تشعّبت مباحث علم الكلام وأصول الدين وتكاثرت مسائله.
ويحتاج الناظر في تلك المباحث والمسائل إلى صبر جميل ونظر دقيق كي يصل إلى مقاصد
الحرية وحقائقها في لغة القوم ومصطلحاتهم.

وبتبسيط لغتهم ونقلها إلى لغتنا المعاصرة تبينَ لي: أنه من أكثر خصوصيات مفهوم الحرية في الرؤية الإسلامية المبنية على عقيدة التوحيد؛ أن المؤمن ليس بيده أن يتنازلَ عن حريتِه؛ لأنها بحكم ارتباطها بالعبودية لله، سبحانه، وتوحيده لا يمكن التنازل عنها، أو هي غير قابلة للتنازل. وإذا فرضنا وتنازل شخص مؤمن عن حريته؛ فإنه يكون في حكم الذي خرج من عقيدة التوحيد وارتد إلى عبودية غير الله من الأوثان والأصنام الجمادية أو البشرية أو حتى الحيوانية.

وتلك هي القضيةُ الكبرى في مسألة الحرية التي جاء بها
الإسلام، وإليها أشارت آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى:

ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ ۙ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ.





سورة الأعراف: 157.

إن استعباد الرهبان والأحبار لأهل الكتاب هو القضية
المفصلية التي تحجبهم عن الحرية، وإن حجبَهم عن الحرية يمنعُهم من إدراك عقيدة
التوحيد. وقد صوّر القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى:

قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.





سورة آل عمران: 64.

ومعنى هذا أن عقيدة التوحيد المبنية على قول «لا إله إلا الله» تحطمُ في داخل الإنسان أصنام الشهوة والخوف التي تسلبه حريته، وتحطمُ في الوقت عينه الأصنامَ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تنشأ في سياق العلاقات المتبادلة والمصالح المادية التي يلهثُ خلفها أبناء المجتمع أو أكثرهم، وتصبح قيدًا مانعًا من ممارسة الحرية في نور «التوحيد» عقيدةً وإيمانًا وخلقًا وعملًا.

ومما ينتج عن «الحرية» النابعة من عقيدة التوحيد ومن كلمة
«لا إله إلا الله»، أن كلَّ نسقٍ اجتماعي أو سياسي يسمحُ لفرد، أو حزب، أو فئة، أو
طبقة، أو مؤسسةٍ، أن تستضعفَ الأفراد أو الفئات والطبقات الأخرى وتستبد بها، يظلُّ
ظلمًا للنفس، ويبقى باطلًا، ولا يقره منهج الإسلام؛ لأنه ينافي المساواة في تحمل
الأمانة على قاعدة إفراد الله سبحانه وحده بالعبودية.

تلك بعض معاني الحرية المستنبطة من كلمة التوحيد: لا إله إلا الله. وهي واردة بإسهابٍ في كتب العلماء الأقدمين من المتكلمين والمختصين بأصول الدين. وكل ما فعلتُه هنا هو أنني حاولت إزاحةَ القشرة «اللغوية» الموروثة لغرابتها- في بعض الأحيان- على غير المتخصصين في «أصول الدين وعلم الكلام».

أمّا أولئك العلماء الأقدمون فقد أشبعوا مسألة الحرية
بحثًا ودرسًا، وتناولوها ضمن مسائل كثيرة مِنْ مثل: الجبر والاختيار، أو التسيير
والتخيير، والقضاء والقدر، والوعد والوعيد، والحسن والقبح، والصلاح والأصلح. وأنصح
المبتدئَ في هذا الموضوع بقراءة «رسالة التوحيد» للإمام «محمد عبده» [كبداية]، فهي
مكتوبة بلغة سهلة ومعاصرة، وهي قريبة المنال لمن أراد شيئًا من التوسع ومدخلًا للاستزادة،
ومنْ أراد مستوى أعمق فعليه قراءة «المختصر في أصول الدين» للقاضي عبد الجبار، أو
قراءة «إنقاذ البشر من الجبر والقدر» للشريف المرتضى، مثلًا.

