أيضًا التقدم للحصول على الرخصة التدريبية بالاتحاد الإفريقي C، لكنها كانت متوقفة خلال تلك الفترة.

تويتة ميدو

المتابع لسليم، يعرف أن اسمه ارتبط بلجنة التعاقدات في الأهلي. سألته عن الأمر، وأخبرني أن القصة بدأت من تويتة لأحمد حسام ميدو. وجد علامات الدهشة تملأ وجهي، فاسترسل في الرد.

سأحكي لك، ذات مرة وجدت تويتة لكابتن ميدو، حين كان مدربًا لوادي دجلة، يقول فيها إنهم يحاولون تطبيق عمل تدريبي غير تقليدي. فكرت أن أرسل له، أخبرته أنني مدرب صغير أتلمس خطواتي، وأحب فهم هذا العمل. نمت وصحوت، لأجده قد أرسل لي رسالة شخصية فيها مواعيد التمرين، ورقمه الخاص، ودعاني لمعايشة الأجواء. هكذا دون أن يعرفني إطلاقًا.

وكيف كانت هذه المعايشة؟

كانت في نوفمبر 2017. أمضيت أسبوعًا داخل النادي، أشاهد استعدادات الفريق للمواجهة القادمة أمام الإسماعيلي. لاحظت كيف يحضر ميدو للمباراة ويصمم التدريبات، وما هي تعليماته للاعبين. وبعد ذلك أرسل لي دعوة لحضور المباراة.

كيف جاءت خطوة الأهلي إذن؟

بعد المعايشة، دعاني ميدو لإحدى حلقاته مع قناة On Sport في مايو 2018. كان الهدف منها تحليل أفضل خمسة فرق بالدوري، وكنت موفق.

وقبل مونديال روسيا، كانوا بصدد إنتاج حلقات تحليلية للمنتخبات، يقوم عليها كابتن محمد فضل، ومرة أخرى وجهوا لي الدعوة. استمر التواصل بيننا بشكل ودي، ثم عرفت أنه يخطط لإنشاء لجنة تعاقدات بالأهلي، ورشحني لعضويتها، وبالفعل كان يوم 6 أكتوبر هو يوم عملي الأول كموظف بالأهلي.

وماذا كان دورك داخل هذه اللجنة؟

كان عملي هو استكشاف اللاعبين Scouting، قمت بمتابعة لاعبين محليين وأجانب، ودراسة مميزاتهم وعيوبهم قبل ترشيحهم للانضمام للفريق.

في بروسيا دورتموند ومع هيكتور كوبر

تجربة وادي دجلة لم تكن الوحيدة التي خضتها، صحيح؟

صحيح، كان لي تجربة مع نادي ألماني بالدرجة الرابعة خلال دراستي دبلومة التربية الرياضية. كنت على تواصل مع حسن بلتاجي، وهو مدرب ومحلل مصري يعمل هناك، رشحني للعمل كمحلل أداء للخصوم عن بُعد. أمدني النادي ب «software» يستخدم لتحليل الأداء، ورصد إحصائيات اللاعبين. استمرت التجربة قرابة الموسم، وكانت مفيدة.

هل بدأت هنا فهم كيف يعمل محلل الأداء وينسق مع الجهاز الفني؟

إلى حد ما، لكن تجربة أخرى جعلتني على دراية بكيفية التعاون بين المحلل والمدرب. كان ذلك حين أرسلت على تويتر لمسؤول بالدوري الإنجليزي. أخبرني أن التحليل هو خبرات تتراكم أكثر من كونه علمًا، ونصحني بالبحث عن محلل أداء داخل بلدي، والاستفادة من العمل بجانبه. لم يكن بمصر محللون محترفون بكثافة، ففكرت في مراسلة محلل أداء محترف خارج مصر.

من هو هذا المحلل؟

هو محلل فريق بروسيا دورتموند تحت 19 عامًا، حين تواصلت معه رحب جدًا. أطلعني على عمله، بداية من الفيديوهات التي يعدها للاعبين، وحتى طريقة تعاونه مع الجهاز الفني.

في فئات الشباب لا ينصب تركيز المحلل على الأمور التكتيكية والخططية، ولكن على تحسين قرارات اللاعبين داخل الملعب، لذلك استفادتي الأكبر كانت الاطلاع على تفاصيل العمل داخل الجهاز الفني، حيث يقوم المحلل بإعداد الفيديوهات وتدوين الملاحظات، ثم يجتمع مع مساعد المدرب لانتقاء ما سيعرض على المدرب، وبعدها يجتمعان به لتحويل تلك الفيديوهات والملاحظات إلى تعليمات للاعبين. ساعدني ذلك على فهم كيف تسير الأمور بصورة أدق.

