تزلّ أقدام البشر حين لا يعرفون متى يكون عليهم أن يضعوا حدًّا لأحلامهم

ميكيافيلي

(1)

تداولت الثقافة العربية التفكير في التجربة التركية، ولكن محكوم عليها مسبقا بـ«الأحادية»، فهي إما علمانية أو إسلامية، وربما رأسمالية نيوليبرالية. الجميع فكّر في التجربة بما يحقّق أحلامه أو يحميها لا بما يصفها في نفسها. لم يعانِ «المراهقة الفكرية» أولئك الذين رأوا بأن إردوغان خليفةٌ مُنتظر، فحسب، بل كذلك العلماني الذي أراد أن يجرّدها من إسلاميتها، أو من شاركه تلك الرؤية بغرض حماية احتكاره لأسطورة «المشروع الإسلامي» السرية. ثمة صيحات أحدث اليوم، هناك من يؤكد قومانية السياسة التركية بكل أبعادها، وهناك أيضا من يدعو إلى ثورةٍ يساريةٍ حقوقية على تجربة محض نيوليبرالية، لا يهم بعد ذلك إن كانت بنكهةٍ قوميةٍ أو أصوليةٍ أو حتى علمانية. المثير اليوم أن هناك من ينتقد العدالة والتنمية لأن انتشار القيم الإسلامية المحافظة التي يدعمها في المجتمع التركي يهدد الازدهار الرأسمالي لتركيا[1]!.

أيًّا كان البعد الغالب في التجربة أو بنيتها الخاصة، إلا أنها قدمت كدولةٍ إسلامية تقع في التَّماس الجغرافي مع العالم العربي، وتشاركه العديد من إشكالياته البنيوية، من قبيل: هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية، والجدل حول علاقة الدين بالسياسة، وإجهاض الديموقراطية والحريات، والفشل الاقتصادي والتنموي، نموذجًا عمليًّا للحل التحديثي للدولة – كما صاغه

عزمي بشارة –

بدرجةٍ أو بأخرى: {أمة مواطنة نحو الداخل، وقومية (أو أممية ثقافية، أو متخيّلة بتعبير بندكت أندرسون وبشارة) نحو الخارج}. فالعدالة والتنمية على مدى وقتٍ طويلٍ كان نموذجًا لحزبٍ ديموقراطيّ ليبرالي استطاع عبر صيرورةٍ مناورة برجماتية معقّدة معتمدًا على رسملة الاقتصاد الوطني تحييد المؤسسة العسكرية سياسيًّا، بل وتطوير النموذج الجمهوري القومي الصارم الذي حكم تركيا الأتاتوركية الحديثة مخلّفا العديد من الإشكاليات الوطنية والاجتماعية إلى نموذجٍ أقرب إلى الكوزموبوليتانية، قادر على استيعاب الأكراد والأرمن نسبيًّا (يتعرض هذا للتهديد اليوم بسبب ما نسميه سياسات اليأس). تمّ ذلك بالتوازي مع سياساتٍ خارجية اكتست بملامح الأممية الإسلامية المتنامية، كما تجلّت في إعادة صياغة العلاقات التركية الإسرائيلية والالتزام بموقفٍ داعمٍ سياسيًّا واقتصاديًّا لقضايا الشعوب الإسلامية عالميًّا.



أيًّا كان البعد الغالب في التجربة التركية، إلا أنها قدمت نموذجًا للحل التحديثي للدولة الإسلامية والعربية: أمة مواطنة نحو الداخل، وأممية ثقافية نحو الخارج

كانت الآمال معقودةً، بعد وصول الإخوان المسلمين إلى سُدّة الحكم في مصر، على تكوين تحالفٍ سنيّ ديموقراطيّ قويّ في الشرق الأوسط كان من المفترض أن يلعب دورًا حاسمًا في إنهاء صراع الثورة والثورة المضادّة في أكثر من دولةٍ عربية، وفي ردع المشروع التوسعي الإيراني بمشروعٍ يحترم الإرادة الوطنية لشعوب المنطقة، إلا أن الإطاحة بالإخوان المسلمين قلبت موازين المنطقة، وأعادت تحالف الأنظمة اللا ديموقراطية إلى الصدارة، كما خلقت فضاءً لا نهائيًّا للتمدُّد الإيراني. الأخطر من ذلك على كل حال هو أن البديل الإسلامي بين البدائل المطروحة عاد عاريًا من المكوّن الديموقراطي، لتختطفه تنظيماتٌ إجراميةٌ جسّدت مركزًا من أسوأ مكوّنات الإسلاموية المعاصرة. كان لدى القوى الديموقراطية، والحديث هنا عن المكوّن الإسلامي منها كونه المكوّن الأقوى وصاحب السردية الأكثر تكاملاً وتماسًّا مع الواقع العربي، وعيًا بأنها أمام أزمةٍ استثنائية وكان عليها الاختيار بين المناورة البرجماتية وبين الحفاظ على خطابٍ بديلٍ يشكّل «أفق انتظار».


