بعد مرور مائة سنة على ثورة 1919 لا يزال إسهامها في استعادة سيادة الشريعة الإسلامية وجعلها مصدر القوانين كلها في مختلف مجالات الحياة، بعيدًا عن أنظار فقهاء الشريعة والقانون، بقدر ما هو بعيد عن أنظار قادة الإصلاح ودعاته، وأيضًا عن أنظار النخب الثقافية والسياسية المعنية بإصلاح الشأن العام.

هناك بطبيعة الحال عدة تفسيرات لثورة 1919، منها التفسير التاريخي الذي يربطها بالجهود السابقة التي بذلتها الحركة الوطنية المصرية وتراكمت من أجل التحرر من الاستبداد الداخلي والاستعمار الأجنبي، ويبدأ أنصار هذا التفسير من ثورة عرابي التي قادها في الفترة من 1879 إلى 1882، ويصلون إلى ثورة 1919م، مرورًا بالحزب الوطني وزعيمه التاريخي مصطفى كامل.

وهناك التفسير السياسي الذي يرجع ثورة 1919 إلى سلسلة الاحتجاجات وأعمال الرفض والمقاومة التي انخرطت فيها جماعات مسلحة كالتي قادها عبد الرحمن فهمي بالتنسيق مع القادة السياسيين للثورة ضد السلطات القائمة بغرض تغيير النظام القائم، وضد سلطات الاحتلال البريطاني بغرض تحقيق الجلاء والاستقلال التام ووضع دستور للبلاد يكفل تأسيس نظام جديد، يعالج سلبيات النظام القديم ويحقق العدالة والحرية والاستقلال الوطني.

وهناك أيضًا التفسير الفلسفي الذي يرى أنصاره أن ثورة 1919 كانت جزءًا من الموجات الثورية التي اجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وزيادة الوعي القومي بصفة عامة، وبخاصة بعد إعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون، ومنها حق الشعوب في تقرير مصيرها. بهذا التوصيف الفلسفي كانت الثورة تعبيرًا عن «يقظة روح الشعب» المصري، واندماجه في حركة التغيير العالمي بعد حرب طاحنة استمرت أربع سنوات.

وفي رأيي أن كل تفسير من هذه التفسيرات يحمل جانبًا من الحقيقة، وأن جوانب الثورة مجتمعة لا تكتمل إلا بإضافة «التفسير الحضاري للثورة». ومركز هذا التفسير الحضاري يكمن في استقلالية المرجعية التشريعية والقانونية للمجتمع وكونها مستمدة من ثقافته الذاتية ومعبرة عن هويته الخاصة. وكانت هذه المرجعية قد انجرحت، وأزيحت تدريجيًّا بقوة النفوذ الأجنبي منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم بسطوة الاحتلال البريطاني ابتداءً من 1882.

وقد جاءت ثورة سنة 1919 لتكون في صميمها نقطة البداية في استعادة سيادة الشريعة وإزاحة سيادة التشريعات الوافدة والقوانين الأجنبية المستوردة؛ إذ لم تكن التضحيات الهائلة التي قدمها المصريون وهم موحدون تحت راية الهلال والصليب في مواجهة الاستعمار البريطاني، فقط من أجل الحصول على استقلال شكلي أو منقوص، أو مقيد للسيادة الوطنية سياسيًّا وعسكريًّا بشروط قوة الاحتلال، ناهيك عن أن تكون تلك التضحيات من أجل جلاء الاحتلال العسكري البريطاني وحده؛ وإنما أيضًا من أجل إنهاء الوصاية التشريعية والقانونية الأجنبية التي كانت قد جرحت هوية البلاد جرحًا غائرًا وسلبتها الاستقلال التشريعي، وهو أعز ما تملك من مقومات الحرية والسيادة والعزة الوطنية.


دستور 1923: الإسلام دين الدولة

لقد ظلت منظومة «العقيدة» و«الشريعة» و«الهوية» و«النظام العام» متماسكة في مصر وفي أغلب بلدان الأمة الإسلامية حتى نهايات القرن الثالث عشر للهجرة/النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد. وكانت تلك المنظومة يُغذي بعضها بعضًا، وتؤدي وظائفها في الواقع الاجتماعي بدرجات متفاوتة من النجاح والإخفاق عبر المراحل التاريخية المختلفة، ولم يصبها خلل حاد إلا بوقوع أغلب مجتمعاتنا تحت الاحتلال الأجنبي خلال النصف الثاني من القرنين التاسع عشر وما تلاه، وما نجم عنه من سلبيات مدمرة، وما ترتب عليه من انقسامات متعددة بين أبناء المجتمع الواحد.

