كانَ لفلسفة باولو فريري التربوية أثرٌ دامغٌ في جعل التعليم حقًا من حقوق الإنسان الأصيلة، شأنُه شأن الحق في الحياة، والحق في المسكن، والحق في العمل… إلى آخره. ففلسفته تضع أسُساً تُبرِّر إدراج التعليم ليكون من ضمن حقوق الإنسان.

بالإضافة
إلى هذا، فقد كانَ فريري صاحب نفوذ على المفكرين الآخرين حيث أوحى لهم -من خلال
فلسفته- بالكثير من الأفكار. ومن الناحية الواقعية، كانَتْ فلسفته حجر أساس لعدد
من المؤسسات المهتمة بالشأن التعليمي.

وفى
هذا المقال توضيحٌ لإسهاماته في ترسيخ التعليم كحق من حقوق الإنسان. كما يقومُ
المقال بتوضيح آثار باولو فريري على غيره من المفكرين التربويين؛ وكذلك آثاره الواقعية
سواء في البرازيل أو في العالم أجمع.

التعليم حق من حقوق الإنسان

1. أهمية التعليم لدى باولو فريري:

في إجابته على
سؤال «لماذا نتعلم؟»، استعرض باولو فريري عددًا من الأمور التي لا يمكن تحقيقها
إلا من خلال التعليم. أول هذه الأمور هي «المسئولية لخلق التاريخ» والذي يعني
ضرورة التخطيط، والتسديد، والحلم، والحب. ومثلما التاريخ يقدم إمكانية للتغيير،
فهو أيضًا يتطلب من الإنسان فهم قدرات إمكانياته وفرصه، لأن هنالك أمورًا من الصعب
تغييرها.

ثانيًا، «فضول الإنسان»، والذي هو أساس معرفة الإنسان بصفة عامة، وأساس معرفته بما ينبغي أن تتم إعادة اختراعه من جديد. وسؤال «لماذا نتعلم؟» في حدِّ ذاته يُعبر عن فضول الإنسان.

يقول فريري في
أحد تقارير اليونسكو:

إن الفارق الأساسي بيني وبين الكلاب الألمانية التي أملكها في ساو باولو، هو أنها لم تسألني عن أي شيء أبدًا… أمّا أنا، فأسأل يوميًا. أنا أنمو وأنا أتساءل ولسوف أموت إذا لم أسأل! وإنه لمن المريع كيف أن بعض المعلمين والآباء والأمهات والمربيين والبالغين وحتى الطلبة المتخرجين يقضون على احتياج ومتعة السؤال.

ثالثًا، «التعليم من أجل التحرر» حيث لا وجود لتعليم تحريري لا يعطي الحق في إلقاء الأسئلة، مؤكدًا أن «الوجود يتطلب اتخاذ المخاطرة! وإن مخاطرة عدم السؤال لهي أكبر من مخاطرة السؤال».

أخيرًا، فالتعليم يكون «من أجل أن يكون للجميع ولتحسين جودة الحياة»، حيث يطمح فريري إلى أن يكون التعليم مرتبطًا للحصول على جودة أفضل للحياة. ومما وعاه من تجاربه الخاصة، فلا يمكن مواجهة الأوضاع المادية المتردية في المدارس وفى البلاد دون مواجهة السياسات التعليمية. إلا أنه يؤكد أن ذلك لن يكون من خلال فرض مفهوم محدد عن التعليم من أجل الجميع. بل بالنسبة إليه، ما ينبغي أن يتم فرضه سياسيًا وأخلاقيًا هو فكرة أن التعليم للجميع في أنحاء العالم لأنه حق إنساني. فالقيمة الأساسية في «التعليم للجميع» هي أنه حق والتزام على أولئك المسئولين عن التعليم. وهو يؤمن أن ذلك ليس مسألة تخص الحكومة وحدها، بل الشعب كذلك. (1)

2. رؤيته للتعليم كحق من حقوق الإنسان:

كان لدى فريري رؤية خاصة للتعليم كحق من حقوق الإنسان والتي يمكن تجميعها من خلال ممارساته وكتبه المتنوعة. فقد آمنَ بـ«عدم حياد التعليم». وذلك لأن أثناء عملية التعلم، فإن الشخص يصنع خيارات دائمًا تجاه شيء ضد شيء آخر (2). بل إنَّه يؤكد أن تجاهل «التحيز» في عملية تحويل التاريخ والعالم لهو فعل ساذج ومستحيل. (3)

كذلك، دعا إلى ما يُعرَفُ بـ«التعليم الشعبي»، وهو أحد أشكال التعليم يعود إلى الشعب، ظهر في أمريكا اللاتينية بفضل فريري. ويهدف ذاك النوع من التعليم إلى تطوير قدرات الشعب على التغيير الاجتماعي من خلال أسلوب «حل المشكلة بشكل جماعي»، والذي يسلّط الضوء على المشاركة والتحليل النقدي للمشكلات الاجتماعية.

