في حلقة نقاشية جمعتني بعدد من الأصدقاء بعد مقتل خالد سعيد وما تركه من أثر في نفوس الكثير من الشباب حينها، خاصة بعد الوقفات الصامتة والملابس السوداء ومقاومة الأمن لها، ومحاولات وأد أي حراك، كان السؤال وقتها: هل يعي نظام مبارك حجم الغضب المتصاعد في صدور الشباب خاصة بعد تزايد الحركات الشبابية المناهضة للنظام؟

حينها قال أحد أصدقائنا إن بعض الدول في مثل تلك الظروف، تأتي بأفضل الروائيين وتطلب من كل منهم صياغة رواية مبنية على الأحداث الحالية، وكيف ينتهي الوضع والسيناريو كما يراه الكاتب، وفي الغالب ما تفلح تلك الطريقة في إدارة المرحلة والوصول لحلول يصنعها الروائي، حلول لا تخطر ببال صانعي القرار من سياسيين، وبالطبع تغيب عن العقلية الأمنية. حل من خيال الروائي يمكن أن نعيشه ونحن نقرأ فقط ولا يمكن أن يتحقق، لكن الدول ذات المؤسسات تسعى وتعمل على تحويل الدفة لأفضل سيناريو تم كتابته لتقليل المخاطر في أحلك الظروف.

بعد وأد الجيش لثورة يناير/ كانون الثاني والقضاء على مكتسباتها، وفي حلقة نقاشية أيضًا، تحدثنا عن سلبيات فترة الإخوان في الحكم، لا سلبيات شخص الرئيس، لكن طريقة الإخوان في إدارة العملية السياسية منذ يناير وحتى مرحلة ما بعد الفض. فنصحني صديق أن اقرأ رواية كتبها أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية «عز الدين شكري فشير» تحمل عنوان «باب الخروج»، تلك الرواية تم كتابة سطورها في عام 2011؛ أي قبل وصول الإخوان للحكم، ورغم ذلك تنبأ الكاتب بصعود الإخوان للحكم وانقلاب مؤسسة الجيش عليهم، وما تبعها من أحداث نعيش معظمها الآن، ونأمل أن لا يتحقق كل ما توقعه الكاتب. حينها تذكرت ما قاله صديقي عن الدول وسيناريوهات الروائيين.

خطرت ببالي تلك العبارة مرة أخرى بعد ما رأيت ما يشبه ذلك في المسلسل الأمريكي «House Of Cards» حينما أتى «Francis Underwood» الشخصية الميكافيلية بالمسلسل، والذي حقق حلمه بـ«اغتصاب» السلطة من الرئيس الأمريكي بـ«Thomas Yates»، أفضل روائي وصاحب أكبر نسبة مبيعات بين الكتاب، ليكتب رواية يكون «Underwood» هو محور أحداثها، رواية تلعب في وعي الشعب الأمريكي، وتمجد شخص الرئيس في وجدانهم، فيكون هو السلطة التي لا تخطئ.



الفكرة التي بدأت تتشكل في وعيي مُذ بدأ «العرّاب» في إيضاح فكرة الرواية هي «شآبيب»، لكن ليست المدينة التي يهاجر لها شتات العرب، بل مدينتنا التي حاولنا تشييدها قبل سبع سنوات؛ ثورة يناير المجيدة.

بعد أن بدأت اليوتوبيا تتحقق كما وصفها العراب المصري «أحمد خالد توفيق» في رواية تحمل نفس الاسم، فها هي مقولة صديقي تتردد في سمعي وتراها عيني، وأنا مستمر في قراءة روايته الجديدة «شآبيب»، خاصة بعد أن قرأت ما كتبه تحت عنوان «فصل من كتاب تاريخ لا يحكونه في المدارس» الذي صنع فيه «أحمد صفوان» – أحد شخصيات الرواية – تأصيلاً وتاريخًا لفكرة أرض الميعاد، لكن تلك المرة عند شتات العرب لا اليهود، وكيف تحدث عن المدينة العريقة في أرض لم يطأ العرب بها قدمًا، وأرخ بشواهد كما لو أنها حقيقة، كيف اجتمع هو وغيره مع الرئيس الأمريكي وقادة المجتمع الدولي لتكون الفكرة حقيقة تاريخية، وأن للعرب حضارةً في تلك الأراضي وتاريخًا مُحي بأمر من السلطة المغتصبة، كيف وجد العرب بمختلف جنسياتهم بريق الأمل في تلك الأرض التي ليس لها واقع، رغم أن كلاً منهم في مدينة وقارة مختلفة، فقط يجمع بينهم معاناة الاضطهاد كونهم عربًا.