ومن خلاصات مناقشات العلماء ومطارحاتهم بشأن كلمة
التوحيد وجدتُهم يؤكدون بصيغ متنوعة، وبعبارات متعددة على معنى مركزي للحرية وهو:
أن الحريةَ هي روحُ دينِ الفِطرة. وإذا كان ذلك كذلك، وهو كذلك، فإن إجالة النظر
في مجملِ آيِ القرآنِ الكريم تمدُّنا بكثيرٍ مِن الأدلةِ الساطعةِ على مركزية «الحرية» بكلِّ
أبعادِها في الأصول الإسلامية، وأن من هذه الأصول النابعة من كلمة التوحيد الآتي:

1. الوعدُ والوعيدُ

الوعدُ والوعيدُ، وهما في القرآن يُثبِتَانِ وجودَ
الحريةِ وفِطريَّتَها. ولولا الوعد والوعيد لما كان للحريةِ معنى، ولولاهما ما كان
مِن موجِبٍ لكُلِّ ما حَضَّت عليه آيُ القرآنِ مِن عَمَلِ الخير واجتنابِ الشر،
ولا مِن مسوغٍ لمعاقبةِ المسيءِ وإثابةِ المُحْسِن، ولا من موجب لدخول الكفار
النار، ودخول المؤمنين الجنة. وقد عدَّ المعتزلة «الوعد والوعيد» من أصولهم الخمسة
في دفاعهم المجيد عن مكانة العقل وحريته في الإسلام، لكل بني آدم في كل زمان ومكان.

2. كُنهَ النفسِ الإنسانيةِ

تؤكدُ آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم على أن كُنهَ النفسِ الإنسانيةِ متنزهٌ عن المادة؛ بخلافِ البدن الإنساني المتحيز مادةً ومكانًا وزمانًا. وهذا واضحٌ بداهةً؛ إذْ مِن غير الممكنِ القولُ- إلا مجازًا- مثلًا: إنَّ النَّفْسَ مُدَوَّرةٌ، أو مُربعةٌ، أو نحيفة، أو سمينة، أو طويلةٌ، أو قصيرةٌ… إلخ، فالنفسُ غيرُ منحصرةٍ في دائرةِ المادة، بل ممتدةٌ القوى متجهة نحو الأشياء؛ ولهذا اتسعت سلطاتُها على الكائنات التي تدركها، وهذا الاتساعُ مصدرٌ مِن مصادر حريتها، وعلامة من علائم جولانها في عوالم فسيحة، ودليل إضافي على أن الحرية في الرؤية الإسلامية نابعة من داخل الإنسان لا من حصيلة علاقات القوة الخارجية التي تحيط به، كما هو حال الحرية في الحضارة الغربية الحديثة مثلًا.

3. قوة العقلِ

إن آيَات القرآنِ التي نبَّهت على العقلِ وبَيَّنَت
مكانَتَهُ ووظيفتَه في البحث والنظرِ والتأمل؛ تعني ضِمن ما تعني أن قوتَه
الإداركيةَ إذا جَالَت بين الحقائق الجزئية فإنها لا تشعر بذاتها مقيدةً بحكمٍ
واحد؛ إذْ لو كان الأمرُ كذلك لقضى جميعُ البشر في كلِّ الشئونِ قضاءً واحدًا،
وقالوا برأي واحد؛ مما كان ينشأ عنه حتمًا تماثُلُ أعمالِهم، وهذا مُحالٌ وغير
مشاهد. وعليه فإن قوة العقلِ حرةٌ في الاختيار والحكم، وغير مقيدة باختيار واحد أو
بحكم واحد.

4. المغزى من الأخلاق

العقلُ الذي أشادَ به القرآنُ ودعاه للتدبُّرِ والتمحيصِ
يقول لنا: إنه عندما تُلغى الحريةُ؛ تصبحُ المحاكمُ عبثيةً، ويُمسى القضاة مُهرِّجون
في سيرك، والعدالةُ تغدو باطلةً ويا للهول. وفي تلك الحالة يقول لنا أيضًا: إنه لن
يكون من معنى مقبول أو مغزى معقول لِذَمِّ الكِبْر والكذب والظلم، ومَدْحِ
التواضُعِ والصِّدق والعدلِ. أليس كذلك؟!

