نعيش الآن في عصر غريب الأطوار مليء بالمتناقضات، الأشياء وعكسها، من يدعي الحرية ويقمعها، من يدعي الانتصار وهو خاسر، من يدعي الديمقراطية وهو مستبد، من يدعي إقامة الدولة ويهدمها، أو من يدعي الحفاظ على الغلابة من «الشعب»، وهو يسلبهم كل ما لديهم، أو حتى من يدعي نشر المعرفة وهو يقتلها. عالم مليء بالادعاء والتناقضات، من كثرة سطوعها أصبحت كالشمس المتوهجة تزيغ بالأبصار فلا تهتدي إلى حق أو صواب.

وأكثر من تلبس بالتناقضات في هذا العصر، النظام، الذي لكثرة تناقضاته، أصبح «تنحًا»، نعم تنح .. «نظام تنح» بكل ما تحويه الكلمة، فالأنظمة الآن، هنا أو هناك ولا أقصد نظاما بعينه، أصبحت أكثر تناحة في التعامل مع شعوبها، وكأنها تعاقبها على ثوراتها التي تحاول الآن قتل كل وسائلها، وربما هذا التعامل الفج، من وجهة نظرهم، الحل لمواجهة التحركات، فمثالهم الأعلى، أسد سوريا، الذي حافظ على الحكم على مدى ست سنوات، بغض النظر عن التكلفة المادية والبشرية، من خلال تناحته وعدم الاستجابة ولو خطوة واحدة، على خلاف غيره ممن سقطوا خلال أيام.

لقد تعلمت هذه الأنظمة طريقة جديدة، للتعامل مع التحركات الثورية. فهم الآن يعتمدون عدم الاستجابة لأي شيء أيًا كان سوى بالقمع، والمهاجمة الشرسة لأعدائهم، أعداء الأوطان من وجهة نظرهم، وكذلك زيادة المعاناة وزيادة أسبابها، فإذا حدثت مشكلة ما، كارتفاع الأسعار، عليك أن تتوقع أن ردة فعل النظام لن تكون التخفيف أو حل هذه المشكلة، بل إجراءات أكثر لزيادة المشكلة، وتعقيدها، ليضع الشعب أمام الرضا بالأمر الواقع، لقد تعلموا أن مجرد الاستجابة ولو صغيرة ستؤدى إلى زيادة المطالبات، ورفع سقف التطلعات، حتى تصل إلى إسقاط النظام، الشيء الذي لن يسمحوا به مجددا.

ويعتمد «النظام التنح» عدم الالتفات إلى حقائق كالشمس، ليس لعدم ظهورها أو سطوعها فهي الشمس، فغالبا ما تعاني دول هذه الأنظمة من تدهور كل شيء، التعليم والصحة والحياة والحرية… إلخ، ولكن فقط لكيلا يبدي أي استجابة تؤدي إلى رفع المطالبات. فالنظام يعتمد نفس مدرسة عكاشة في صناعة الفهم والمعرفة من اللافهم واللامعرفة لخلق تأثير إعلامي – يسير أكثر الإعلام عليها الآن، كما أنه يسير على نهج «الخليل كوميدي» في صنع الضحكة من السآمة – وجميعهم «تنح» يدعى، فلا هذا ينشر فهما ولا هذا يرسم ضحكة في الحقيقة بل جهلًا وكآبة ولا النظام يعتبر نظاما بل …!

وربما تكون مدرسة عكاشة قائمة على أساس علمي في التأثير على الشعوب واستهداف أكبر طبقة شعبية جعلته يحدث تأثيرا إعلاميا كبيرا لا أحد ينكره، كما أن نهج الخليل كوميدي قائم على أساس ما في علم النفس، فعلى الرغم «ربما» من فظاعة ما يقدمه إلا أنه تمكن من شيء جديد، جعلني أذكره، وإن كان نقدا، لذا فالنظام أيضا قائم الآن على أساس ما في السياسة وليس عشوائيا، فكل ما يمارسه النظام فقط محاكاة وتطبيق لدروس الاستبداد الشهيرة، وليست ثمة إبداع في الأمر ولكن نحن لا ندري أو ربما ننسى أو ربما جزء من سياستهم جعلنا ننسى. فالنظام يعتمد التناحة منهجا والاستفزاز أسلوبا، وهو يعلم جيدا أن هذه السياسية ستجدي نفعا. وفي تعامله ينفذ المثل القائل «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»، والنظام لا يستحي، لذا سيصنع ما يشاء. فلا تتفاجأ من قيام النظام بإجراءات قاسية، تليها إجراءات أقسى، وهكذا..

وربما يكون إدراكنا لهذه الحقيقة بداية للتعامل مع النظام التنح الذي يحتاج إلى خطة مضادة من نفس النوع، ولا بد أن نعلم جيدًا أن النظام يستمد «تناحته» من دراسة الفعل وردة الفعل بالنسبة لكل قراراته، فعصر المتناقضات الذي وفر لنا طرقًا عديدة للتعبير عن الرأي استخدمت للإطاحة بهذه الأنظمة، وفر لهم أيضا نفس الطرق لتتبع ورصد كل شيء يخص التحرك ضدها، فكل شيء مراقب، وكل شيء مرصود، بدأ من مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار والمدونات والمواقع ذات التوجهات المختلفة، سواء رصدت مباشرة، كأن تقوم الأجهزة المعنية للأنظمة بإعداد تقارير يومية عن توجهات الشارع وكل شيء أو غير مباشر باستخدام الأدوات المتاحة كجراء طبيعي لفهم توجهات المجتمع، فالمفارقة أن مواقع التواصل الاجتماعي التي وفرت الحرية للشعوب هي ذاتها أكثر وسائل التتبع التي تستخدمها الآن الأنظمة لقتل هذه الحرية وقمعها، ولكن بمفهوم يتناسب مع العصر، وذلك لسبب بسيط أن كل خططنا وأفكارنا نتشاركها عليها.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.