وقد تجلى خطر تلك الانقسامات في فقدان التجانس في المرجعية العامة والعليا التي تستند إليها النخب القيادية، وظهور نزعة التمايز والعزلة بين الأقليات والأغلبيات على أساس ديني/طائفي. أما عندما كانت النخبة ذات مرجعية واحدة؛ فقد كانت الشريعة الإسلامية هي النهر الذي ارتوت منه جميع عناصر الهوية الذاتية للمجتمع، وفي مقدمة هذه العناصر التشريعات الناظمة لحركة الحياة وعلاقات الأفراد والجماعات، واللغة العربية، والثقافة العامة السائدة، والعادات والأعراف والسلوكيات، ونمط الحياة الذي يندرج فيه أغلب أبناء المجتمع على اختلاف انتماءاتهم وتعدد معتقداتهم ومذاهبهم.

قبل الاحتلال الأجنبي كانت مجتمعاتنا الإسلامية، بما فيها المجتمع المصري، تعاني مشكلات كثيرة أدت إلى ضعفها، ولكنها لم تشعر بأزمة في «هويتها» إلا بعد أن بدأت تقتحمها القوانين والثقافات الأجنبية، وما ترتب على ذلك من إقصاء تدريجي للشريعة ومرجعيتها العليا عن مؤسسات الدولة وأنظمتها، وحتى من الحياة الشخصية والعائلية أحيانًا، إلى جانب ما ترتب على الاقتحام الأجنبي أيضًا من تراجع الأنظمة القانونية والمؤسسات القضائية الموروثة عن أداء مهماتها، أو إزاحتها وتقليص اختصاصاتها تحت وطأة الامتيازات الأجنبية لصالح قضاء المحاكم القنصلية تارة، وقضاء المحاكم المختلطة تارة أخرى.

أصيبت مصر بكل ما سبق ابتداءً من الحملة الفرنسية، مرورًا بتغلغل النفوذ الأجنبي ووقوعها تحت الاحتلال البريطاني في سنة 1882. وكانت القيود التي فرضها الاحتلال على النظام التشريعي والقضائي هي أبشع صور العدوان الاستعماري على سيادة البلاد، وعلى هوية المجتمع، وعلى «النظام العام» الذي يربط بين مختلف التكوينات الاجتماعية.

منذ اللحظات الأولى لنهضة الحركة الوطنية المصرية أدركت هذه الحركة بجميع قادتها، وعلى رأسهم علماء الأزهر ورجال القانون والقضاء وقيادات مسيحية وطنية، أن استعادة الشريعة الإسلامية لموقع السيادة في التشريعات والقوانين المصرية هدف وطني يقع في صلب النضال للتحرر من الاستعمار، وأن استعادة سيادة الشريعة يجب أن يكون هو أساس استرداد الهوية والسيادة الوطنية والاستقلال. ولهذا فإن الحركة الوطنية بكل أطيافها التي قاومت الاحتلال، وخاصة في ثورة 1919، سارعت إلى وضع هذا الهدف التشريعي/الاستقلالي في دستور 1923 بالنص على أن «الإسلام دين الدولة».

يقول طارق البشري إن «لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 1923 ضمت ممثلين للأقليات، فكان فيها من القبط الأنبا يؤانس مطران الإسكندرية، وقليني فهمي، وإلياس عوض، وتوفيق دوس، ومن عرب البدو صالح لملوم، ومن الإسرائيليين يوسف أصلان قطاوي، ومن السوريين يوسف سابا».[1]

وأولئك كانوا جماعة من خيرة مفكري البلد، لم يستطع أحدهم أن يعارض في لجنة الدستور اقتراح النص على دين رسمي للدولة. وقد حدث أن قدم الشيخ محمد بخيت، مفتي الديار المصرية وقتها وعضو لجنة الدستور، اقتراحًا إلى هذه اللجنة بالنص في الدستور على أن يكون دين الدولة هو الإسلام، ووافقت اللجنة على هذا النص، ولم يستطع ذوو الاتجاه العلماني من أعضائها أن يعارضوه، ولم يكن لديهم حجة للمعارضة، وصدر الدستور وهو ينص فعلاً على أن «الإسلام دين الدولة».

كان هذا النص محل إجماع من كل اتجاهات الجماعة الوطنية المصرية كما قلنا. وكان هذا الإجماع أوضح صور التعبير عن مركزية الموقع الذي يحتله الدين في عملية النضال من أجل الاستقلال الحضاري الشامل، ليس الاستقلال السياسي وحده. وكان هذا الإجماع أيضًا أوضح صور التطلع إلى إنجاز مهمة التحرر الوطني، واستعادة الهوية المستلبة في آن واحد. ومن هنا أضحت المطالبة بتقنين الشريعة وتطبيق أحكامها جزءًا لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني الشامل في مصر، وفي غيرها من البلدان الإسلامية.

استعادت الجماعة الوطنية رمز هويتها بالنص في دستور 1923 على أن «دين الدولة الإسلام»، ولكن الشريعة ظلت مستبعدةً من أغلب مجالات الحياة، ومن ثم ظلَّ الخلل قائمًا في منظومة «العقيدة، والشريعة، والهوية، والنظام العام» من منظور الاستقلال الحضاري الشامل. وثابر المصريون عقودًا طويلة من الزمن على المطالبة الشعبية من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية واستكمال أركان هذا الاستقلال بإنجاز مهمة «الاستقلال التشريعي» الذي سلبه الاحتلال، وأعانته على ذلك النخب المحلية المتغربة، خاصة أنها استولت على مقاليد السلطة، وتمكنت من مفاصل الحكم والإدارة، واحتكرت مواقع صنع القرار واتخاذه.