(2)

داخل تيهٍ مظلم، تكون مجرّد الإشارة إلى أفق نجاةٍ أو طريقٍ بديلٍ غايةً وأولوية، أما المناورة للحصول على أكبر نصيبٍ ممكنٍ من الكنز الملعون فهي أسهل طريقٍ إلى الهلاك. هكذا كانت وضعيّة المنطقة وخيارات الإسلام الديموقراطي. فعلى الرغم من قُبلة الحياة التي أعطتها هزيمة 30 يونيو للإخوان المسلمين، إلا أنهم بقوْا كالمنبت، لا مكسبًا سياسيًّا قطع، ولا مبادئ أو خطابًا ناضجًا أبقى، فالفقر السياسي والفكري المفزع في صفوف الجماعة أدى بها إلى موقفٍ يمتاز برعونةٍ استثنائيةٍ ومراهقةٍ بالغةٍ في التعاطي مع الشأن المصري لتجديد حضورها كبديلٍ للنظام القائم، أو كمكوّنٍ ناضجٍ على الأقلّ في معارضةٍ قائمةٍ أو افتراضية. وعلى الرغم من الحنكة السياسية التي تمتعت بها قيادة النهضة التونسية، إلا أن الحساسية الزائدة والرغبة المبالغ فيها في الاندماج بالنظام جرّدها من خصائص البديل ومسخ حضورها في المشهد السياسي التونسي.

بالعودة إلى تركيا، فقد أدّت الصحوة المتأخرة إلى نتائج مخيّبة؛ فإصرار الرئيس التركي

رجب طيب إردوغان

على الاستحواذ على السلطة، وما صاحب ذلك من استبعاد رفقاء النجاح في التجربة وإثارة الجدل حول نزاهته ونزاهة العائلة، أفقد التجربة التركية نماذجيتها وحوّل الحديث عن التجربة إلى الحديث عن ديكتاتورية إردوغان الذي فقد هو نفسه بدوره كاريزما القائد الشعبي البسيط القادم من حي قاسم باشا الفقير، مقابل أبّهة السلطان الديكتاتور الأناني. تصاعدت كذلك حدة الانتهاكات الحقوقية التي لم تعد تستخدمها فحسب الأنظمة العربية التي لا ينشغل أحدٌ كثيرًا بكلامها في القضايا الحقوقية، بل صار ديْدنًا للمعلّقين الحقوقيين حول العالم[2]، فقد صارت تركيا مضربًا للمثل للأنظمة الديكتاتورية حيث يُسجن الصحفيون وتُهدّد كوادر المعارضة بالملاحقة كما حدث مؤخّرًا. التعاطي العسكري العنيف مؤخرًا مع القضية الكردية كذلك صار محلّ نقد اليسار والمدافعين عن الأقليات، في تغاضٍ واضحٍ ومتكرر من قبل هؤلاء المثقفين عن الدعم المادي والمعنوي الذي يتمتع به الأكراد من قبل الرأسماليات الغربية[3].

بدأت الإجراءات القانونية تمس الشأن السياسي كنوعٍ من المواجهة الصارمة لقوى مدعومةٍ من جهاتٍ معاديةٍ للديموقراطية، ولم يكن نقدها في ذلك الوقت سوى ضربٍ من الرومانسية الساذجة على أفضل تقدير؛ لكنها مع الوقت تحوّلت من تكتيكٍ مؤقتٍ وجزئيّ إلى نهجٍ إستراتيجيّ لمواجهة الاعتراضات على سياسات العدالة والتنمية، أو إردوغان، وصارت اتهاماتٌ ذات سمعةٍ ملوّثة من نوع: الخيانة، والانحياز للإرهاب، وإهانة مؤسسات الدولة، وإهانة رئيس الجمهورية، تُتداول بكثرة على لسان رئيس الجمهورية وفي عرائض النائب العام.



بدأ إجهاض خطاب الإسلام الديموقراطي كخيارٍ بديل عندما غلب التوتر الخارجي على معالجة القضايا الداخلية في تركيا، وعندما لم يتنحّ الطموح الشخصي للرئيس في الوقت المناسب لصالح المشروع.

هكذا بدأ مسلسل إجهاض خطاب الإسلام الديموقراطي كخيارٍ بديل للجنون الذي خيّم على المنطقة، من داخل تركيا، عندما غلب التوتر الخارجي على معالجة القضايا الداخلية والشعبية العاجلة في تركيا، وعندما لم يتنحّ الطموح الشخصي للرئيس التركي في الوقت المناسب لصالح إنقاذ المشروع. أدّى التعاطي التركي مع المسألة السورية بمنطق دعم الإسلام الديموقراطي في العالم العربي إلى تردد تركيا في التدخل المباشر لحماية حدودها الجنوبية وتوفير منطقةٍ آمنة في الشمال السوريّ لتوطين اللاجئين ومنع التمدد الكردي؛ ولم تلتفت القيادة التركية إلى أولوية الأمن القومي في التعاطي مع المسألة السورية إلا في وقتٍ متأخرٍ بعد التدخل الروسيّ والتقدم الكردي. اضطرت تركيا إلى دعم جماعاتٍ متطرفةٍ تحمل مشروعًا لا ديموقراطيًّا، لكن كل تقدمٍ عسكريّ لتلك الجماعات وازته هزيمةٌ سياسية لخطاب الإسلام الديموقراطي ولمشروع الثورة.