5. القدرة على الاختيار والترك

ماهيةُ الحريةِ كما تَدُلُّنا عليها آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم ليست في
الاختيارِ بين الخيرِ والشرِ، أو حتى الميلِ إلى أحدِهِما دون اضطرار؛ وإنما هي في
القابليةِ؛ أقصد قابليةِ القيامِ بعملٍ أو تركِه، أو القدرةِ على اختيارِ أحدِ خَيرَين
متساويَيْن أو مُتفاوتَيْن؛ وليس الجنوحُ للشرِّ مِن مقدماتِ الحريةِ أبدًا في
المعنى القرآني. بل نجد في اعتقاد أهل السنة والجماعة أن مرتكب المعاصي بتعمُّدٍ منه
تنقصُ فيه الحريةُ بقدرِ ارتكابِه، تبعًا لأن الإيمان يزيد وينقص، وكلما تمادَى في
المعاصي قَعَدَتْ به وأرجعَتْه إلى مقاعِدِ العبودية المنافية للحرية.

6. فعل الخير والحضّ عليه

الخيرُ وفِعْلُه والحضُّ عليه والوعدُ بحُسْنِ عاقبتِه؛ قيمةٌ كُبرى مِن قِيَم الفِطرةِ التي نَبَّهَت إليها آياتُ القرآن ودَعَتْ إلى المُسارعةِ في عمل الخيرات. والخيرُ بمعناه الفطري القرآنيُّ هو التُّربةُ الخصبة لِنَبْتَةِ الحريةِ؛ إذ إن مَرْبَى الحريةِ النَّفسُ الصالحةُ، والنَّفْسُ الصالحةُ تفعلُ الخير. والخيرُ وحُبُّه مِن قِيَمِ الفطرةِ السليمةِ. والواقعُ يشيرُ إلى أن المجتمعات التي تزدهر فيها الأعمالُ الخيريةُ هي الأكثرُ تمتعًا بالحرية، وهي أيضًا الأكثر أمنًا والأكثر ازدهارًا واستقرارًا.

7. لا عصمةَ لأحدٍ

آيُات القرآنِ في مُجمَلِها تؤكدُ أنه لا عصمةَ لأحدٍ من الخطأ؛ إلا لنبيٍ أو رسولٍ عصمه الله تعالى. وكثرةُ الحضِّ في القرآنِ على التوبة دليلٌ لا يمكن دفعُه على دخولِ عمومِ البشر في عُمومِ إمكان الخطأ. ومِن عظمةِ قِيَم الفطرةِ أنها تتأبَّى على قِيمةِ العِصمة، ولا تقبلُها ضِمْن منظومَتِها؛ لأن العصمةَ تعني امتلاكَ الحقيقةِ المطلقةِ، وتعني إلغاءَ حرِّيَّةِ الغَيْر، أو الانتقاصَ مِنها، وكلمة «إخرس» هي مغلاق الحرية ومفتاح ادعاء العصمة، وهذا كله مُناقضٌ لِقِيَمِ الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وحديث الحرية وأصولها في تراث الإسلام وحضارته موصول وممتد من أصول الدين
وعلم الكلام إلى أصول الفقه. ويكفي ما أوردناه هنا من أصول الدين وعلم الكلام في
الدلالة على ما أردناه في هذا المقام.

وسنجد في الفقه وأصوله- في مقالات لاحقة- أن التكوين الفقهي والأصولي للحرية يتجلّى في ثلاثة معانٍ كبرى هي القدرة، والمنعة، والإرادة: القدرة على التصرف، والمنعة من سلطة غير القهرية، والاستقلال بالتصرف والقدرة على حماية الخصوصية، واحترام خصوصيات الآخرين. ولمعاني الحرية في الفقه وأصوله حديث مستطرد، إن شاء الله تعالى.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.