ومن سمات هذا التعليم الشعبي فكرة أن الجميع يتعلم ويُعلِّم، ومن ثَمَّ فالقيادة لابد وأن تكون تشاركية بين الكثيرين. كما أنه يبدأ بمخاوف الأشخاص وتجاربهم ويُعوِّل عليها. بالإضافة إلى ذلك يؤكد صلة المحلي بالعالمي، والتصرفات الجماعية للتغيير. وهذا يعني أنه يبدأ بتجربة الشعب، ثم يبادر المجتمع لتحديد المشكلة، ثم يعكسون تأثيرهم على المشكلة ويحللونها، ثم يوسعونها من المحلي إلى العالمي لصنع نظرية، ثم يخطط المشاركون فيها لتصرفات بغية التغيير. (4)

آمن باولو فريري أن الحق في التعليم هو مشروع للحرية وحق سياسي بسبب إعطائه للطلبة الحق في ظروف تعكس أنفسهم، وتتيح لهم العيش بالشكل الذي يحبونه، وكذلك يمنحهم الوسيلة ليكونوا فاعلين نقديين. وقد سعى فريري إلى تأكيد أن التربية ليست تلقينًا سياسيًا وإنما هي ممارسة سياسية وأخلاقية توفر لهم المعرفة والوسيلة ليصبحوا مواطنين ناقدين يسهمون في خلق ديمقراطية راسخة من خلال مشاركتهم في المجتمع.

ولأجل ذلك، رفض أنظمة التعليم المصممة على أساس طلبات السوق، أو تلك التي تدعم أشكالًا اقتصادية تختصر الحرية في الاستهلاك والربح. ولقد قام فرير بتحدِّي «فصل الثقافة عن السياسة» من خلال دعوته إلى ضرورة عمل كل تكنولوجيات السياسة المتنوعة بشكلٍ تربوي في المؤسسات، لإنتاج وتنظيم وتشريع أشكال المعرفة والانتماء.

والسياسة بالنسبة إليه أكثر من مجرد سياسة الاعتراف
والتمثيل، بل هي خلق الشروط التي تتيح للأفراد أن يحكموا ويحشدوا الحركات
الاجتماعية ضد الممارسات الاضطهادية الاقتصادية والعرقية التي خلقها الاستعمار
والرأسمالية العالمية وغيرها من هياكل السلطة القاهرة. (5)

واتساقًا مع مسألة التعليم وكونه حقًا سياسيًا، فقد تم استخلاص هذا المفهوم من كتب باولو فريري اللاحقة على «تعليم المقهورين»، وهو «التوعية» أو Conscientization، وهو عملية جعل الآخرين واعين بالظروف السياسية والاجتماعية، مع تحدي عدم المساواة سواء في المعاملة أو في الفرص (6).

فالتوعية هي عملية تطوير وعي نقدي لواقع الشخص ومحاولة
تغييره من خلال الفعل ورد الفعل. وإن التعليم بالنسبة إليه لهو العملية النقدية،
من خلالها يستطيع الإنسان معرفة المشكلات والاحتياجات الفعلية للقضاء على الخرافات
الاجتماعية التي تهمين عليه. (7)

وما يجعل «التوعية» مختلفة عن النظريات المتشابهة يكمن
في جعله منهاجية مترابطة من الفعل الاجتماعي الذي يمكن أن يفهمه ويمارسه المضطهدون
أنفسهم. وفى جوهر هذا المفهوم (التوعية) تكمن أهمية تعلم القراءة والكتابة
باعتبارها تساعد على تدعيم الوعي السياسي. (8)

ولم تكن أعمال وأفكار فريري قاصرة فحسب على التعليم المدرسي أو ما قبل الجامعي، بل امتدت لتشمل تعليم الكبار، ومحو الأمية. وذلك بتقديمه وسيلة ومنهجًا يتيح كلًا من تعليم الكبار ومحو الأمية باستخدام عناصر الحياة اليومية، التي تتمشَّى مع ظروفهم الحياتية وكذلك مراحل أعمالهم المتقدمة. وفى ذلك، لعب فريري دورًا في محاولات القضاء على الأمية في البرازيل، وفي أمريكا اللاتينية، وكذلك في العالم بأسره. (9)

تأثير باولو فريري مستوى الفكر والواقع

1. على المستوى الفكري:

يمكن تأكيد
نفوذ باولو فريري على المنظرين من خلال عدد الدراسات والأطروحات العلمية التي
تعتمد على منهجياته ونظرياته، مثل «إنريك ريفيري» (عالم النفس السويسري)، بالإضافة
إلى أنه تمت مقارنته بالمعلم البولندي «كوركزاك» -والذي عاش خلال الفترة 1878-1942
والذي قضى نحبه مع مائتين من طلبته في غرفة غاز نازية-. أو بينه وبين مفكرين تربويين
مشهورين آخرين كما «إدوارد كلاباريد» و«كارل روجرس» -والذي يعودُ إليه نموذج (التعليم
الذي يركز على الطالب).