أخيرًا اضطرت تركيا إلى تلويث سياساتها بالتحالف مع السعودية التي كشف الوقت أنها ليست على استعدادٍ لتغيير حقيقيّ في إستراتيجيتها المتعجرفة في المنطقة. ومرة أخرى، فشلت المرونة البرجماتية داخل التيه المظلم في تحقيق مكسبٍ ولو جزئيّ لتركيا التي باتت محاصرةً ووحيدةً في مواجهة أعدائها المحدّقين بها.


(3)

يطرح خطاب الإسلام الديموقراطي «أفق انتظار» ليس فقط في المنطقة العربية؛ ولكن في عالمٍ مهدّد أمنيًّا أيضا. فعلى الرغم من تصوير عددٍ من مثقفي اليسار والمثقفين الموالين لإيران[4] للإسلاموية كحليفٍ إقليميّ للرأسمالية الغربية، إلا أن الواقع، إذا ما تجاوزنا التصريحات الركيكة، لا يؤيد ذلك. فالموقف المقاوم (أو الممانع) تجاه الإمبريالية الصهيونية والتمسك بالثوابت الفلسطينية التاريخية لم يعد يعبر عنه بوضوح سوى الإسلام السياسي، كما أن صعود الإسلام الديموقراطي في العالم العربي يضمن تراجع أولوية السياسة الأمنية في الديموقراطيات الغربية ذاتها بما يجرّد الأجنحة اليمينية من أقوى حججها، ويتيح الفرصة للقوى التقدمية. أكثر من ذلك، أن المتابع اليوم للقواعد الشبابية الإسلامية يلاحظ بوضوح ما يمكن أن نطلق عليه «تمركس الإسلاميين» فيما يخص تقديم نقدٍ طبقي للعلمانية العربية والانهماك بالدور الإمبريالي الذي تلعبه السياسات النيوليبرالية وضرورة مواجهتها، كذلك تبنّي الإستراتيجيات الراديكالية التي امتازت بها الحركات اليسارية والتقدمية، (وهي ظاهرة ليست سلبيةً بالجوهر)[5].

أن تقدم خطابًا ديموقراطيًّا متمايزًا بوضوح عن مشاريع ملوّثة ومتنزّهًا عن التورط في حمأة صراعاتٍ صفرية سواء داخليًّا أو خارجيًّا، أو أن تضع حدًّا لأطماعك العملية في الوقت المناسب، هو أفضل ما يمكن أن تفعله عندما تفقد أفق الأمل ويسيطر الجنون على الجميع؛ وهذه هي «سياسات اليأس» التي نختارها.


[1] يقدم هذا المقال نموذجا لنقد رأسمالي للعدالة والتنمية:

Halil Karaveli, Turkey: A Capitalist History

.

[2] أثارت الانتهاكات الحقوقية حفيظة المثقفين العلمانيين الذين لا يشعرون بالارتياح تجاه العدالة والتنمية. سيلا بن حبيب فيلسوفة أمريكية-تركية كتبت في تعليقا على تعاطي الرئيس التركي إردوغان مع المعارضة بعنوان:

المنعطف السلطوي لتركيا

.

[3] يتسرّع المثقفون اليساريون في اتخاذ مواقف سلبية تجاه قوى سياسية ديموقراطية في مواجهة قوى إجرامية نتيجة اعتبارها قوى إمبريالية لعلاقتها الواهنة غالبا بالولايات المتحدة. فمثلا، اتخذ المفكر الكبير نعوم تشومسكي موقفا شديد السلبية من مأساة البوسنة والهرسك نتيجة التعاطف الأمريكي معها. مثلا:

RELATIVISM OF JUSTICE: THOUGHTS ON NOAM CHOMSKY, NIOD REPORT, DUTCH GOVERNMENT, U.N. & more

.

[4] يرى المثقف الماركسي المعروف سلافوي جيجك أن الأصولية الدينية في الشرق الأوسط هي نتاج إهمال الغرب الليبرالي لليسار الراديكالي الذي يمثل البديل. مثلا:

سلافوي جيجك: قراءة العالم بعيون يسارية

(إضاءات، نقلا عن الجارديان).

[5] يمكن أن نضرب مثالا واضحا على ظاهرة ما نسمّيه ’’تمركس الإسلاميين‘‘ بشخصيتين تتمتعان بجماهيرية عالية بين الشباب الإسلامي، وهما: حسام أبو البخاري، و شهيد بولسين، الذان يمثل نقد النيوليبرالية مكوّنا جوهريا في خطابهما الفكري. كذلك تبين حركة أحرار ذات الطابع الإسلامي وبعض مكوّنات الجبهة السلفية عن تأثر بالتنظيمات اليسارية. كما أن التوجهات ما بعد الكولونيالية التي تبناها بعض الإسلاميين اليوم في نقدهم الذاتي للحركات الإسلامية التقليدية تكشف باستمرار عن رفض لـ لبرلة الإسلام واستيعابه رأسماليا.


المراجع