الشريعة بعد دستور 1971

أخذت المطالبة الشعبية المصرية باستعادة الشريعة إلى واقع الحياة صورًا شتى. وشاركت في هذه المطالبة: جمعيات أهلية، وجماعات ثقافية، وحركات إصلاح، وعلماء مجتهدون. وكان لكل هذه الجهود صدى واسع عند وضع الدستور المصري الدائم سنة 1971؛ إذ نص في مادته الثانية على أن«مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، وكان وضع هذا النص إعلانًا صريحًا بأن مصر غدت في طريقها لإنجاز ما لم ينجز من أهداف ثورة 1919 من أجل التحرر نهائيًّا من الوصاية التشريعية التي فرضتها عليها الدول الأجنبية في عهود الاحتلال، كما كان هذا النص نفسه تعبيرًا صريحًا عن طموح الشعب المصري في بلوغ أقصى درجات الاستقلال التشريعي.

وقد اقتضى هذاـ فيما اقتضى العمل الدءوب لإصلاح ما اعترى التشريعات المصرية من نقص وعيب، وتعديل النصوص التي تخالف أحكام الشريعة الإسلامية. وقد بدأت الجهود الرسمية بالفعل لبلوغ هذا الأمل في الاستقلال الحضاري الشامل في سنة 1971 بإجراء الدراسات القانونية والفقهية، والاطلاع على أمهات الكتب في المذاهب الإسلامية المتعددة.

وحدثت النقلة النوعية الأساسية في مسار هذه الجهود عقب انتخاب الأستاذ الدكتور صوفي أبو طالب رئيسًا لمجلس الشعب في سنة 1978. فقد أعلن في بيان ألقاه على أعضاء المجلس بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1978 «أنه قد آن الأوان لإعمال نص المادة الثانية من الدستور التي تقضي بأن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع؛ بحيث لا يقتصر الأمر على عدم إصدار تشريعات مخالفة لهذا النص، بل يتعداه إلى مراجعة كل قوانيننا السابقة على تاريخ العمل بالدستور، وتعديلها بالاعتماد على الشريعة الغراء».[2]

وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 1978 وافق مجلس الشعب على قرار تشكيل لجنة خاصة تتولى دراسة كل الاقتراحات بمشروعات قوانين تطبيق الشريعة الإسلامية، على أن تستعين اللجنة بالدراسات والتقنينات والقوانين الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية، سواء في مصر أو في الخارج. واستنادًا إلى ذلك القرار ضمت اللجنة بعض أعلام رجال القضاء، وعددًا من جهابذة أساتذة الشريعة الإسلامية والقانون، وكان الدكتور فتحي سرور آنذاك عضوًا في تلك اللجنة، ثم صار فيما بعد رئيساً لمجلس الشعب إلى نهاية عهد مبارك في فبراير/شباط سنة 2011م. وعقدت تلك اللجنة أول اجتماعاتها يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 1978 برئاسة الدكتور صوفي أبو طالب.

وبحلول يوليو/تموز 1982، أي بعد حوالي ثلاث سنوات فقط من تشكيل لجنة التقنين، كانت هذه اللجنة قد أنجزت معظم أعمالها. وفي يوم 22 سبتمبر/أيلول 1982 أعلن فضيلة الشيخ إبراهيم الدسوقي، وزير الأوقاف آنذاك، أنه تم الانتهاء من إعداد 95% من قوانين الشريعة الإسلامية، وأنه يجري تطويع النسبة القليلة الباقية وفقًا لأحكام الشريعة للبدء في تطبيق ما تم تقنينه «في أقرب فرصة»، بحسب تصريحه الرسمي في ذلك الوقت.

وإلى اليوم، ورغم مضي ما يقرب من أربعة عقود على ذلك الإعلان، لم تأتِ «أقرب فرصة» التي تحدث عنها الشيخ، كما لم يتم إنجاز الخمسة في المائة المتبقية، وأغلبها متعلق بالحدود الشرعية. ومع ذلك لم ينقطع الأمل، ولم يتوقف في سبيله الجهد والعمل. وقد بقي ما أنجزته لجان التقنين (خمس تقنينات كاملة) شاهدًا على لحظة صدق للدولة المصرية مع نفسها، ونزعتها الأصيلة كي تتطابق مع إرادة مجتمعها، وتتصالح مع أصل أصول هويتها ونظامها العام وشخصيتها الحرة المستقلة؛ وهي الشريعة الإسلامية. واستقر في وعي الأغلبية الساحقة من المصريين: أن الشريعة الإسلامية هي من الأصول المعادلة للذات المصرية، ولهوية المصريين الجامعة.


المراجع



  1. طارق البشري: المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، بيروت: دار الوحدة، 1882، ص165
  2. تقنين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب المصري، تقديم صوفي أبو طالب، ص3