وماذا عن منتخب مصر؟ هل بالفعل تعاونت مع هيكتور كوبر؟

لا، كل ما في الأمر أني تعرفت على الكابتن محمود فايز، مساعد كوبر، بعدما قمت بتحليل فني عن منتخب الكونغو، وقد وصل إليه وأعجبه جدًا. بعدها تواصلت معه، ثم دعاني لمعسكر المنتخب، وأطلعني على طريقة تحليله للمباريات، والتركيز على مكامن القوة والضعف في الخصم، وكيفية تصميم التدريبات ليستوعب اللاعبون أوامر المدرب.

بالمناسبة عرفت أن فايز يقوم بذلك مع كل من يرسل إليه من هواة التحليل، هو رجل يحب مساعدة الآخرين، ولا يبخل بعلمه وجهده.

نحو احتراف التحليل

يمكن وصف ما ذكره محمود بالخطوات نحو تحقيق النجاح، وليس هناك نجاح للمحلل أكبر من احتراف التحليل ضمن جهاز فني، إذ يكمن فيه اعتراف مادي ومعنوي بأهمية ما يراه المحلل وينقله في سبيل تطوير الفريق.

ذات يوم، رن هاتف سليم، كان ذلك من نادي الوحدة السعودي.

كيف وصلتك فرصة العمل بالوحدة؟

حين تولى كابتن ميدو تدريب نادي الوحدة نهاية 2018، أراد النادي تعيين محلل أداء. شرع المسؤولون في البحث عن أحد الأسماء، حتى وصلوا لأحد أصدقائي لكنه كان يخوض تجربة مع كابتن إيهاب جلال، فرشحني. وحين عرض نادي الوحدة اسمي على ميدو، أشاد بي للغاية، فتعاقدوا معي.

كلمة محلل الأداء تبدو مطاطة، ويندرج تحتها وظيفة محلل لمستوى الفريق، ومحلل لقوة الخصوم، وربما محلل للتدريبات، فتحت أي صفة يندرج عملك يا محمود؟

هذا يعتمد على المدير الفني، وطريقة توظيفه لي. ربما يمنحني صلاحيات كبيرة، فيطلب تقريرًا وافيًا عن الخصم، وأيضًا يجلس يستمع لوجهة نظري عن أداء فريقنا بعد التدريبات، ويشركني حتى في اختيار تشكيلة المباراة. وربما يطلب مني مدرب آخر التركيز على أداء فريقنا، وأداء الخصوم، ويرفض الاستعانة بي أثناء التدريبات.

وهكذا الأمر يختلف بحسب المدرب، وفي الوحدة تعاملت مع مدربين مختلفين، واكتسبت خبرات في كل تلك النواحي.

كيف ينعكس عمل المحلل على نتائج الفريق؟

قبل المباريات، أقوم بعرض نقاط قوة وضعف الخصم على المدرب واللاعبين. أخبرهم كيف يضغط، كيف يسجل، ما هي أبرز تبديلاته، ومتى تنهار خطوطه. وهكذا أحاول تقديم أفضل وأشمل صورة عن الفريق الذي سنواجهه.

أما داخل المباراة، بين الشوطين مثلًا، فتظهر براعة المحلل في اختيار معلومة محددة، ضمن عدد وافر من البيانات والأرقام، هذه المعلومة إن وصلت بشكل صحيح للمدرب، وقام هو بترجمتها لقرار فني سريعًا، فمن شأنها تغيير نتيجة المباراة.

مع نهاية تجربة ميدو مع الوحدة، أنت استمريت، كيف حدث ذلك؟

بصراحة الفضل بذلك يعود لميدو نفسه، فقد هاتفني وأخبرني أن النادي متمسك بي، وينبغي أن أستمر لأنها فرصتي. لاحقًا عرفت أن ميدو هو من تواصل مع الإدارة، وأوصى باستمراري.

شبح الإقالة

من يعرف الكرة الخليجية جيدًا، فهذه لن تكون المرة الأولى التي يقرأ فيها اسم «دانيال كارينو»، المدرب الأوروجوياني الذي درب الشباب والنصر السعوديين، إلى جانب منتخب قطر والعربي، هو أيضًا من قاد الوحدة الموسم الماضي للتأهل لدوري أبطال آسيا للمرة الأولى بتاريخه، ولسليم قصة غريبة معه.

