اندفع «رشيد» بجسده وسط الأجساد الكثيرة المتزاحمة في قلبِ المدينة، كل واحد يعبر إلى وجهته دون أن يُبدِر عليه أي اهتمام. ورغم الجلبة الكثيرة التي خلّفها السائرون إلى شواغلهم، وحده منْ كان مُنشغلاً بالتأمل الذي يكاد يتحول إلى شرود، يطالع المشهد بنظرة منْ يرى في نفسه شيئاً من الضرورة يدعو إلى العجب والتدقيق بكل شيء، في وجوه العابرين وواجهات الدكاكين وأحاديث الجالسين في المقاهي، ودقات المطارق المنبعثة من زنقة النحاسين، والمباني الواقفة في إباء ظاهر، والأمكنة التي تتسرّب منها رائحةُ الزمن القديم، والحياة الأثرية العتيقة التي كلما نظر إليها شعر وكأنها تبادله النظرة ذاتها، وتتكلم إليه بصوت هو للهمس أقرب.

قامةٌ مرتفعة يزيد من هيبتها المعطف البني الطويل الذي يظهر عليه القِدم، ووجه أقرب إلى الاستدارة بذقن خفيف زحف إليه زغبٌ أبيض قليل متناثر، إنها خطواته الأولى في قسنطينة، المدينة التي تركها وضاعت منه لسنوات طويلة، وقد أخفاها في قلبه دون أن تنفلت منه.

هنا كانت الكلمة الأولى والخطوة الأولى والضحكة الأولى، هنا حيث عرف السعادة والحزن والخوف والأمان، هنا تكوّنت معالم حياته الأولى من الأصوات والحركات والذكريات. هنا كان البيت الذي كان يحوي أسرته الصغيرة مع أمه وأبيه وأخته فاطمة التي تصغره بسنتين، البيت الذي كان يحمل أحلامه وضحكاته وصوت ماكينة خياطة أمه، ودندناتها بصوتها الناعم المحبب إلى قلبه، وقبضة يد والده وهو يأخذ بيده إلى المدرسة لأول مرة، وحين ارتعد قلبه خوفاً حين كان يخطر مع والده بعيداً على ظهر الجسر الكبير فيُحكِم بمسكة قوية على كفه الكبيرة فيحس بقربه ويطمئن به ثم يواصل السير بهدوء، ولمّا كان ينتظر عودته بصبر كل ليلة من شغله بمصنع الورق وهو يقبض بين يديه كومةً من الورق يطير لها قلبه طرباً ليصنع بها طائرات ورقية يبثها في فضاء الحوش بالبيت، ويشاهد تحليقها كالعصافير المنطلقة في زرقة السماء الصافية وهو يرسل ضحكات بريئة في الهواء الرطيب.

ولكنَّ الحياة تغيرت بطريقةٍ فاجأت قلبه وأربكت سعادته التي لم يُمن بها طويلاً، عاد من المدرسة بقلب خافق حُمل على الفزع من أصوات ضربات الغارات في زمن الثورة، فاهتزت حجرة القسم وارتعب تلاميذها واختبئوا، وما إن زال الخطر المحدق حتى انطلقوا إلى بيوتهم وعاد هو إلى بيته فلم يجد أثراً لشيء غير الأرجل الراكضة في فزع، والأصوات الصائحة التي تلوذ بالفرار، فهُدمت بيوت كثيرة وسقطت سقوفها وتناثر كل من بداخلها، كأنها لم تكن موجودة يوماً، واهتز قلبه حين لمح من بعيد والده وسط المحدقين في الخراب فهرع نحوه والتصق به منتحباً وباكياً كما يلتصق الغريق في عرض البحر بقارب النجاة، وقد كان له الأمل الوحيد الذي انتشله من الفراغ الداهم الذي زحف إلى حياته السعيدة، فجعل منها ذكرى سيئة تهفو على روحه وتلتصق بوجدانه، مهما تراكمت حوله السنين.

كان يتعلق بالشجاعة المتوهجة من عينيه الحادتين وإقدامه حين يعبر معه الجسر الكبير، يحادثه كثيراً ويعلّمه كثيراً ويلعب معه كثيراً حتى المساء، حتى صارت هذه اللحظات الثمينة جزءاً لا ينفصل عنه ولا يمر به اليوم دونه، ولمَّا مات والده بعد سنوات عقب الاستقلال راح يواصل دراسته خارج البلاد، ولم يعد يربطه شيء بهذه المدينة غير المعطف الذي ورثه عن والده وقد جاء به اليوم، ولكن موجَ الذكريات لم يزل يطوف بذاكرته هناك ويعرض عليه صوراً ثابتة من الماضي تتهافت عليه وتقبل نحوه بالحنين المتأصل داخله، وهو يعيد الإحساس بها كأنه يعيشها للحظة، وقد كبرت معه وكبر معها ولم تغادره كظله المصاحب له داخل أسرته الجديدة وحياته الراهنة، فالقلبُ لا ينسى الأشياء التي نمت بداخله وأحبها. إنه أقوى من أن يخطو نحو بابه النسيان، فالذكريات تنزوي في أقصى القلب مرتكزةً بقدمين قويتين لا شيء بقادرٍ على أن يدنو منها.

توغل في المسير يطاوع قدميه على المشي دون تعب، وهو يرنو لكلِّ ما يطالعه أمامه حتى عرج إلى الحي القديم الذي كان يسكنه، وراح يبحث ويحدق بنظرةِ منْ أضاع وجوهاً وأماكناً يعرفها بعينها لعلّه يبصرها أمامه، لشد ما تغيرت قسنطينة بحياتها الجديدة وهي تنعمُ تحت سماء الحرية ونعيم الاستقلال، لكنه يعرفها جيداً، إنها تحب أن ترسخ برائحتها الأصيلة وروحها القديمة التي تجعل منها تحفة أثرية أجادت يد صانعها ببراعة فيها، الأقواس الرومانية والمساحات الممتدة، الجامع الكبير، والشوارع العتيقة وجسر باب القنطرة الذي يربط بين جمال السماء والأرض.

في هذه المدينة تتجلى العواطف سابحة في الهواء النقي، وتنفث نفسه سعادتها التي طال فقدها، فيراها مُجسمة على ملامح الوجوه والطرقات، ويخرج القلب من عزلته الطويلة فيحلق بغير جناحين، إنها الحلم البعيد الذي ظل يحلق فيما وراء البحار حتى ارتكز على هذه الأرض وصار حقيقةً.

رهف سمعه إلى نغمات من الموسيقى العذبة التي يدركها بجميع حواسه فلا يخطئها، إنها أغنية من «المالوف» تتهادى من آخر الشارع، مهما اختلفت أصوات الموسيقى وانسربت إلى نفسه فإنه لا يخطئ قلبه هذا الصوت المحبوب.

إن الموشحات الأندلسية تعرف طريقها إلى قلبه، إنها تناديه وتعرف أنه يحبها ويشدو بسماعها فلا يملُّها، وقبل أن يتابع الطريق الطويل، عرج إلى المقهى الذي وجده بطريقه حافلاً بالجالسين، دخل واتَّخذ له مكاناً على كرسي جانباً وراح يرشف من فنجان القهوة على مهل وهو يتابع أصوات ضحكات المتحدثين، وقام من مكانه يتحسّس معطف والده وبداخله شعورٌ عميق يجعله يستشعر وجوده معه واقفاً بجانبه، ثابتَ النظرة بابتسامة من القلب، ومضى نحو الجسر يحمل حنينه وذكرياته لقسنطينة، التي سيحكي لها الكثير حتى المساء.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.