فصول ومقاطع كاملة كتبت على أنها من كتب مندثرة، خلقوا تراثًا أدبيًا زائفًا، حتى التنقيب عن آثار تلك الحضارة التي خلفها العرب قديمًا مضوا فيه، ومع الوقت صارت «شآبيب» حقيقة ماثلة أمام صانعي الفكرة، حتى ظنوا أن كل ما صاغوه هو حقيقة تاريخية، أكذوبة جوبلزية عملاقة أجاد بها صانعوها إشعال روح الشوفينية والشعبوية في الكثير ممن كانوا يشتاقون لحياة خالية من عنف واضطهاد، حياة لا عنصرية تحكمها لا مصالح ولا فئات، حتى أصبحوا جزءًا من أكذوبة عملاقة في طريق زائف.

الفكرة التي بدأت تتشكل في وعيي منذ أن بدأ «العرّاب» في إيضاح فكرة الرواية هي «شآبيب»، لكن ليست المدينة التي يهاجر لها شتات العرب، بل مدينتنا نحن المصريين. مدينة حاولنا أن نشيدها قبل سبع سنوات من اليوم، نعم مدينتنا كانت ثورة يناير المجيدة. كانت الثورة حلمًا فريدًا من نوعه جمع كل شتات الشعب المصري العاشق للحرية الرافض للاضطهاد، بدأت الثورة كما بدأت «شآبيب»، فالكل يحرص على نبذ العنف، الكل يبني ويشيد، لا فرق بين ملحد وإخوان أو مسلم ومسيحي، الكل كان يحلم بـ«شآبيب» مصرية.



شكرًا لك عراب جيلنا على كل ما قدمته لنا، كنت تقص فيتشكل داخلنا الوعي، لم تخذلنا، فكل كلمة خطها قلمك جددت داخلنا الحلم.

وكما في الرواية سرعان ما ظهرت العنصرية وعلت الأيدلوجية، كما انفجر البركان أيضًا، بركان الدولة العميقة الرافضة للتغيير، وكأنها تقول كما قال بركان «شآبيب»: لا دولة لكم ولا حلم، ونحن سرعان ما صدقنا أن الثورة خديعة وربما كنا خطأ، ربما لم يحق لنا أن نثور قط. قد يكون هذا صحيحًا جزئيًا، وهو أننا خطأ، لكن أخطأنا في استعجال البناء على أنقاض دولة لم تكن لنا يومًا، فتحولت ثورتنا لنصف ثورة بها بركان غاضب، حتمًا عندما يثور تقضي حممه علينا أولًا، فأصبحنا كمن حبلت بالحلم ثم أجهضته بجهلها حين بدا لها أن يكون حقيقة!

ربما نكون فشلنا بسبب الخلافات الدائمة بيننا، عرقية ودينية، أيديولوجية وصراعات داخلية، فشلنا بسبب الوهم الذي يعتقده كل فريق، فنتقاتل كي يبيد كل منا الآخر، وبعدها نحارب الأعداء، لكن الحقيقة هي أن قتالنا يستمر للأبد ومعه يزداد الخصوم قوة. لكن مؤكد أن الحلم باقٍ ومتجدد، وعندما يحين وقته سيكون للجيل القادم ما يثبت أن صراعنا دمرنا نحن، سيجد ما يعضده تاريخيًا، وأن لا حلم مستحيل، سوف يتعلم من أخطائنا.

فشكرًا لك عراب جيلنا على كل ما قدمته لنا دون قصد، فقط تقص فيتشكل داخلنا الوعي، شكرًا لك فلم تخذل حلمنا يومًا بقلمك، شكرًا فبكل كلمة خطها قلمك جددت داخلنا الحلم، لن نقول وداعًا لكن ندعو أن ينزل الله عليك «شآبيب» رحمته.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.