وكتابه «تعليم المقهورين» أثّر على الكثير من الأنظمة التعليمية في العالم وبالأخص مسألة «التعليم هو ممارسة للحرية». ومنظوره في الستينيات من القرن العشرين أدى إلى اقترابات Trans-disciplinary والتي نالت اعترافًا أكبر في العصر الحديث. (10)

بل استطاع أيضًا
أن يؤكد بصمته في علم التعليم الواسع في جميع أنحاء العالم. فبعض المفكرين أمثال «جيري
ألدريدج» أو «مايكل أبل» -وهو مُنظِّر تعليمي شهير يعمل في جامعة ويسكونسكون
ماديسون يركز على العلاقة بين الثقافة والقوة في التعليم- تأثروا بالتربية النقدية
والتدريس التحويلي، والعدالة الاجتماعية، وسعى كل منهم -في مجاله التربوي
والتدريسي- للتأكيد على أهمية التعليم غير التقليدي، الذي يهتم بكبار السن كذلك. (11)

إن إسهام باولو فرير في التربية النقدية يعتبر محوريًا في الحركة العالمية للتعليم. كما أن معلمي حقوق الإنسان عادةً ما يشيرون إلى هذا المفهوم كإطار منهجي. والرسالة الثورية في فلسفة فريري التعليمية لا تخدم حقوق الإنسان بتأكيدها على حق التعليم (سواء للصغار أو للكبار) فحسب، وإنما تخدمها من خلال توفير إطار جديد يتم من خلاله تجديد «تعليم حقوق الإنسان».

فوفقًا لبعض المفكرين، فإن تعليم حقوق الإنسان أيضًا ينبغي أن يوجد أولًا في وعي وضمير الأفراد الذين تُنتهك حقوقهم منذ زمنٍ بعيدٍ، حتى يكونوا فاعلين نشطين في تغيير واقعهم. فلو أن تعليم حقوق الإنسان هو نتيجة للتحول الاجتماعي القيِّم، فمن الضروري معرفة أن التعليم نفسه ينبغي أن يكون -كما أكَّد باولو فريري- ممارسة للحرية. فكلما كان معلمو حقوق الإنسان سعداء بنشر المعرفة لحقوق الإنسان وأدواتها دون خلق مساحة لأي فعل تحويلي في المجتمع، فإن تعليم حقوق الإنسان سيبقى تلقينيًا وبلا قيمة لتحرير هؤلاء الأفراد. (12)

2. على مستوى الواقع:

إن أعمال باولو
فريري الفلسفية تجد أصولها في الحركة التحريرية اللاتينية. كما أن عمله مع الفقراء
في البرازيل دفعه لتطوير مُثُل وممارسات تعليمية مُبتكرة لخدمة تحسين حياة هؤلاء
الأفراد المهمشين. وساعده على ذلك عمله كموظف حكومي يقابل مجموعات من الفلاحين
ويناقشهم ويُطبِّق عليهم «التعليم الشعبي» و«تعلم القراءة والكتابة للبالغين». بل
إنه خلال منفاه بعد انقلاب 1964، عمد إلى اختراع إصلاحات للتعليم، وأنشأ التعليم
الشعبي في بلدان متعددة كـ غينيا بيساو في الفترة 1975-1978. (13)

وعالميًا، فإنَّ برنامج (MOVA-Brazil 14) نَشَرَ ووسَّع أعمال فريري في جميع أنحاء البرازيل وأوصله إلى الدول المجاورة. كما أن أساليبه ونظرياته التربوية (التربية النقدية) ذهبت إلى ما هو أبعد من البرازيل وأمريكا اللاتينية، كنوع من الثورة من أجل تعليم البالغين. وتأثيره على حملات القضاء على الأمية يمكن التدليل عليها بالنظر إلى المبادرات والمواثيق والبرامج المتعددة.

فإسهاماته في تعليم البالغين قد تم التشديد عليها في التقرير العالمي لتعلم وتعليم البالغين الذي أخرجته اليونسكو عام 2009. بل إن هذا المؤتمر قد استخدم إسهامات فريري كمصدر إلهامٍ لوثيقته، التي تعتبر الأهم على الإطلاق في مجال تعليم البالغين.