كيف تعمل مع مدرب بحجم دانيال كارينو؟

يضحك محمود ثم يرد: مبدئيًا لم أكن سأعمل معه، فبنهاية موسم 2018/2019، أتت إدارة جديدة لا يعرفني فيها أحد، لذلك توقعت الإقالة إلا أنني اكتسبت ثقة المشرف على الكرة، فأشركني باختيار المدرب الجديد قبل بدء موسم 2019/2020، وعرض قتها اسم كارينو.

كنت أعرف أن الكابتن محمود فايز عمل معه سابقًا، لذلك هاتفته وأخبرني أنه سيكون خطوة عظيمة للوحدة، قدمت تقريرًا شاملًا عنه للإدارة التي وافقت عليه. لم أكن أعلم أن كارينو يأتي بفريق عمل كامل، فيهم محلل أداء.

وماذا حدث بعد ذلك؟

تمسكت بي الإدارة، لذلك وافق أن أبقى على مضض. في الأيام الثلاثة الأولى، لم يكن يتحدث معي مطلقًا، لذلك توقعت أني لن أستمر، خصوصًا حين يصل المحلل الخاص به، لكن بعدما اطلع على عملي تغيرت طريقته واكتسبت ثقته.

كارينو يشبه مانويل جوزيه، يبني علاقات قوية مع الجميع، من الإدارة وحتى العامل، ويحب أن يقاتل الفريق لأجله. لذلك كلما قمت بتحليل جيد، كان يمنحني صلاحيات أكبر، ويشيد بي أمام اللاعبين والإدارة، حتى جعلني من يدير محاضراته، ويسمح لي بلفت نظره لأمور خططية بالتدريبات.

وكيف هي علاقتك به مؤخرًا؟

ودية جدًا، أعمل مع كارينو يوميًا على تحليل فريقنا، والخصم، حتى التدريبات لم يحب في البداية أن أعمل خلالها، لكن لاحقًا استعان بي. أحيانًا هو من يسألني: هل هناك شيء جديد لاحظته في التدريبات؟ فيديو جديد لنشاهده؟ أريد أن أسمع منك يا محمود.

حلم ونصيحة

هل تظن أن المدرب المصري يرحب بمحلل أداء لم يحترف كرة القدم؟

أظن أن الأجيال الجديدة من المدربين مرحبين؛ عماد النحاس، إيهاب جلال، ميدو، علي ماهر. أغلبهم يتعاقد مع شركات إحصائية ترسل لهم تقارير، ويعتمدون عليها. ربما لاحقًا يتواجد المحلل بصورة أكبر، الوضع الآن مختلف عما كان منذ خمسة أعوام، وربما يتغير أكثر في القادم.

ما هو حلمك؟

أن أعمل مع بيب جوارديولا، ولاحقًا أتولى تدريب الأهلي. مدرب وليس محللاً!

يوجد الآن شباب يودون احتراف التحليل والتدريب، ما هي نصيحتك لهم؟

لو كان أحد مهتمًا بالتحليل، فليس ضروريًا أن يبدأ عمله بنادٍ كبير.

عليه أن يذهب لنادي مدينته، ويصور التدريبات بهاتفه، ثم يقتطع منها الحالات الهجومية والدفاعية، ويقارنها بحالات داخل المباريات ويدوّن ملاحظاته، بعد ذلك يحاول الوصول للمدرب ويعرض عليه عمله مجانًا، بنسبة كبيرة لن يرفض المدرب الاستماع إليك، بالعكس أنت ستفيده.

بمرور الوقت، ستراكم خبرة، وسيشعر المدرب بقيمة عملك، وعندها قد يطلب توظيفك، أو يرشحك لمن يبحث عن محلل.

الدراسة أيضًا مهمة، كي تكون محللًا ينبغي أن تكون مدربًا، لتفهم ما هي أهمية التدريب، وكيف تصمم وحدة تدريبية، وما هو مقياس نجاحها.

ابدأ بدورة المهن الرياضية، وحاول العمل في أكاديميات الكرة، ثم احصل على الرخصة التدريبية C من اتحاد الكرة، ولو استطعت ماديًا الحصول على دورات تحليل أجنبية على الإنترنت سيكون ذلك جيدًا، إن لم تستطع فحاول مطالعة مواقع ومدونات التحليل.


شكرًا جزيلًا على حوارك مع موقع إضاءات.

شكرًا لكم وبالتوفيق.