وعلى مستوى عام، فإن باولو فريري هو مُؤسِّس النموذج النظري للتربية النقدية التي أثرت على التدريب التعليمي للمعلمين خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك في العديد من دول العالم الصناعية المتطورة.

وإن حركات
التعليم الشعبي في أمريكا اللاتينية وفى أفريقيا وفى آسيا تُدين بالكثير للأسس
النظرية والمنهاجية و«أمثلة التمرين» من أعمال باولو فريري. فبعد أزمة
النيوليبرالية وفشل النماذج المختلفة للتعديلات الهيكلية -التي بادرت بها المؤسسات
الاقتصادية الدولية صوب العالم الثالث- وبسبب الأوضاع المالية الدولية، فإن نماذج
التعليم الشعبي اكتسبت قوة متجددة لمواجهة أزمة الرأسمالية واستخدمتها الحركات
الاجتماعية بأساليب جديدة. (15)

الخاتمة

لقد استطاع
باولو فريري أن يُقيم ثورةً حقيقية في حقل التعليم، وترسيخه كحق من حقوق الإنسان. وبدا
هذا واضحاً في المحافل الدولية والمواثيق المُشدِّدة على أهمية التعليم (خاصة
تعليم البالغين). فالفلسفة التي قدَّمها في كتابه «تعليم المقهورين» وغيرها من
أعماله أعطَتْ منظورًا نقديًا للتعليم، يرفض كونه مجرد تلقين، بل هو وسيلة لتحرير
المرء من قيود القهر.

ويعتبر باولو فريري من أوائل من نظرَ إلى التعليم من منظور سياسي. ولأنَّها كانت فلسفة مُغامِرة تشجع على الابتكار والإبداع، فإنَّها وصلت إلى كل أنحاء البرازيل بل وجميع أنحاء العالم. وذلك على الرغم من أنَّه صاغها خلال فترة المنفى. والحق أنه لولا هذا النفي واستغراق فريري في تعليم الصغار والكبار في الدول التي انتقل إليها مغصوبًا، ما استطاع أن يبلور هذه النظرية المهمة.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.


المراجع



  1. Paulo Freire, “The Purpose of Education”, UNESCO Institute for Education, UIE reports no. 6, 1992, pp. 1-3.
  2. David Macharia, Paulo Freire: Handbook for Community Youth Workers, (Durban: Umtapo Centre), 2005, pp. 11-13.
  3. Paulo Freire, Pedagogy of the Oppressed”, Myra Bergman Ramos (trans.), (New York: The Continuum International Publishing Group), 2005, p. 50.
  4. David Macharia, Op. Cit., pp. 11-13.
  5. Henry A. Giroux, “Rethinking Education as the Practice of Freedom: Paulo Freire and the Promise of Critical Pedagogy”, Policy Futures in Education, Vol. 8, no. 6, 2010, accessed on April 4th, 2019, pp.715-720, pp.715-720.
  6. Oxford Living Dictionaries, “conscientization”, accessed on April 4th, 2019.
  7. Oxford Living Dictionaries, “Concepts Used By Paulo Freire”, Freire Institute, accessed on April 5th, 2019.
  8. David Macharia, Op. Cit., pp. 11-13.
  9. مارك مجدي، “باولو فريري: معلم وثائر”، الحوار المتمدن، العدد 5219، 10 يوليو 2016، تم الوصول إليه ففي 5 إبريل 2019.
  10. Moacir Gadotti, Carlos Alberto Torres, “Paulo Freire: Education for Development”, Development and Change, vol. 40, no. 6, pp. 1255-1267, 2009, pp. 1264-1266.
  11. James D. Kirylo, “The Influence of Freire on Scholars: A select list”, Counterpoints, vol. 385, 2011, pp. 235-269, pp. 235-236.
  12. Kathleen Modrowski, “A Brief History of Human Rights Consciousness: Paulo Freire and Popular Education in the 20th century”, in Upendra Baxi and Kenny Mann, Human Rights Learning: A people’s Report, People’s Movement for Human Rights Learning, 2006, pp. 65-68.
  13. Ramon Spaaj, Sarah Oxford and Ruth Jeanes, “Transforming communities through sport? Critical pedagogy and sport for development”, Sport, Education and Society, vol. 21, no. 4, 2016, pp. 571, 572.
  14. برنامج “MOVA-Brazil”: هو برنامج لتعليم القراءة والكتابة والذي بدأ واستمر بعد وقت وجود فريري كوزير للتعليم في محافظة ساو باولو.
  15. Moacir Gadotti, Carlos Alberto Torres, Op. Cit., pp. 1264-1266.